في ضربة استباقية واسعة النطاق، استأنفت إسرائيل عملياتها على إيران بعمليات استخباراتية وضربات جوية مركزة استهدفت شل مراكز القيادة والسيطرة الإيرانية وقدرات الدفاع الجوي والأصول والقدرات العسكرية الهجومية، إلى جانب ضرب منشآت البرنامج النووي الإيراني في نطنز وأصفهان.
وعلى الرغم من انشغالها بحرب مطولة منخفضة الشدة على عدة جبهات، وظّفت إسرائيل أصولها الاستخباراتية والتكنولوجية لبناء بنك أهداف ضخم في الأراضي الإيرانية، فضلًا عن رصد تحركات كبار قادة القوات المسلحة الإيرانية إلى جانب كبار العملاء والشخصيات البارزة في الصناعة النووية الإيرانية على غرار العمليات السابقة التي استهدفت عددًا من العملاء، كان أرفعهم محسن فخري زادة في 2020.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي قراءة أولية للهجوم الإسرائيلي واحتمالات تطور المواجهات في ضوء أهداف القيادة الإسرائيلية وحدود الاستجابة الإيرانية.
خطوط التصعيد
صممت القيادة الإسرائيلية تلك المواجهة من التصعيد "الأسد الصاعد" بناءً على معطيات متعددة؛ أولها الضوء الأخضر القانوني والدولي متمثلًا في قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية -والمدعوم من الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)- إدانة إيران بعدم الامتثال لمعاهدة عدم الانتشار النووي لتبرر عملياتها "الاستباقية" ضد البرنامج النووي الإيراني، وثانيها المبادرة والصدمة من خلال استنساخ نموذج الحرب مع حزب الله لاستهداف الهيكل القيادي وحرمان العدو من القدرة على استعادة توازنه سريعًا، وثالثها أن الهجوم -وإن جاء على وقع أزمات الائتلاف الحكومي في الداخل-إلا أنه يتسق مع الاستراتيجية الإقليمية المتمثلة في تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط وتقليم أظافر الجمهورية الإيرانية ودفعها للانهيار من الداخل.
ومن هذه المنطلقات تبدو إسرائيل أكثر تكيفًا مع صراع متدرج ومتعدد المراحل مع إيران بتحييد التهديدات العاجلة التي فرضت المواجهة عليها في نطاق فلسطين التاريخية وجوارها المباشر، قبل تفكيك مقدرات القوة الإيرانية ممثلة في قدراتها العسكرية والنووية، وصولًا لاستنزاف القدرات الاقتصادية الإيرانية وإعادة فرض العزلة الدولية على نظامها السياسي، فضلًا عن استنزاف مؤسساته المدنية وتقليص تأثيره على الرأي العام الإيراني عبر ضرب مؤسساته الإعلامية الرئيسية.
على الجانب الآخر يبدو أن اعتماد طهران على نمط الحروب بالوكالة مع إسرائيل لاستنزافها وإبعاد التهديدات عن أراضيها جانَبَه حُسن تقدير القيادة الإيرانية لعوامل الدعم الدولي والأمريكي المتواصل لتل أبيب ومستويات ثقة دول الجوار والمجتمع الدولي، فضلًا عن نجاح العدو في امتلاك زمام المبادرة في إدارة الصراع وتغيير نمط العمليات العسكرية عبر دمج تكتيكات الحرب غير المتماثلة مقابل الجمود النسبي للتكتيك العسكري الإيراني الذي يظل مكبلًا بالتفوق الجوي الإسرائيلي، وبُعد المسافة عن الأراضي الإسرائيلية، خاصة مع خسارة أهم أصولها الاستراتيجية في المواجهة المباشرة وهو "حزب الله"، الذي مثل الذراع الطولى لإيران في كشف العديد من المواقع الحيوية في الداخل الإسرائيلي من خلال عملياته الاستطلاعية التي نفذتها مسيرات "الهدهد".
وفي سياق متصل، تعززت أهمية العنصر البشري في العمليات الاستخباراتية على صعيد جمع المعلومات عن المواقع العسكرية الحيوية والقيادات السياسية والعسكرية والوقوف على تطور البنية النووية لكلا البلدين، وهو ما يبرز على الجانب الإسرائيلي في إنجاح عملية "الأسد الصاعد"؛ حيث تمكّن الموساد من تخزين مسيّرات مفخخة وأسلحة دقيقة في مواقع قرب العاصمة الإيرانية لاستهداف صواريخ أرض-أرض الموجهة لإسرائيل في ساعات الفجر الأولى قبل انطلاق الهجوم وقصف منشآت الدفاع الجوي في وسط وغرب إيران.
محددات التصعيد
بعد مرور 5 أيام على اندلاع المواجهات بين الجانبين لا يزال الجانب الإسرائيلي يملك تفوقًا في التكتيكات واستغلال الثغرات الأمنية في الداخل الإيراني، رغم ما تتكبده جبهته الداخلية من خسائر اقتصادية ومادية وأخرى عسكرية وأمنية يحيطها تكتم شديد، وهو ما يعزز تمسك حكومة نتنياهو بالذهاب لتصعيد المواجهة من أجل إسقاط النظام وتدمير البنى التحتية النووية والعسكرية.
(*) الثغرات الأمنية: لا تزال السلطات الإيرانية تعلن القبض على عشرات الأشخاص المتهمين بالعمل مع الموساد الإسرائيلي في تهريب الأسلحة وجمع وتصنيع المسيرات المستخدمة في الهجوم على الأهداف عالية القيمة، إلى جانب اتهامها بعض المجموعات التخريبية بإشعال الإطارات في شوارع العاصمة الإيرانية.
ويبدو على الأرجح أن الموساد الإسرائيلي يمتلك شبكات مدعومة من فصائل ومجموعات من المعارضة الإيرانية على اختلاف انتماءاتها تمنح غطاءً لبعض تلك التحركات ويعطيه ذلك حرية الحركة في الداخل الإيراني على مدار أشهر من الإعداد للهجمات بالمسيّرات والعمليات التخريبية.
(*) الدعم العسكري الأمريكي: رغم العمليات المتعددة للموساد الإسرائيلي خلال السنوات الماضية في الأراضي الإيرانية، إلا أن حجم الاختراق والاستهداف الدقيق لمواقع العناصر القيادية في المؤسسات العسكرية للمنشآت الحيوية في أنحاء الجغرافيا الإيرانية من مناطق الوسط والغرب وصولًا إلى مشهد في أقصى شرق البلاد، يشي بدرجة عالية من التنسيق وتبادل المعلومات الاستخبارية بين إسرائيل وحلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.
وعلى الرغم من تبادل الرسائل بين إيران والولايات المتحدة والترويكا الأوروبية (فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا) وحديث الرئيس الأمريكي عن إرسال نائبه جي دي فانس أو مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف للقاء المسؤولين الإيرانيين، إلا أن حرص ترامب على "دبلوماسية القوة" لفرض شروطه على إيران في ظل عدم تحجيم أو إيقاف التحرك العسكري الإسرائيلي يظهر إمكانية انضمام واشنطن لعمليات القصف جنبًا إلى جنب من إسرائيل في حال عدم قبول إيران بأي اتفاق جديد يكون مطروحًا على الطاولة بشروط أكبر من مقترح ويتكوف على صعيد تفكيك البرنامج النووي وتضمين البرنامج الصاروخي في الاتفاق.
وقد يرجح هذا الاحتمال الدفع الإسرائيلي المستمر لمشاركة الولايات المتحدة في استهداف المواقع النووية المحصنة في أعماق الجبال على غرار منشأة فوردو، مع الترويج لتحييد خطر استهداف القواعد الأمريكية في المنطقة وإغراء الإدارة الأمريكية بالمشاركة في تقويض فرص إيران للحصول على السلاح النووي باعتباره أحد تعهدات الرئيس دونالد ترامب في السياسة الخارجية، ولكونه لا يتعارض مع رغبة جمهور "ماجا" في إنهاء عصر الحروب الأبدية في الشرق الأوسط وذلك وفق الرؤية الإسرائيلية التي تروّج بأن المهمة ضد إيران ومحورها قد شارفت على الانتهاء.
(*) جبهات الإسناد: يمر المحور الموالي لإيران بأضعف مراحله على الإطلاق مع انكفاء مستشاري الحرس الثوري واستمرار الضربات التي تستهدف قيادات واستخبارات الحرس في الداخل الإيراني، فضلًا عن الضغوط التي تتعرض لها تلك الفصائل سياسيًا في العراق ولبنان وعسكريًا باستمرار القصف الإسرائيلي خاصة على لبنان واستراتيجيًا بفقدان خط الإمداد البري الرئيسي عبر الأراضي السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد، فضلًا عن الحشد العسكري الأمريكي المتزايد في المنطقة الذي سيتولى القسم الأكبر من مواجهتها دفاعيًا وهجوميًا.
وعلى الجانب الآخر يتوقف تفعيل بعض تلك الجبهات على قدرة إيران على استعادة توازنها القيادي ممثلًا في الحرس الثوري وفيلق القدس من أجل قيادة وتوجيه العمليات لتنسيق جهود الهجوم على أكبر قدر ممكن من المنشآت الحيوية والعسكرية الإسرائيلية.
(*) العمليات النوعية الإيرانية: بالتوازي مع التغلب على نقاط الضعف والانكشاف في الداخل التي تستهدف الهيكل القيادي "الثوري"، تظل القدرات العسكرية الإيرانية على إلحاق الضرر بالأصول العسكرية الهجومية وسلاسل الإمداد الحيوية للجانب الإسرائيلي هي العنصر الحاسم في أي تغيير محتمل لمسار المعارك، خاصة إذا ما اقترنت بخطة استراتيجية متكاملة. وعلى الجانب الآخر فإن التوجه لتعطيل الملاحة الدولية في مضيقي هرمز وباب المندب عبر قصف السفن أو زراعة الألغام البحرية قد تمثل ذريعة لبناء تحالف دولي لحماية حرية الملاحة والانضمام لحملة قصف القدرات الهجومية الإيرانية.
وإجمالًا؛ تمر الحرب الإسرائيلية الإيرانية بمنعطف بالغ الخطورة يعصف بحالة الأمن الإقليمي بالغة الهشاشة نتيجة اتساع نطاق العدوان الإسرائيلي من غزة إلى طهران. ويحافظ الجانب الإسرائيلي على تفوق تكتيكي نتيجة انكشاف الداخل الإيراني أمام عمليات القصف والتخريب واستمرار الدعم العسكري الأمريكي غير المحدود مع الانخفاض التدريجي في موجات وعدد الصواريخ التي تطلقها طهران يوميًا، فضلًا عن التحكم بمجريات ومراحل التصعيد مع قصف التلفزيون الإيراني والتلويح باغتيال المرشد. بينما تفرض المعادلة الدولية على الجانب الإيراني الانخراط في صيغة مواجهة دفاعية في إطار الحفاظ على مبدأ التناسب والوقوف في موقع رد الفعل للهجمات الإسرائيلية، وذلك في ظل غياب طرف دولي داعم لها يوازن الدعم الأمريكي لإسرائيل وهو ما يظهر في عرض روسيا للوساطة بين الطرفين.