مع بزوغ ثورة الذكاء الاصطناعي واكتساب السباق على التكنولوجيا بُعدًا جيوسياسيًا رئيسيًا في التنافس الاستراتيجي الأمريكي-الصيني، وفي مجمل التفاعلات الدولية التي يغلب عليها الطبيعة الصراعية، تعزّزت مكانة شركات التكنولوجيا في مجالات الأمن القومي للقوى الكبرى، وبات توظيف تقنياتها في تعظيم النفوذ السياسي الدولي أو الحفاظ على التفوق التكنولوجي جزءًا مهمًا من نشاطها للحد الذي أصبحت فيه كبرى شركات التكنولوجيا فاعلين جيوسياسيين من دون الدول تتداخل أصولهم ومنتجاتهم ومصالحهم في قرارات السلم والحرب، وهو ما برز بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي أنماط تدخلات شركات التكنولوجيا في صناعة الفضاء والدفاع والاستخبارات الأمريكية ودورها الحرج في معارك المستقبل بالتطبيق على دور إيلون ماسك السياسي وتصاعد نفوذ شركاته.
أنماط الدور
إلى جانب دور المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، برزت في السنوات الأخيرة شركات التكنولوجيا كفاعل مهم ومؤثر في ميدان الحرب الحديثة، وهو ما ازداد أهمية على خلفية اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 وما أحدثته من تحولات في صياغة استراتيجيات الأمن القومي للعديد من الدول الغربية تحديدًا (الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان) ومنها تبنى التقنيات الناشئة وتعزيز الاعتماد على الشراكة مع القطاع الخاص الذي يمتاز بقدرة أفضل على تطوير وتبني تلك التقنيات وميزانيات البحث والتطوير الضخمة التي تتخطى الإنفاق الحكومي الفيدرالي بنحو 4 أضعاف تقريبًا، حسب بيانات المركز الوطني لإحصاءات العلوم والهندسة في الفترة من 1953 إلى 2022.
(*) الاتصالات والاستطلاع: حازت شركات التكنولوجيا على دور مهم في الجانب الاستخباراتي بداية من رصد الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا ومنها دور شركات الصور الفضائية بأقمار (SAR) "Synthetic" Apreture Radar" التي يمكنها التقاط صور دقيقة في مختلف الظروف الجوية بمناطق الضباب والغيوم والقادرة على تصوير نطاقات صغيرة وأماكن مغلقة، مثل مخازن الأسلحة والمعدات والذخائر العسكرية، التي مثّلت أصلًا استندت عليه تحذيرات مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان من احتمالات شن هجوم روسي قبل أيام قليلة من انطلاق الحرب. كما مثّلت أداة رئيسية في تحليل نتائج الضربات الأوكرانية على القواعد الاستراتيجية الروسية.
ويشير الموقع الإلكتروني لشركة تقنية التعرف على الوجه الأمريكية "كليرفيو إيه آي - Clearview AI" إلى دور الشركة عبر الوصول إلى مليارات من الصور بطرق غير مصرح بها في توفير بيانات عن المقاتلين الروس من خلال التعرف على الوجه وإبلاغ أسرهم بمقتلهم في الساحة الأوكرانية في مسعى لتأليب الرأي العام الروسي على القيادتين السياسية والعسكرية وإظهار حصيلة القتلى الحقيقية.
(*) القيادة والسيطرة: انفردت شركة "سبيس إكس" بتغطية الفضاء الأوكراني بخدمة ستارلينك للإنترنت الفضائي بنحو 15 ألف قمر صناعي على مدار منخفض قريب من الأرض، وهو ما سرعان أن استغلته كييف في الاستخدامات العسكرية بما يتجاوز توفير شبكة اتصالات مؤمنة بين المؤسسات السياسية والعسكرية، إلى المساهمة في توفير معلومات دقيقة عن تجمعات القوات الروسية، واستخدمت كذلك في توجيه الهجمات بالطائرات المسيّرة.
وإلى جانب دعمها عدوان جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة، ودورها في أوكرانيا الذي تمثل في تقديم الدعم الاستخباراتي وتوجيه معظم العمليات العسكرية الأوكرانية، حسب تصريحات مديرها التنفيذي أليكس كارب، تسهم شركة "بالانتير" في توفير أنظمة تحليل البيانات الاستخباراتية لمؤسسات الأمن القومي الأمريكية، وعلى رأسها وكالة الأمن القومي ووكالة المخابرات الوطنية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة المخابرات المركزية إلى جانب البنتاجون. ونتيجة لإعلان المذكرة الجديدة للذكاء الاصطناعي والبيانات الإيجابية لمجتمع الأعمال، وبصفة خاصة وادي السيليكون حول تشكيل الإدارة الجديدة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، ارتفعت القيمة السوقية للشركة بقيمة 23 مليار دولار وبقيمة إجمالية تقارب 140 مليار دولار. واختارت الشركة قبل أشهر عضو مجلس النواب عن الحزب الجمهوري ورئيس لجنة الصين مايك جالاجار مسئولًا لملف الدفاع.
وتجتذب "بالانتير" أهمية خاصة نظرًا لكونها، وشركة "سبيس إكس"، من ثمار الموجة الأولى لشركات التكنولوجيا (2002 - 2010) التي تركزت خدماتها على دعم الوكالات الحكومية الأخرى عدا وزارة الدفاع، قبل أن تتحول تدريجيًا لواحدة من أهم الشركات التقنية الدفاعية التي حظيت بالعديد من عقود وزارة الدفاع والوكالات الاستخباراتية، وتمتلك أدوات مثل "Gotham" المعزّزة بالذكاء الاصطناعي لتعزيز القيادة والسيطرة عبر دمج مصادر المعلومات المختلفة وتحليل بيانات المستشعرات ومختلف الأصول العسكرية والاستخباراتية في الوقت الفعلي (real-time) ومساعدة الجنود في تعزيز سلسلة الاستهداف "Kill Chain".
(*) تأمين البنية التحتية الحرجة: استغل عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة الحرب في الترويج لقدراتهم في تأمين البيانات الحكومية الحرجة لضمان استمرار عمل أجهزة ووزارات الحكومة الأوكرانية، حيث قدمت أمازون ويب سيرفيس"AWS" أجهزة سنوبول "Snow Ball" في بولندا لدعم نقل وحماية البيانات الحيوية للحكومة الأوكرانية، بينما قدمت مايكروسوفت خدماتها في توفير الحماية من الهجمات السيبرانية الروسية.
تحولات الدور
تتأهب شركات التقنية الأمريكية لتحولات كبرى داخليًا وخارجيًا، ففي ظل التوجهات الجديدة لتبني تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة الأمن القومي الأمريكي والتوسع في مراكز البيانات اللازمة لتطوير التقنيات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والفضاء، التي تحتاج لقدرات عالية في إنتاج الطاقة تبنت العديد من الشركات وآخرها جوجل خيار بناء مفاعلات نووية.
(&) فاعل جيوسياسي: تحظى شركات التقنية الأمريكية بأهمية جيوسياسية متزايدة ليس فقط من خلال أصولها مزدوجة الاستخدام ودورها في شن الحروب، إنما في تحفيز السياسات الداعمة لعسكرة التكنولوجيا وتوجيه السياسات العالمية بشأن استخدامات الذكاء الاصطناعي بما يضمن انتهاك القيم والقواعد الأخلاقية في تسخير التقنية لخدمة البشرية، والتلاعب بالرأي العام العالمي من خلال أدوار دبلوماسية وأمنية مهمة، مثل تقديم الدعم الإنساني والتعليمي للاجئين الأوكران في بولندا، إلى جانب امتلاك شركة مثل مايكروسوفت جهاز دبلوماسي وآخر أمني حسب دراسة لمركز هنري كيسنجر للشؤون العالمية بجامعة جونز هوبكيز.
كما يعد احتكار شركات تقنية لمجالات أمن قومي بعينها مثل صناعة الفضاء أحد أنماط التوظيف الجيوسياسي لتعزيز نفوذها، على غرار شركة سبيس إكس التي سعت لمواجهة خطط روسيا لحرمان أوكرانيا من الاتصال بالعالم الخارجي من خلال خدمات ستارلينك للإنترنت الفضائي وتدخلت فيما بعد بكيفية استخدام كييف لتلك التقنية بما لا يعرض مصالح وأصول الشركة للاستهداف الروسي في الفضاء الخارجي، ولعل الشاهد الأبرز في هذا الإطار ما كشفت عنه صحيفة "وول ستريت جورنال" من اتصالات منظمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإيلون ماسك، وقد تعززت مكانة "ماسك" بعد فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالرئاسة الأمريكية، حيث كان ماسك حلقة وصل بين الرئيس المنتخب والجانب الإيراني من خلال ما قالت "نيويورك تايمز" أخيرًا إنه لقاء سري جمع رجل الأعمال الأمريكي مع رئيس البعثة الدبلوماسية الإيرانية لدى الأمم المتحدة في نيويورك لتهدئة التوترات مع طهران.
وتعد القوة القاتلة التي تحسم المعادلة لصالح شركات التقنية الدفاعية على باقي عمالقة المجمع الصناعي العسكري هي قوة البيانات الضخمة والقدرة على تصنيفها وتحليلها وتحويلها إلى مورد يمكن استغلاله في ساحة المعركة ليس كبديل للأصول العسكرية والاستخباراتية عالية القيمة وإنما لتطويع كافة تلك الأصول في منصة واحدة تحتوي بيانات مختلف مجالات وميادين المعركة الخمسة (البر والبحر والجو والفضاء الإلكتروني والفضاء الخارجي)
(&) مهدد داخلي: يعيد ذلك الدور تشكيل التوازنات الداخلية في معادلة الأمن القومي الأمريكي، إذ انتقل الثقل تدريجيًا من المجمع الصناعي العسكري بشركاته التقليدية إلى شركات التقنية الكبرى، وتشير دراسة لمعهد واتسون للشؤون العامة والدولية بجامعة براون إلى أن 5 تعاقدات كبرى لوكالات ومؤسسات فيدرالية أمريكية (الجيش ووزارة الدفاع ووكالة المخابرات المركزية ووكالة الأمن القومي) في الفترة من 2019 إلى 2022 ذهبت لصالح 5 شركات وتحالفات تكنولوجية ضمت ميكروسوفت وأمازون وجوجل وأوركل وآي بي إم بما يتجاوز عشرات المليارات من الدولارات.
وعلى الرغم من تفاخر وحدة الابتكار الدفاعي التابعة للبنتاجون والمسئولة عن التعاقدات والمشاريع التي تنفذها الشركات التقنية لصالح الجيش الأمريكي، بأن نحو 33% من المتعاقدين وافدون جدد وشركات ناشئة تتعامل للمرة الأولى مع وزارة الدفاع، إلا أن تحول الاهتمام لشركات الذكاء الاصطناعي لن يخدم الشركات الناشئة التي لا تحظى بدعم عمالقة الصناعة في ضوء محدودية قدراتها على التكيف مع متطلبات البحث والتطوير والاستخدام الكثيف للطاقة مقارنة بالشركات الكبرى ورؤسائها التنفيذيين الطامحين لقيادة السياسة الأمريكية على غرار إيلون ماسك، ففي أكتوبر الماضي أعلن جنسن هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، أن "ماسك" أنشأ مركز بيانات لشركته الناشئة "xAI" بنحو 100 ألف رقاقة معالجة رسوم "GPU" متطورة تنتجها إنفيديا من فئة "H 200" في 19 عشر يومًا فقط، في عملية تستغرق في المعتاد نحو 4 سنوات حسب هوانج.
وإجمالًا؛ يُنذر تضخم نفوذ شركات التكنولوجيا في صناعات الدفاع والاستخبارات والفضاء الأمريكية بتحولات جوهرية في رسم سياسات الأمن القومي الأمريكي وبالتبعية سترتد تأثيراتها على الأمن الدولي، في ظل الصعود الملحوظ لرجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك، وبعدما أقرت إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن في 24 أكتوبر الماضي مذكرة جديدة لتسخير القدرات التجارية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة في ضمان استمرار ريادتها وحرمان الصين وخصوم واشنطن الدوليين من تهديد تلك المكانة.
ويمثل الصعود المستمر لشركات التكنولوجيا في مجالات الأمن القومي الأمريكي نذيرًا بتحول دور تلك الشركات إلى فاعلين جيوسياسيين باعتبارها تمثل جيلًا جديدًا من فئة الشركات متعددة الجنسيات التي تسعى لتعزيز بصماتها في صناعة القرار الدولي وتثبيت مكانتها في نظام عالمي قيد التشكل، فبينما لم يتجاوز الإنفاق الدفاعي العالمي 2.4 تريليون دولار عام 2023، يقدر الإنفاق التكنولوجي العالمي في العام ذاته بنحو 4.6 تريليون دولار، كما تتفوق تلك الشركات أمريكيًا باحتكارها نحو 75% من المخصصات الإجمالية في مجال البحث والتطوير مقارنة بالحكومة ووكالاتها الفيدرالية.