الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

هل تنجح فرنسا في تعزيز الاستقلالية الأوروبية بعد عودة ترامب؟

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الأمريكي دونالد ترامب

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

تعكس دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية عن الولايات المتحدة الأمريكية، منذ فترة ممتدة، طبيعة المخاوف الفرنسية من الاعتماد على الضمانة الأمريكية لحماية الأمن الأوروبي، وهي المخاوف التي تجددت وتزايدت بعد عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى مقاليد السلطة لولاية رئاسية ثانية تبدأ في 20 من يناير 2025، وهو الأمر الذي دفع بالرئيس الفرنسي لإطلاق دعوة حاسمة لتحمل أوروبا مسؤولية أمنها والاستعداد لبناء قوة استراتيجية خاصة بها، مُطالبًا بتعزيز التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي للحفاظ على أمن القارة ودعم أوكرانيا.

هل تنجح فرنسا في تعزيز الاستقلالية الأوروبية بعد عودة ترامب؟
دعوات ماكرون المتكررة

تنوعت دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وطرحه لفكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، في العديد من الفعاليات سواء على المستوى الداخلي في فرنسا أو على المستوى الخارجي أوروبيًا وعالميًا. وهو ما يمكن الإشارة إليها على النحو التالي:

(*) تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية للاتحاد الأوروبي: جاء انعقاد قمة المجموعة السياسية الأوروبية عقب خطاب الانتصار الذي أعلن خلاله ترامب فوزه بالانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 بيوم واحد أي في السابع من نوفمبر 2011، إذ شدد ماكرون على ضرورة تبني ما أسماه الاستقلالية الاستراتيجية للقارة الأوروبية، موضحًا أن هذه الاستقلالية ليست مجرد فكرة سياسية بل تتطلب استثمارات ضخمة في الدفاع والصناعات العسكرية، مضيفًا أن أوروبا القوية تتطلب قاعدة صناعية تدعمها، وتوفر فرص عمل تعود بالفائدة على المجتمعات الأوروبية. وتمثل هذه الدعوة جزءًا من جهود فرنسا المستمرة لتعزيز قدرات أوروبا الدفاعية دون الاعتماد الكامل على الحلفاء في الولايات المتحدة الأمريكية. وتنطلق دعوة فرنسا من تعزيز التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي في تطوير قدرات عسكرية متكاملة من خلال برامج مثل صندوق الدفاع الأوروبي. لذلك دعا ماكرون إلى أن أورويا بحاجة إلى الإمساك بمصيرها بيديها مع قناعة بأن كل الأوروبيين لا يدفعون في الاتجاه نفسه وأن من بينهم من يفضل، إلى حد بعيد، ترتيب أوراقه مع ترامب على المخاطرة بالتخلي عن المظلة المزدوجة الأطلسية والأمريكية.

(*) الربط بين أمن الغربيين والحاجة إلى أوكرانيا قوية، وإلى أوروبا قوية: على خلفية استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني، ومارك روته، الأمين العام لحلف الناتو، خلال زيارتهما لفرنسا في الفترة من 11 إلى 12 نوفمبر 2024، ربط ماكرون خلال المؤتمر الصحفي على هامش الزيارة بين أمن الغربيين والحاجة إلى أوكرانيا قوية، وإلى أوروبا قوية، فضلًا عن حلف أطلسي متماسك وقوي، معتبرًا أن هذه الثلاثية ستشكل الأجندة الغربية للأشهر والسنوات المقبلة. فبالنسبة لأوكرانيا، رأى ماكرون أن مواصلة دعمها ما دامت في حاجه لذلك تعد الأولوية القصوى والطريق الوحيد للذهاب إلى المفاوضات، مضيفًا كما لو كانت رسالة لترامب بأن لا شيء يجب أن يقرر بشأن مصير أوكرانيا من غير الأوكرانيين ولا بالنسبة لأوروبا من غير الأوروبيين. بالمقابل رأى ماكرون أنه يتعين على الأوروبيين بناء الركن الأوروبي في إطار الحلف الأطلسي لأمن جناحيه على ضفتي المحيط، وهو ما تنتظره الإدارة الأمريكية من الأوروبيين، وأضاف أنه خلال فترات طويلة تحاشت أوروبا أن تتحمل أعباء أمنها، مُعتبرة أنها تستفيد من منافع السلام من غير أن تدفع الثمن. لذلك كرر ماكرون دفاعه عن حاجة الأوروبيين إلى أجندة لاستقلالية أوروبا الاستراتيجية، ليصل إلى الحاجة لحلف أطلسي قوي قادر على ردع الأعداء ويكون مجهزًا بخطط دفاعيه محدثة بقدرات عسكرية مضاعفة، وبأسلحة متداولة بين جميع أعضائه، مُطالبًا التعامل بجدية مع تعزيز القدرات الدفاعية والردعية للحلف، ومضيفًا أن القوة النووية الفرنسية تعد جزءًا من هذه القدرات.

(*) صياغة استراتيجية دفاعية أوروبية: 25 أبريل 2024، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابًا شاملًا بجامعة السوربون في فرنسا حول أوروبا، دعا فيه إلى صياغة استراتيجية دفاعية أوروبية ذات مصداقية في مواجهة الصواريخ الروسية، ومشيرًا إلى أنه لمواجهة فك الارتباط الأمريكي تحتاج إلى أوروبا قوية قادرة على فرض احترامها وضمان أمنها واستعادة استقلالها الاستراتيجي. وعدد ماكرون التحديات التي تواجه القارة الأوروبية منها التدهور الاقتصادي مقارنة بالصين والولايات المتحدة الأمريكية، والتحدي الروسي الذي يتطلب بناء القدرة الأوروبية في مجال الأمن والدفاع السيبراني، وأن أوروبا ربما تحتاج إلى درع مضاد للصواريخ.

(*) دعوة ماكرون إلى تشكيل جيش أوروبي مستقل: يسعى الرئيس الفرنسي منذ وصوله إلى سُدة الحكم في فرنسا إلى تعزيز الاستقلالية لفرنسا داخل المنظومة الغربية، ومحاولة لعب دور مؤثر أوروبيًا وعالميًا بعيدًا عن الوصاية الأمريكية على أوروبا، باعتباره الضامن الرئيسيى لأمن القارة الأوروبية. لذلك جاءت دعوة ماكرون إلى تشكيل جيش أوروبي مستقل لحماية الأمن الأوروبي والدفاع عن القارة الأوروبية ضد مصادر التهديدات الداخلية والخارجية، لا سيما بعد تصريحه الشهير بأن حلف الناتو يعاني موتًا دماغيًا.

مساران محتملان

على خلفية طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأمريكية فإن ثمة مسارين محتملين:

المسار الأول: يرتبط بصعوبة التعاطي الأورروبي في المدى القريب مع رؤية ماكرون حول الاستقلالية الاستراتيجية، لا سيما وأن التوجه المحتمل لعدد من الدول الأوروبية داخل الاتحاد الأوروبي تتجه نحو ترتيب أوضاعها مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، مُتجاهلة دعوة ماكرون حول الاستقلالية الاستراتيجية، لأن ذلك الاتجاه يعتقد بأن الاعتماد الأوروبي الذاتي لحماية أمن القارة يتطلب عقود متتالية، للتحول إلى واقع في ظل هشاشة الأمن الأوروبي أمام العديد من التحديات، منها المرتبط بالحرب الروسية الأوكرانية وما أفرزته من تداعيات سلبية على أمن القارة العجوز، التي تحتاج إلى الحماية الأمريكية بشرط أن تلتزم بشرعية الحلف الأطلسي وببنده الخامس تحديدًا.

المسار الثاني: يرتبط باحتمالية الاستجابة الأوروربية لدعوات ماكرون المتكررة حول الاستقلالية الأوروبية برغم صعوبة تحقيقها على أرض الواقع، لا سيما وأن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب طرح فكرة إنهاء الحروب خلال حملته الانتخابية، وأن الحرب الروسية الأوكرانية ستتوقف بمجرد إعادة انتخابه لولاية رئاسية جديدة. لذلك فإن نجاح ترامب في تبني أسلوب الصفقة الذي يعد من ركائز سياساته الخارجية في وقف الحرب الروسية الأوكرانية، ربما يدفع الأوروبيون للبحث عن مزيد من الاستقلالية الأوروبية، وهو ما يشجعه ترامب كي يتحمل الأوروبيون نفقات الدفاع عن أمنهم بدلًا من استنزاف القدرات الأمريكية للدفاع عن أمن القارة.

مجمل القول، تتماهى دعوات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشأن الاستقلالية الاستراتيجية مع رغبته في ضرورة تدشين جيش أوروبي مستقل للدفاع عن أمن القارة الأوروبية، وهي الدعوات التي تحتاج إلى تعزيز التعاون الأوروبي في المجالات الدفاعية والصناعات العسكرية، بعيدًا عن مساعدات الحليف الاستراتيجي الأمريكي، الذي يشكل الضامن الرئيسي لأمن القارة، لذلك فإن الخروج من تلك المظلة الأمنية الأمريكية ربما يحتاج لسنوات ممتدة وجهود مضنية لا تستطيع أوروبا تحمل تكلفتها، حتى في ظل وجود الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الذي يشجع على ذلك التوجه.