حينما اندلعت الأزمة السودانية في منتصف أبريل الماضي، لم تتوان السلطات المصرية عن تقديم جميع وسائل الدعم اللازمة لحلحلة هذه الأزمة التي ستؤثر بلا شك على القارة السمراء التي يعد أمنها واستقرارها أحد مرتكزات الأمن القومي المصري، ولذلك تعددت جهود القاهرة بقيادة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي حرص على توجيه جهود الدولة ومؤسساتها المعنية بحل الأزمة، عبر الاتصالات المصرية مع طرفي النزاع من جهة، والمباحثات مع دول إفريقية وعربية وغربية معنية بحل الأزمة السودانية من جهة أخرى، وصولًا إلى مساندة الشعب السوداني وتقديم جميع المساعدات الإنسانية التي يحتاجها.
ومن أجل وقف الحرب في السودان، تواصل الدولة المصرية جهودها واستراتيجيتها الرامية إلى التوصل لحل سياسي ينهي هذه الأزمة بشكل عاجل ويضع حدًا للمواجهات العنيفة التي تشهدها الدولة الجارة لمصر، بما يضمن استقرار ووحدة الأراضي السودانية، وعدم الانزلاق في نفق "الحرب الأهلية" والتدخلات الخارجية.
تحركات مصرية:
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن الدولة المصرية تعاملت مع الأزمة السودانية منذ اندلاعها من خلال عدة مسارات، يمكن إيضاحها على النحو التالي:
(*) فتح ممرات آمنة لإجلاء الرعايا من السودان: فور اندلاع الأزمة في الأراضي السودانية، كانت مصر حريصة على تكثيف تحركات مؤسساتها، وخاصة وزارات الداخلية والخارجية والهجرة والنقل والسفارة المصرية والقنصليات بالسودان، والقوات المسلحة المصرية، من أجل تأمين عملية إجلاء الرعايا المصريين ورعايا دول أخرى مثل (ألمانيا، السعودية، فرنسا، اليابان، أمريكا، الصين، وغيرهم)، بجانب إجلائها لموظفي هيئات ومنظمات دولية، ويرجع ذلك للموقع الجغرافي المشترك الذي يجمع البلدين.
وكشفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أكثر من 70 ألف شخص خرجوا من السودان إلى مصر عبر معبري "أرقين وقسطل" (إجلاء بري) خلال الفترة من (15 أبريل حتى 7 مايو 2023)، وفي 26 أبريل الماضي، كشفت وزيرة الهجرة المصرية "سها الجندي" عن أنه فور اندلاع الصراع في السودان، تم تشكيل "خلية أزمة" بين مختلف المؤسسات المصرية بالداخل والخارج، خاصة بتأمين عملية إجلاء الرعايا والمواطنين المصريين من السودان سواء برًا عن طريق الحافلات البرية أو على متن طائرات عسكرية.
(*) تسهيل دخول المساعدات الإنسانية للشعب السوداني: دشنت الدولة المصرية، ممرات آمنة توفر المساعدات الغذائية والصحية اللازمة للنازحين، فضلًا عن تأمينها لقوافل المساعدات الدولية ولموظفي الإغاثة الدولية، من أبرزها، في 16 مايو الماضي، أرسلت القاهرة طائرتي نقل عسكريتين إلى مطار بورتسودان محملتين بأطنان من الشحنات الطبية مقدمة من وزارة الصحة المصرية، وفي 17 يونيو الماضي، أرسلت مصر سفينة تابعة للقوات البحرية المصرية وصلت إلى ميناء بورتسودان، محملة بمئات الأطنان من المساعدات الإغاثية للمناطق المنكوبة بالسودان، من مواد غذائية ومستلزمات طبية، وهذه المساعدات مقدمة من وزارتي (الدفاع والتضامن الاجتماعي) بجانب جمعية الهلال الأحمر المصرية وبيت الزكاة والصدقات المصري.
(*) فتح الباب لاستقبال السودانيين: لم تتأخر الدولة المصرية عن استضافة مئات الآلاف من النازحين السودانيين على أراضيها، حيث أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الأنجولي جواو لورينسو في العاصمة لواندا في 7 يونيو الماضي، أن "مصر استقبلت منذ اندلاع الأزمة بالسودان، نحو 200 ألف سوداني على أراضيها"، وهو ما أكده المتحدث باسم الخارجية المصرية "أحمد أبو زيد" في 13 يونيو الماضي، قائلًا في تغريدة على حسابه بموقع "إكس" (تويتر سابقًا)، إن "مصر استقبلت أكثر من 200 ألف مواطن سوداني منذ بدء النزاع، وتستمر في جهودها الرائدة في العمل الإغاثي للأشقاء السودانيين".
وبذلك تعد مصر من أكثر دول الجوار التي استضافت النازحين السودانيين على أراضيهم، ووفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن جنوب السودان استقبلت 10 آلاف لاجئ سوداني، وتشاد ما بين 10 إلى 20 ألف سوداني، وإفريقيا الوسطي 6 آلاف، وإثيوبيا 3500، مشيرة إلى أن مصر حظيت بالنصيب الأكبر من السودانيين، ويرجع ذلك للطريقة التي تتعامل بها القاهرة مع السودانيين على أراضيها، إذ إنها لا تفرق في المعاملة بينهم وبين المواطنين المصريين، ويتمتعون بالحقوق كاملة من العمل والتنقل والإقامة، وهو ما يجعل مصر "الواجهة المفضلة" للسودانيين عن دول الجوار الأخرى القريبة من بلدهم.
(*) مباحثات مصرية مع أطراف الأزمة السودانية: وجّه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ اليوم الأول من اندلاع الأزمة، دعوات إلى طرفي الأزمة لمطالبتهم بضرورة العودة إلى الحوار السياسي والوقف الفوري لإطلاق النار، وبعد يوم واحد من الاشتباكات، أجرى وزير الخارجية سامح شكري في 16 أبريل الماضي مباحثات هاتفية مع نظيره السوداني علي الصادق، أكد خلالها الوزير المصري على استمرار جهود بلاده للدفاع عن وحدة وسلامة السودان وشعبها والتصدي لأي تدخلات خارجية تؤجج من النزاع الجاري، وفي 3 و4 مايو الماضي، أجرى "شكري" مباحثات هاتفية مع نظيره السوداني، ونظرائه من 6 دول (السعودية، العراق، الأردن، الجزائر، كينيا، وجيبوتي) بحث خلالها "تنسيق المواقف والإعداد للاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب حول كل من السودان وسوريا".
من جهة أخرى، وخلال مداخلة هاتفية مع قناة "القاهرة الإخبارية" في 8 مايو الماضي، وجّه رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الشكر للإعلام المصري وللدولة المصرية قيادة وشعبًا، لاهتمامهم بشؤون السودان وشعبها.
إضافة لذلك، أجرى نائب رئيس مجلس السيادة السوداني "مالك عقار" في 18 يونيو الماضي زيارة إلى مصر، وعقد مباحثات مع الرئيس "السيسي"، تناولت تداعيات الأزمة السودانية على دول الجوار وكيفية معالجتها، كما وجّه "عقار" الشكر للدولة المصرية لاستقبالها السودانيين وتقديمها تسهيلات لدخولهم إلى البلاد، وحرصها للحفاظ على أمن واستقرار السودان، ومن جهته، أكد الرئيس "السيسي" أن "مصر ستبذل أقصى الجهد لتحقيق التهدئة وحقن الدماء ودفع مسار الحل السلمي، وتقديم الدعم الكامل للسودان وتماسك دولته، ووحدة وسلامة أراضيه".
(*) مؤتمرات وقمم مصرية لحل الصراع السوداني: لم تقتصر جهود القاهرة على تقديم المساعدات الإنسانية وعلى إجراء مباحثات هاتفية مع أطراف الأزمة، بل اتجهت إلى عقد والمشاركة في قمم ومؤتمرات إقليمية ودولية معنية بحل الأزمة، يأتي من أبرزها، ما يلي:
- اجتماع طارئ بالجامعة العربية: في اليوم الأول لاندلاع الأزمة في السودان، دعت كل من مصر والسعودية في 15 أبريل الماضي، إلى عقد اجتماع طارئ على مستوى المندوبين الدائمين بجامعة الدول العربية لمناقشة القتال الدائر بالسودان، وقد عُقد هذا الاجتماع في 6 مايو الماضي، بمقر الجامعة بالقاهرة، قبل نحو أسبوعين من موعد انعقاد القمة العربية بالسعودية في 19 مايو الماضي، وترأست مصر اجتماعات الجامعة العربية باعتبارها رئيسة الدورة الحالية لمجلسها، وبحث وزراء الخارجية العرب بهذا الاجتماع، مساعيهم لاتخاذ موقف عربي موحد لحل الأزمة السودانية والحفاظ على الهدنة الخاصة بوقف إطلاق النار بين طرفي الأزمة.
- "مؤتمر مانحي السودان": استضافته مدينة جنيف السويسرية في 19 يونيو الماضي برئاسة (مصر والسعودية وقطر وألمانيا والاتحاد الإفريقي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة) وكشف المتحدث باسم الخارجية المصرية "أحمد أبو زيد"، أن "هذا المؤتمر جاء لدعم الاستجابة الإنسانية للسودان بشكل مشترك بين مصر والدول المعنية والمنظمات المعنية بالأزمة السودانية، وذلك في إطار إعلان الأمم المتحدة عن تعهدها بتقديم دعم بقيمة مليار ونصف المليار دولار للاستجابة الإنسانية في السودان والدول المجاورة التي تستضيف لاجئين فارين من الصراع بمؤتمر مانحي السودان.
- "قمة دول جوار السودان": انطلقت أعمالها بالعاصمة المصرية القاهرة في 13 يوليو الماضي، وشارك بها دول جوار السودان (مصر وليبيا وإريتريا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وإثيوبيا وجنوب السودان)؛ وعقدت هذه القمة بدعوة من الرئيس "السيسي"، في إطار الرؤية المصرية الرامية إلى تعزيز التعاون مع دول الجوار، وتنسيق الجهود لحل هذه الأزمة، وشدد البيان الختامي لهذه القمة على ضرورة توفير الحماية اللازمة للشعب وللدولة السودانية ومؤسساتها ومقدراتها، كما نصت على "تشكيل آليه وزارية بشأن الأزمة السودانية على مستوى وزراء خارجية دول الجوار، عقدت اجتماعها الأول في جمهورية تشاد"، وحظيت هذه القمة بترحيب من طرفي الأزمة بالسودان.
- "اجتماعات القوى السياسية السودانية": استضافتها القاهرة يومي 24 و25 يوليو الماضي، وضمت اجتماع المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، واجتماع مجموعة الكتلة الديمقراطية بقوى الحرية والتغيير وقوى التراضي الوطني وقوى الحراك الوطني وتحالف القوى الوطنية، وتطرقت اجتماعاتهم التي جاءت تحت عنوان "حل شامل بشراكة وطنية محقة"، بحث الأزمة الجارية في بلدهم والدعوة لوقف إطلاق النار، وإعادة بناء الدولة الوطنية، ورحّب المجتمعون بالأدوار الإيجابية لدول جوار السودان وعلى رأسها مصر التي لم تتأخر عن استضافة أبناء السودان قبل وبعد الأزمة.
(*) جولات مصرية لدول القارة الإفريقية لحل أزمة السودان: كانت الأزمة السودانية حاضرة على جدول أعمال المسؤولين المصريين في جولاتهم الخارجية خاصة إلى دول القارة الإفريقية، ففي 8 مايو الماضي، أجرى وزير الخارجية المصري "سامح شكري" جولة إلى دولتي تشاد وجنوب السودان، وخلال هذه الجولة حمل "شكري" رسالة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى نظرائه في الدولتين الإفريقيتين، ركزت على تطورات الأزمة السودانية وتنسيق الجهود المشتركة للتوصل لحل لهذه الأزمة، لأن استمرارها يشكل تداعيات خطيرة على دول الجوار السوداني. ومن جهة أخرى، فقد أجرى الرئيس "السيسي" في الفترة من (6-9 يونيو الماضي) جولة إفريقية شملت (أنجولا وزامبيا وموزمبيق)، وفرضت الأزمة السودانية نفسها على أجندة مباحثات الرئيس المصري مع قادة الدول الثلاث، لما لها من مخاطر على الصّعُد كافة، إفريقيًا وعربيًا ودوليًا، وفي ضوء ذلك، فقد أكد "السيسي" على مساعي القاهرة لإيجاد حل سريع لهذه الأزمة والتوصل لهدنة دائمة لوقف إطلاق النار بين طرفي النزاع، بالتعاون مع دول القارة الإفريقية والاتحاد الإفريقي.
(*) طرح مصر للأزمة السودانية في المؤتمرات والقمم الدولية: حرصت القاهرة خلال القمم والمؤتمرات الدولية التي حضرتها منذ اندلاع الأزمة السودانية، على التطرق لهذه الأزمة التي سيؤثر استمرارها بالتأكيد على مختلف بلدان العالم، يأتي من أبرزها، القمة الروسية الإفريقية التي عقدت بمدينة سان بطرسبرج يومي 27 و28 من يوليو الماضي؛ تحت شعار "من أجل السلام والأمن والتنمية"، حيث عقد على هامش القمة، مباحثات بين الرئيس "السيسي" ونظيره الروسي "فلاديمير بوتين"، تناولت عددًا من القضايا الإقليمية والدولية، واتفق الطرفان على تعزيز التعاون المشترك لتسوية مشكلات وأزمات المنطقة، وخاصة الأوضاع في السودان وسوريا وليبيا سياسيًا وترسيخ دعائم الأمن والاستقرار.
(*) اتصالات مصرية مع قوى إقليمية ودولية بشأن الخرطوم: بعد ساعات قليلة من اندلاع الاشتباكات في السودان، أجرى واستقبل الرئيس المصري اتصالات مع عدد من المسؤولين إقليمًا ودوليًا، وهو ما يعكس إيمان تلك الدول بأهمية الدور المصري في حل الأزمة السودانية، ومن أبرزها، اتصال من الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيرش" في 15 أبريل الماضي، إذ ناقش المسؤول الأممي مع الرئيس "السيسي" مستجدات الأوضاع بالخرطوم، وأكد "جوتيريش" حرصه على التواصل مع القيادة المصرية لدورها الفاعل في حفظ الأمن والاستقرار بالمنطقة، ودعا طرفي الأزمة لوقف الأعمال العدائية، وفي اليوم التالي، تلقى الرئيس المصري اتصالًا من رئيس جنوب السودان "سلفا كير" وأكدا على استعدادهما للوساطة لتعزيز الأمن والاستقرار وإكمال مسار الانتقال السياسي بالبلد الإفريقي.
وفي 20 أبريل الماضي، أجرى الرئيس المصري مباحثات هاتفية مع نظيره الإماراتي "محمد بن زايد" تناولت استعداد الطرفين للتعاون المشترك لتهدئة الأوضاع في السودان، ووقف التصعيد والعودة للحوار واستعادة المسار السياسي. وفي أواخر أبريل الماضي، بحث الرئيس السيسي مع رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا، ضرورة تحقيق وتثبيت وقف إطلاق النار بالسودان، وإضافة لما تقدم، فقد رحّبت مصر بجميع الجهود الإقليمية والدولية الرامية لحل هذه الأزمة، وخاصة "مباحثات جدة" بقيادة السعودية وأمريكا.
ردود الفعل:
في ضوء الجهود المصرية سالفة الذكر، يمكن القول إن الدور الذي لعبته القاهرة ولا تزال تقوم به من أجل حل هذه الأزمة، حظي بترحيب كبير على الأصعدة كافة، فمن جهة، فإن السودان قيادة وشعبًا أعرب عن تقديره للدور المصري في حل الأزمة، واستجابتها بشكل عاجل وفوري لنداءات السودانيين بالمناطق المنكوبة ومساعدتهم إما على الخروج من البلاد أو بتقديم المساعدات الغذائية والصحية اللازمة لإعانتهم على الحياة في ظل هذه الظروف القاسية.
وعلى الصعيد الدولي، قدم وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" أواخر أبريل الماضي، الشكر للدولة المصرية، جراء الدور الذي لعبته في استقبال عشرات الآلاف من السودانيين عبر الحدود، وأعلن "بلينكن" وقتها، بأن واشنطن مستعدة لدعم مصر لتسهيل عملية الإجلاء.
من جانبه، وجّه رئيس الوزراء الياباني في 30 أبريل الماضي، الشكر للدولة المصرية لدورها في إجلاء الرعايا اليابانيين من السودان. كما أشاد مدير مكتب المنسق الإقليمي للأمم المتحدة في مصر "ماكس شوت"، بما توفره السلطات المصرية من مساعدات غذائية وصحية للفارين من السودان، هذا بالإضافة إلى إشادة رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي "كريستيان بيرجر" بدور القاهرة في مساعدة المواطنين الأوروبيين على الخروج من الأراضي السودانية.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الدولة المصرية تحت قيادة الرئيس "عبد الفتاح السيسي" ستواصل جهودها من أجل احتواء الأوضاع في السودان، والتعاون مع مختلف الأطراف السودانية والإفريقية والعربية والدولية، للتوصل لتسوية سياسية للأزمة السودانية التي مرَّ عليها أكثر من أربعة أشهر، وينبع هذا من حرص القيادة المصرية على استقرار ووحدة الأراضي السودانية والتصدي لأي محاولات خارجية للتدخل بهذه الأزمة وتعقيد حلها.