في 30 مايو الماضي، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال منتدى حوار شانجريلا الدفاعي في سنغافورة: "فلنبن تحالفًا إيجابيًا جديدًا بين أوروبا وآسيا، قائمًا على معاييرنا ومبادئنا المشتركة"، حتى لا نكون "ضحايا" لـ"قرارات القوى العظمى"، مثل الولايات المتحدة أو الصين.
وفقًا للمراقبين، يطرح حديث ماكرون الذي يتسم بالتصعيد ويعبر عن قلق استراتيجي، خاصة وأنه قيل في منطقة تموج بالصراع والتنافس، بين دول بحر الصين الجنوبي والصين، فضلًا عن أنها تعد مسرحًا للتنافس والصراع بين واشنطن وبكين، عددًا من الأسئلة هي: ما الدوافع الفرنسية للاتجاه جنوبًا؟، ما تأثير التحرك الفرنسي على الدول المعنية ذات النفوذ التقليدي "الولايات المتحدة الأمريكية والصين"؟، وما ردود الفعل المحتملة من القوى التي يقصدها "ماكرون"؟
يذكر أن سنغافورة التي عُقد فيها منتدى حوار شانجريلا الأمني، كانت المحطة الأخيرة في جولة "ماكرون" لدول جنوب شرق آسيا (فيتنام، إندونيسيا، وسنغافورة)، التي استمرت لمدة 6 أيام من أجل تطبيق الاستراتيجية الفرنسية "الاتجاه جنوبًا" المعروفة بعودة فرنسا إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
عوامل دافعة:
ثمة عوامل دفعت الرئيس الفرنسي إلى التحرك نحو دول جنوب شرق آسيا، يمكن تحديد أهمها على النحو التالي:
(*) البحث عن أسواق بديلة: منذ أزمة فرنسا مع دول منطقة الساحل الإفريقي، وخسارتها لعدد من الأسواق التجارية في دول "مالي، غينيا، تشاد، بوركينا فاسو، والنيجر"، يحاول "ماكرون" البحث عن أسواق بديلة. بالتالي، فإن توجه الدولة الفرنسية إلى دول جنوب شرق آسيا يحقق مكسبين في آن واحد، هما: الأول يتمثل في تعويض فرنسا لخسارتها التجارية الناتجة عن فقدانها الأسواق الإفريقية. أما الثاني، فقد جاء من منطلق أن دول جنوب شرق آسيا تُمثل مصدرًا مهمًا لإمداد فرنسا بالمواد الخام.
(*) الرغبة الفرنسية في التواجد كـ"قوة توازن" استراتيجي في منطقة جنوب شرق آسيا: فمنذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية وانعكاساتها السلبية على فرنسا، خاصة في الجوانب الاقتصادية والسياسية، يحاول "ماكرون" مراجعة الاستراتيجية الفرنسية التي أطلقها عام 2017، بشأن التحرك نحو الجنوب والبدء في تنفيذها. يذكر أن هذه الاستراتيجية تتضمن التواصل مع دول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، والعمل على تحقيق تبادل المنافع السياسية والاقتصادية والوجود كـ"قوة توازن" بين الهيمنة الصينية والانتهازية الأمريكية في المنطقة.
(*) محاولة لتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية من دول جنوب شرق آسيا فيما يخص الموقف الأوروبي من الحرب: وهنا تجدر الإشارة إلى أن فرنسا تسعى منذ حرب الرسوم التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى مجابهة خطط الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية في كثير من أقاليم العالم. وعليه، يمكن القول إن الرئيس الفرنسي يحاول تخفيف الأعباء الفرنسية، فيما يتعلق بالدفاع والأمن بعد تخلي الولايات المتحدة عن القيام بهذه المهمة، وبالتالي كان من ضمن أهداف جولة "ماكرون" لهذه المنطقة، الحصول على الدعم السياسي والدبلوماسي من دول جنوب شرق آسيا فيما يخص القضايا المعنية بالحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزة.
رسائل "ماكرون":
عدد من الرسائل حاول "ماكرون" توصيلها لدول منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يمكن توضيحها كالتالي:
(&) عدم السعي إلى التدخل في شؤون الدول الأخرى: فقد حاول "ماكرون" توصيل رسالة رئيسية خلال جولته الجنوب شرق آسيوية، ربما أعلن مضمونها في أغلب لقاءات جولته، وهي أن فرنسا "شريك موثوق" لهذه الدول وتحترم سيادتها واستقلالها، كما أن الزيارة جاءت في هذا التوقيت لتدعم استراتيجية فرنسا، التي تحد من مستوى القلق الاستراتيجي المزدوج سواء على الأوروبيين أو على دول جنوب شرق آسيا.
(&) الحد من التهديدات الصينية: هدف "ماكرون" من زيارته لدول جنوب شرق آسيا في هذا التوقيت إلى تخفيف عبء الضغوط المزدوجة الصينية، المتمثلة في نزعتها للهيمنة الإقليمية وتهديدها لسيادة الدول المعنية، والإجراءات الأمريكية، التي تمثلت في الرسوم الجمركية الكبيرة التي فرضتها على دول العالم ومن بينها دول تلك المنطقة. فالملاحظ أن فرنسا ترى في استراتيجيتها لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، أنها تدعم نظامًا عالميًا يقوم على القواعد في مواجهة تنامي قوة الصين ومطالبها الإقليمية من ناحية ومنافستها العالمية مع واشنطن من الناحية الأخرى.
(&) الشريك الآمن: هدف "ماكرون" من خلال الزيارة إلى طمأنة دول جنوب شرق آسيا من دوافعه القديمة المتمثلة في الاتجاه شرقًا. فالدولة الفرنسية لها مصالح استراتيجية في منطقة دول جنوب شرق آسيا، وبالتالي ترغب في أن تنظر إليها دول هذه المنطقة على أنها قطب استقرار، يمكن الاستعانة به والتعويل عليه في التحولات الجيوسياسية التي يعيشها العالم، خاصة وأن فرنسا تريد التوسع في شراكتها مع دول المنطقة وتعزيز حضورها السياسي والاقتصادي والثقافي.
مواقف متقاربة:
كشفت الزيارة عن أن هناك رغبة من دول جنوب شرق آسيا في تحقيق منافع متبادلة. فبالتوازي مع الرسائل الفرنسية، ترى المؤسسات الرسمية في دول فيتنام، وإندونيسيا، وسنغافورة، أن التقارب مع فرنسا في هذا التوقيت يمثل قوة اتزان، ويأخذ اتجاهًا مغايرًا عن السياسة الأمريكية والصينية الانتهازية. فعلى سبيل المثال، يعد التقارب بين فيتنام وفرنسا بالنسبة للأولى بمثابة منفذ للخروج من الضغوط الصينية التي تمارس عليها في الصناعة والتجارة والاكتشافات النفطية، وبسببها بات صنّاع القرار في فيتنام بين الحاجة إلى جذب الاستثمارات الخارجية والتصدير للأسواق العالمية. كما أن هدف السلطة الفيتنامية في الوقت الراهن، الحفاظ على الوضع الإقليمي الراهن والدفاع عن مياهها حتى تتمكن من ممارسة أنشطتها الاقتصادية الاعتيادية، مثل صيد الأسماك وإنتاج النفط والغاز، دون أي انقطاع.
بينما يكون التقارب بين فرنسا وإندونيسيا، بمثابة تعميق الشراكة بينهما، خاصة في الصناعات الدفاعية، إذ تعتبر جاكرتا شريكًا رئيسيًا لباريس في الصناعات الدفاعية على الأخص، وترغب الدولتان في توسيع تلك العلاقات لتمتد لاستخدامات الطاقة النظيفة، واستخدامات التكنولوجيا وصولًا للعلاقات الثقافية بينهما، كما يعد موقف باريس من الحرب الإسرائيلية على غزة محل تقدير لإندونيسيا.
وبالنسبة لسنغافورة يصب التقارب مع باريس في تعميق العلاقة بين الدولتين، خاصة بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ولورنس وونج رئيس وزراء سنغافورة الارتقاء بالعلاقات بين البلدين إلى مستوى الشركة الاستراتيجية، والتعاون بينهما في مجالات الطاقة النووية والطاقة النظيفة وفي مجال الفضاء السيبراني والدفاع وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتكنولوجيا الدفاع وإزالة الكربون والرقمنة.
في النهاية، يمكن القول إن الهدف الرئيسي للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من زيارته لدول جنوب شرق آسيا في هذا التوقيت، الخروج بفرنسا من مناطق نفوذها التقليدية والدخول في مناطق أكثر رحابة وسعة تستوعب قدرات فرنسا ومكانتها العالمية، فكانت زيارة ماكرون للصين والهند ومن قبلهم القاهرة وأخيرًا لدول جنوب شرق آسيا لترسيخ تموضع فرنسا كـ"قوة توازن" في هذه المنطقة المهمة منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وبالتالي، فإن محاولة ماكرون شرح الموقف الفرنسي من الأزمات الدولية، خاصة الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على أوروبا ودول جنوب شرق آسيا، جاء من منطلق تبني استراتيجية "قبول الطرف المُهدد للشريك الآمن"، وهنا تبرر فرنسا تخوفاتها على دول جنوب شرق آسيا كطرف مُهدد، من منطلق ما تقوم به كل من كوريا الشمالية والصين، المتمثل في توفير الدعم لروسيا بالمقابل تقوم اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا بدعم أوكرانيا. وبهذه الاستراتيجية يحاول ماكرون، أن يطرح فرنسا كـ اختيار ثالث يوفر الاتزان والاستقرار أمام دول هذه المنطقة، عوضًا عن الولايات المتحدة أو الصين.