في أعقاب الهجوم الإيراني الموسع منخفض الحدة على مواقع مختلفة في فلسطين التاريخية والجولان السوري المحتل، يتسم المشهد الإقليمي بحالة من عدم اليقين إزاء حجم التصعيد المصاحب لتفاعلات الجانبين الإسرائيلي والإيراني والوكلاء الإقليميين، ورغم الخطابات التي تركز على "الرد" و"حق الدفاع الشرعي عن النفس"، إلا أن رسائل النار تتجاوز لحظات التصعيد إلى إرساء قواعد جديدة للاشتباك أو الإبقاء على تلك القائمة، التي لطالما ضمنت تفوقًا نوعيًا واستراتيجيًا لإسرائيل في عموم منطقة الشرق الأوسط، وهو الدافع الرئيس لجذب مزيد من القوى الغربية سعيًا للحفاظ على التوازن القائم رغم المخاطرة بتصعيد غير منضبط لا يرغب فيه أي فاعل عقلاني، في ظل وجود قائد سياسي يجيد المناورة على رأس السلطة بإسرائيل ويرغب في تحويل الضغوط الميدانية والسياسية والدبلوماسية على حرب غزة إلى لحظة خلاص جديدة تعيد لحمة الشارع الإسرائيلي حول قيادته وتروج من جديد لمأساة الهولوكوست الإسرائيلي لكسب الدعم الغربي الذي لم ينقطع بالأساس رغم ضغوط الشارع.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التقدير التالي آفاق التصعيد وتداعياته على البيئة الأمنية الإقليمية، من خلال استكشاف المعطيات الأساسية التي يمكن استخلاصها من الرد الإيراني والتصعيد الإسرائيلي المقابل.
معطيات جديدة
يمهد التصعيد المباشر بين إيران وإسرائيل لمرحلة جديدة من التحولات في المنطقة، على النحو التالي:
(*) تكتيكات الردع: إحدى التداعيات المباشرة التي خلفها الرد الإيراني محاولة جس نبض التحرك الأمريكي إزاء تصعيد المواجهة باتجاه إسرائيل من خلال ثلاثة مؤشرات؛ أولها أن الهجوم المركب والكثيف من شأنه استنزاف قدرات الدفاع الجوي والصاروخي الإسرائيلية التي استعانت بالحلفاء الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين لصد تلك المسيرات والصواريخ، وثانيها؛ أن التفوق النوعي الإسرائيلي يمكن التغلب عليه عبر مزيج من التكتيكات العسكرية غير التقليدية، وهو ما يعني تراجع قدرة تل أبيب على الردع النشط للتهديدات البعيدة وخاصة الإيرانية، مع استهداف قاعدة نفاتيم الجوية التي تضم مقاتلات السيادة الجوية إف 35، وثالثها أن استهداف الأصول والمنشآت والشخصيات العسكرية والنووية الإيرانية سيقابلها استهداف العمق الإسرائيلي وتحريك مختلف الجبهات.
وفي المقابل لا تستطيع إسرائيل التعايش مع شبح وجود تهديدات كبرى لا يمكنها مجابهته، في ظل وجود جبهات متعددة للمواجهة مع حلفاء إيران، وبالتالي فإن إسرائيل تسعى لبقاء معادلة الردع عبر مواصلة الضربات الجراحية بحق الميليشيات مع محاولة تغيير مشهد الانكشاف الإسرائيلي أمام تهديدات مماثلة من إيران.
ويظل الخوف الأكبر من أي انكسار استراتيجي إسرائيلي على الجبهة الجنوبية في قطاع غزة هو المحفز الأكبر لإبقاء التصعيد مع إيران في الحدود الدنيا طالما استمرت الحرب دون معالجة جوهرية تحسم المواجهة لصالح جيش الاحتلال.
(*) توسيع بؤر الاشتعال: تظل سوريا هي الساحة الأضعف والتي باتت طهران تفرض فيها وجودًا مهيمنًا يودي باستقرار الهلال الخصيب إلى الأبد، فمن خلال موقعها المركزي في المشرق العربي، يمكن تعزيز ودعم إمدادات "حزب الله" بالأسلحة والصواريخ، ومن جنوبها حيث تنشط عصابات إنتاج وتهريب "الكبتاجون" المخدر المرتبط بالحزب يمكن زعزعة استقرار الأردن وجره إلى أتون الحرب وتهديد استقراره ونسيجه الاجتماعي، وتعاظم ذلك التهديد في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" وعودة تنظيم "الإخوان المسلمين" بالتعاون مع "حماس" للنشاط من جديد تحت ذريعة دعم غزة والدعوة لقطع العلاقات مع إسرائيل.
ومع وقوع الأردن في مركز التصعيد بحكم موقعه الرابط بين الخليج وفلسطين المحتلة، نالت الأجواء الأردنية نصيبًا في التصعيد الإيراني الإسرائيلي بالأصالة أو الوكالة، من خلال تحليق المسيرات والصواريخ الإيرانية القادمة من الشرق والتهديدات الحوثية من الجنوب، ما يعني أن استمرار التصعيد من الممكن أن يؤدي إلى انعكاسات سلبية.
ومن المحتمل أن يقود الضغط المتزايد على الفسيفساء الطائفي والتصعيد المتواصل مع جيش الاحتلال، إلى انفجار أكثر حدة في الداخل اللبناني، فلا يمكن عزل التحركات الموسعة للاستخبارات الإسرائيلية وعناصرها على الأرض في لبنان عن تحركات سياسية وأمنية خفية لـ"حزب الله" تستهدف التصفية السياسية للمرشح الأبرز لرئاسة لبنان وهو قائد الجيش تحينًا لخروجه عن الخدمة، خلال الأشهر الأخيرة من العام الجاري، إلى جانب مقتل باسكال سليمان واعتبر حزب القوات اللبنانية أن مقتله سياسيًا وليس جنائيًا، وبالتالي تخرج الأزمة في لبنان عن إطارها السياسي إلى انفجار طائفي وربما اشتعال حرب أهلية بانزياح الثقل الشيعي شمالًا على خلفية النزوح من الجنوب، ويستغله جيش الاحتلال بالتوغل في جنوب لبنان تحت غطاء ضرب "حزب الله".
(*) معركة السردية: تباينت ردود الفعل الشعبية العربية بشأن جدية الهجمات الإيرانية على إسرائيل ومدى جدواها، لكن الرد الإيراني المباشر الأول من نوعه سيبقى محط اهتمام الإعلام الموازي الموجه للعديد من دول المنطقة العربية، فبالتوازي مع انتقادات "حماس" للأردن بشأن العلاقات مع إسرائيل وحث الشعوب العربية على تعزيز المظاهرات وربما الزحف باتجاه الأراضي المحتلة، اختارت قيادة الحركة تأييد ومباركة الضربة الإيرانية، وهو ما سيكون ديدن الخطابات المقبلة لأمين عام "حزب الله" اللبناني في الفترة المقبلة وربما تبرز اتجاهات سياسية واحتجاجية في بعض الدول التي تعاني تشككًا في أصالة هويتها الوطنية وتتمسك عوضًا عن ذلك بالقضية الفلسطينية أو بانتماءاتها الطائفية الأولية في المشرق العربي.
(*) تعزيز التموضع الغربي في البحرين المتوسط والأحمر: كشفت الأزمة في اليمن مع بدء الهجمات الحوثية على الملاحة البحرية عن حيوية البحر الأحمر في معادلة التوازن الاستراتيجي الأوروبي ومدى ارتباط أمن أوروبا بالمحور الرابط بين الخليج العربي وبحر العرب وشرق المتوسط على صعيدي التجارة ونقل إمدادات الطاقة، وتكشفت كما ذكرنا في تقديرنا الأول بشأن التصعيد في البحر الأحمر أهمية قبرص كنقطة وثوب أمامية للغرب وبريطانيا باتجاه المنطقة، وبالتالي من المتوقع أن يستمر التواجد العسكري الغربي حتى نهاية العام الجاري بحد أدنى، مما يدفع بفرض واقع جيوسياسي جديد تسيطر فيه الولايات المتحدة والقوى الغربية على مضيق باب المندب، بينما تعزز طهران نشاطها عبر مضيق هرمز، وقد تدفع الاستقطابات الدولية بتعزيز الاحتكاكات بين القطع البحرية للقوى المتنافسة في هذه المنطقة (فضلًا عن التأثير المحتمل على أسعار الطاقة والسلع التجارية المارة بالمنطقة)، بالنظر لإجراء إيران والصين وروسيا تدريبات دورية منذ عام 2019 في شمال المحيط الهندي، بالتوازي مع إحياء روسيا مساعي الوصول للبحر الأحمر بصفة مؤقتة أو مستدامة عبر إريتريا وربما السودان.
(*) الترويج لسياسة التحالفات الأمنية: قد يعزز التطور الراهن إعادة طرح تشكيل تحالف دفاعي للوقوف بوجه إيران وترسانتها الصاروخية، وهي الرسالة التي حرصت طهران على إفراغها من محتواها من خلال الدعوة لتشكيل تحالف عسكري إسلامي لوقف حرب غزة، وكذلك من خلال رسائل تحذيرية لدول الخليج من الانخراط في أي هجوم يستهدف الأراضي الإيرانية، من أجل الضغط كذلك على الجانب الأمريكي بعدم المشاركة في التصعيد لضمان عدم استهداف القواعد الأمريكية بالمنطقة.
وأمام الموقف الأمريكي الضعيف نسبيًا في التحكم بمستوى التصعيد بالمنطقة والانكشاف الإسرائيلي، يظل الموقف الخليجي الغالب هو البقاء على الحياد، بالنظر لاستمرار غياب الثقة في الجانب الإيراني وحرسه الثوري الذي انتقدته رؤية الأمن الإقليمي الخليجي الصادرة، 29 مارس 2024 ضمنيًا.
وختامًا؛ يمثل الهجوم الإيراني ذروة التصعيد مع إسرائيل في أعقاب حرب غزة، إلا أن تداعياته ستمتد للعديد من ملفات المنطقة التي تسعى من خلالها طهران لفرض وجودها كطرف أساسي في الحل أو تقويض المعادلات القائمة في سوريا والعراق ولبنان واليمن وحتى فلسطين، وربما الأردن في قادم الأيام. وفي ظل المشهد الحالي تدخل المنطقة مرحلة جديدة من التصعيد في المواجهات على الأرض العربية طالما استمرت حرب غزة وتداعياتها الإنسانية المتفاقمة.
ويستدعي الموقف الحالي تأكيد الموقف المصري في أولوية تعزيز القدرات الذاتية العربية وتوسيع إطار الحركة عربيًا وتركيًا لضمان خفض التصعيد وإيجاد صيغة إقليمية لاحتواء إيران سلميًا ومحاصرة التهديدات المحيطة بالمشرق العربي، بالاستفادة من الكتلة العربية المصغرة، التي تشمل مصر والعراق والأردن ودول مجلس التعاون الخليجي في إجراء حوارات وشراكات استراتيجية مع القوى الإقليمية والدولية بهدف ضمان استقرار المنطقة.