في فجر أمس الجمعة، بدأ الهجوم الإسرائيلي على إيران الذي استهدفت منشآت نووية وعسكرية إيرانية، وهو الأمر الذي يُعد تحوَّلًا خطيرًا في طبيعة الصراع الإقليمي بالشرق الأوسط، ليس فقط على المستوى العسكري، بل على صعيد الآثار الاقتصادية العميقة التي بدأت تتكشف محليًا وإقليميًا وعالميًا.
ففي أعقاب الضربات الجوية الإسرائيلية، والرد الصاروخي الإيراني المباشر، دخلت المنطقة في دوامة تصعيد غير مسبوقة، خلَّفت بالفعل آثارًا على أسواق النفط والطاقة وسلاسل الإمداد وثقة المستثمرين.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على عمق الصراع الإسرائيلي الإيراني، فضلاً عن الآثار الاقتصادية المترتبة عليه، خاصة على منطقة الشرق الأوسط.
عمق الصراع
يُمكن توضيح عمق الصراع الإسرائيلي الإيراني، ومدى خطورته في منطقة الشرق الأوسط من خلال النقاط التالية:
(-) عدد ونوعية السلاح المستخدم: يُعد تقييم العملية العسكرية مؤشرًا قويًا على عمق الصراعات المختلفة، فمن كمية الأسلحة والطائرات التي يتم استخدامها، فضلًا عن نوعها ومستوى تطورها، يتضح عمق الصراع الإيراني الإسرائيلي الحالي.
وفي هذا النطاق، أطلقت إيران أكثر من 150 صاروخًا باليستيًا متوسط المدى، كما شنَّت هجومًا منظمًا يضم أكثر من 100 طائرة بدون طيار هجومية، من أنواع طائرات انتحارية "شاهد 136/131" وهي طائرات بطول 3 أمتار ومدى 2500 كم، و"شاهد 238" وهي درون نفاث عالي السرعة، و"القدس مهاجر" طائرة مُسيّرة بعيدة المدى مجهزة لقصف دقيق، كما تم إطلاق عشرات الصواريخ الكروز.
وعلى الجانب الإسرائيلي، تم استخدام أكثر من 200 طائرة مقاتلة من طراز F-35 وF-15 وF-16، بالإضافة إلى صواريخ جو -أرض متعددة النطاقات، مثل رامبيج، وروكس، وصواريخ جو أرض تكتيكية من إنتاج إسرائيلي، مع استخدام قنابل موجهة دقيقة مثل BLU-109، ذات رأس اختراق؛ لاختراق منشآت عميقة تحت الأرض، ومن هنا يتضح أن الهجوم شمل منظومة عسكرية متكاملة وعالية التقنية .
(-) مدى تضرر العمق الداخلي: أحدث الهجوم الإسرائيلي أضرارًا في العمق الإيراني، ففي المنشآت النووية تم تدمير الهياكل السطحية في محطة نطنز للأبحاث وتخصيب الوقود، فضلًا عن التضرُر الجزئي لمركز التخصيب "فوردو"، وبالإضافة إلى ذلك تدمرت مواقع دفاع الجو الرئيسية (رادارات S300 وS200) في همدان وأصفهان وكرمانشاه، فضلًا عن تدير منشآت إنتاج خلط الوقود الصلب في بارشين وخوجير وأماكن أخرى، وتدمير منشآت تابعة للحرس الثوري، ومخاذن ذخيرة، وقاعدة طائرات في تبريز، وبالإضافة إلى عدة هجمات إسرائيلية على حظيرة المقاتلات الإيرانية بمطار مهر أباد الدولي في العاصمة طهران.
وفي إسرائيل، اخترقت صواريخ فرط الصوت الإيرانية قلب تل أبيب رغم وجود 3 طبقات دفاع إسرائيلية، وأصابت الضربات أحد المستشفيات، وقاعدتين عسكريتين، وأضرار خفيفة في أحد مخازن الذخيرة، فضلًا عن دمار واسع في المباني السكنية، وعلى الرغم أن الدمار في إسرائيل محدود، ولكن الهجوم الإيراني شهد تغيرًا نوعيًا في الدخول إلى العمق الإسرائيلي وإحداث أضرار به.
(-) تكلفة الهجوم: تُقدر تكلفة الصواريخ والطائرات الإيرانية المستخدمة ضد إسرائيل حتى وقت كتابة التحليل بنحو 100 إلى أكثر من 200 مليون دولار، فضلاً عن تقديرات تتراوح من 0.5 إلى 1 مليار دولار؛ لإصلاح وإعادة بناء منشآت إيرانية، وعلى الجانب الإسرائيلي تتضمن تكلفة الدفاعات نحو 1 مليار دولار لكل ليلة، فضلًا عن الخسائر في البنية التحتية، وهو الأمر الذي يوضح حجم الخسائر الكبير في هذه الهجمات.
ومن هنا، يُمكن القول إن العمق الذي تم توضيحه للصراع بين إسرائيل وإيران، يُرجح أن الأزمة الحالية ليست بالعابرة، ولكن سيكون لها آثار اقتصادية كبيرة على العالم بشكل عام، وعلى منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص.
آثار اقتصادية
تتعدد الآثار الاقتصادية السلبية للحرب بين إسرائيل وإيران، بالأخص على منطقة الشرق الأوسط وذلك على النحو التالي:
(-) ارتفاع أسعار النفط: تأثرت أسعار النفط بشكل مباشر بعد الضربات الإسرائيلية على إيران، ففي يوم الجمعة ارتفعت بنسبة 7%، فكما يوضح الشكل (1) ارتفع سعر خام برنت من 68.02 دولار للبرميل في 6 يونيو إلى 74.23 دولار للبرميل في 13 يونيو، أي ارتفع سعر هذا الخام بمفرده بنسبة 9%، وأيضًا ارتفع الخام الأمريكي (WTI) ما بين 7.6% و 14%، حتى استقر عند 72.98 دولار للبرميل.
وهو الأمر الذي ينعكس على أسعار السلع العالمية، التي تقوم دول الشرق الأوسط باستيرادها، وهو ما يترتب عليه عجز أكبر في موازين مدفوعات هذه الدول، كما أن هناك قلقًا من إمدادات النفط عبر مضيق هرمز، إذ يعبر نحو 20 مليون برميل يوميًا عبر هذا المضيقٍ، وهو ما يعرض دول منطقة الشرق الأوسط، خاصة المستوردة للطاقة لضغوط التضخم، مع انتقال جزء من ارتفاع التكاليف إلى أسعار الوقود والمشتقات، التي تعتبر مدخلًا رئيسيًا للعديد من السلعة المنتجة داخلها.
ومن ناحية أخرى، ينعكس ارتفاع أسعار النفط على السياسات النقدية للبنوك المركزية المختلفة داخل الدول، إذ إنه من المُحتمل مع توقعات ارتفاع مستويات التضخم، أن تشدد البنوك المركزية السياسات النقدية، الأمر الذي يتسبب في رفع أسعار الفائدة، ومن ثم التأثير على معدلات الاستثمار وخطط التنمية داخل القطاعات المختلفة.
(-) تضرُر سلاسل التوريد: في ظل تصاعد التطورات في منطقة الشرق الأوسط، حذرت اليونان وبريطانيا السفن التجارية من عبور البحر الأحمر وخليج عدن، كما حذرت شركتان متخصصتان في إدارة المخاطر والأزمات الأمنية السفن التجارية التي تعبر المنطقة من ضرورة اتخاذ احتياطيات إضافية، أو تجنب الإبحار في تلك المياه بشكل كامل، الأمر الذي أربك ممرات التجارة البحرية، وأجبر العديد من السفن على إعادة توجيه رحلاتها أو تأجيلها، وهو الأمر الذي يؤثر على تكلفة أقساط التأمين البحري، وعلى تدفقات السلع المختلفة داخل الدول، بشكل ينعكس على انخفاض المعروض، ومن ثم ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وفي هذا السياق، أضيفت رسوم حرب تمثل 0.05 %إلى 0.07%من قيمة السفينة في منطقة الخليج ومضيق هرمز، وفي البحر الأحمر وعبور قناة السويس، قفزت أقساط حرب النزاع إلى 1- 2% من قيمة السفينة لكل رحلة، فهناك تقديرات أن الزيادات العامة في الأقساط تشكل الآن 0.5% أو أكثر للسفن العابرة وسط التوتر، فمن الناحية العلمية ستضيف هذه الأقساط مئات الآلاف إلى ملايين الدولارات للتكلفة التشغيلية لكل رحلة تجارية.
(-) الضغط على سوق الصرف: تؤثر التوترات الجيوسياسية على أسعار العملات الأجنبية داخل دول منطقة الشرق الأوسط، خاصة سعر الدولار الأمريكي، فهذه الأزمات تزيد من الضغوط على سوق الدولار؛ نظرًا لتحول الاستثمارات قصيرة الأجل نحوه في ظل التوقعات المستقبلية التي ترتفع بها درجة المخاطرة، وبسبب انخفاض عائدات الممرات البحرية مثل قناة السويس وخليج عدن، الأمر الذي يرفع سعر الدولار ويُخفض قيمة العملة المحلية، ومن ثم تزداد الضغوط التضخمية داخل الدول المختلفة.
في المُحصلة، يُمكن القول إن استمرار التصعيد بين إيران وإسرائيل يُنذر بتحول منطقة الشرق الأوسط إلى بؤرة استنزاف اقتصادي مفتوح، بما يُهدد استقرارها، ويضعف احتمالات الانتعاش العالمي في ظل هشاشة الاقتصاد الدولي بعد أزمات متتالية، ولذلك فإن كبح التصعيد والدفع باتجاه حلول سياسية لا يُعد خيارًا دبلوماسيًا، بل ضرورة اقتصادية عالمية ذات أولوية إستراتيجية.