تأتي زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون، إلى الصين في الفترة من 4-7 أبريل 2023، لتعكس الرؤية الفرنسية إزاء تفاعلات النظام الدولي الجديد، واتجاه أوروبا نحو الصين التي تسعى لتكون أحد الأقطاب المؤثرة دوليًا، وهو ما تجلى في اصطحاب ماكرون لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، خلال الزيارة، فضلًا عن رغبة ماكرون في أن تكون فرنسا جسرًا للتواصل بين الغرب والشرق، في ظل بحث أوروبا عن بدائل لعلاقاتها الاقتصادية مع روسيا التي تأثرت عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير 2022، والتي كانت لها تداعيات شديدة الوطأة على اقتصادات أوروبا التي تعاني من مشكلات معقدة عكستها المظاهرات المتعددة في العواصم الأوروبية الكبرى مثل باريس ولندن، وبرلين. كما تعتقد بعض الاتجاهات أن زيارة "ماكرون" للصين تأتي في إطار التحول نحو الشرق، بل تعد مؤشرًا قويًا على قيادة ماكرون لأوروبا بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية، وهو ما يعني أن فرنسا وألمانيا يسعيان إلى تعزيز الدور الأوروبي ودعم استقلاليته على المستوى الدولي لتصبح أوروبا أحد الأقطاب المحورية في ظل عالم يموج بالتحولات الجذرية ويتجه نحو التعددية القطبية.
أهمية متزايدة:
تكتسب الزيارة أهميتها في هذا التوقيت من عدة أوجه، أولها: إنها تعد ثاني زيارة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبكين بعد زيارته الأولى في يناير 2018، كما يعد لقاؤه بالرئيس الصيني شي جين بينج، الثاني منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فقد كان لقاؤهما الأول خلال قمة مجموعة العشرين، التي عقدت في مدينة بالي الإندونيسية، نوفمبر 2022، عندما طالب ماكرون الرئيس الصيني بتعزيز الوساطة الصينية لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالجلوس إلى طاولة المفاوضات، لتسوية الأزمة الروسية الأوكرانية.
وثانيها، إن الزيارة تعكس الرغبة الفرنسية في تعزيز علاقاتها بالصين التي تعد ثاني أكبر اقتصاد عالمي، وهو ما يعزز توجه ماكرون الرامي إلى تحقيق نوع من الاستقلالية الأوروبية، فقد كان من أوائل المنادين بتأسيس جيش أوروبي لحماية القارة الأوروبية، ووصف حلف الناتو بأنه يعاني من موت دماغي، وبرغم زيارة ماكرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2022، ولقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي وصف فرنسا بالحليف الاستراتيجي، ووصف المتحدث باسم البيت الأبيض جون كيربي له، بأنه زعيم نشط ضمن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى خاصة في أوروبا، وأن بايدن اختاره كضيف في أول زيارة دولة لهذا السبب، إلا إن إقصاء فرنسا من صفقة الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية، التي عقدتها مع أستراليا لا زالت ماثلة في ذهن ماكرون، وهي تلك الصفقة، التي ألغتها أستراليا مع فرنسا لتحل محلها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وتشكيل تحالف أوكوس سبتمبر 2021، وهو ما وصفته باريس بالخيانة والطعنة في الظهر من الحلفاء.
وثالثها، إن الزيارة تأتي في إطار الانفتاح الأوروبي على الصين، عكستها تبادل الزيارات على مستوى القيادات بين الجانبين، فقد سبق وأن زار المستشار الألماني شولتس، بكين، خلال نوفمبر 2022، ثم زيارة رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، للصين في ديسمبر 2022، وتلتها زيارة رئيس الوزراء الأسباني بيدرو سانشيز. كما قام كبير الدبلوماسيين الصينيين وانج يي، بجولة أوروبية في فبراير 2023 شملت كلًا من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمجر وروسيا.
ورابعها، إن الزيارة تأتي عقب زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى روسيا ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي القمة التي ترجمت الشراكة بلا حدود بينهما على أرض الواقع، التي وضعت ركائزها خلال مشاركة الرئيس فلاديمير بوتين في حفل افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية ببكين في فبراير 2022. وعكست تلك القمة الرغبة الروسية الصينية في إرساء نظام متعدد الأقطاب بديلًا لنظام القطب الواحد الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. وبالتالي يسعى ماكرون الذى سبق له زيارة روسيا، ثم الصين لتكون فرنسا التي تسعى لقيادة القارة الأوروبية على قرب من التفاعلات الدولية التي ستشكل ملامح النظام الدولي الجديد.
دوافع متعددة:
تنوعت دوافع زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين، التي يمكن إبراز أهمها في التالي:
(*) مناقشة أبعاد الحرب الروسية الأوكرانية: حرص الرئيس الصيني شي جين بينج، خلال زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون، على تأكيد عدم انجراف أوروبا في الحرب الروسية الأوكرانية، لا سيما وأن الصين تعتقد أن فرنسا يمكنها منع الاتحاد الأوروبي من الانزلاق في هذه الأزمة. لذلك اكتفى البيان الصادر عن القمة بين الرئيسين الفرنسي والصيني في فقرته العاشرة، بالتأكيد أن الطرفين يدعمان الجهود الرامية إلى عودة السلام لأوكرانيا على قاعدة القانون الدولي ومبادئ الشرعية الدولية، كما نصت الفقرة الحادية عشرة من البيان على أن الجانبين يعارضان أي هجمات تستهدف المحطات النووية والمنشآت النووية السلمية الأخرى، ويدعمان الوكالة الدولية للطاقة الذرية في جهودها للعب دور بناء في المحافظة على أمن وسلامة هذه المنشآت بما فيها محطة زابوريجيا، كما دعا البيان أطراف النزاع من غير أن يسميها إلى الاحترام الصارم للقانون الدولي. وتعتقد بعض الصحف الفرنسية ومنها صحيفة لوموند بأن "ماكرون لم يتمكن من تغيير الموقف الصيني بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، أو تغيير مبدأ الحياد الذي يتبناه الرئيس الصيني إزاء الصراع الروسي الأوكراني".
(*) إرساء الشراكة الاقتصادية المتوازنة: جاء برنامج الزيارة تحت عنوان "الوحدة الأوروبية شرط أساسي لبناء شراكة متوازنة مع الصين". وشارك في الزيارة ما يقرب من ستين رئيس شركة فرنسية، بجانب الخبراء الاقتصاديين، وعدد من الفنانين وصانعي الأفلام. بما عكس الرغبة الفرنسية في تعزيز الشراكة الاقتصادية مع الصين، لا سيما وأن أرقام الجمارك الفرنسية تفيد بأن العجز التجاري مع الصين بلغ خلال عام 2022 ما يقرب من 30 مليار يورو، إذ إن الصادرات الصينية لفرنسا بلغت 49 مليار يورو مقابل 19 مليار يورو من الواردات الفرنسية، وهو ما يتفاقم عامًا تلو الآخر، وبرغم توقيع 36 شركة فرنسية وصينية مؤخرًا صفقات جديدة وصفتها وسائل الإعلام الصينية بأنها علامة على ثقة الشركات في السوق الصينية للشركات الأوروبية، إلا إن باريس والعواصم الأوروبية تشكو من الصعوبات التي تواجه شركاتهم في الصين التي تعد أكبر أسواق العالم. لذلك ذكر البيان الصادر عن الرئيسين عقب الزيارة في الفقرة 17 إلى أن فرنسا والصين تلتزمان العمل معًا من أجل الوصول إلى منافسة عادلة وغير تمييزية بين الشركات الصينية وغير الصينية، وتعدد القطاعات المعنية، وأبرزها البنوك والصحة والطاقة والاستثمارات والزراعة والصناعات الغذائية، فضلًا عن توفير بيئة أفضل وتمكين شركات كل طرف من الوصول إلى أسواق الطرف الآخر.
(*) تعزيز فرص التعاون الأوروبي الصيني: هدف ماكرون من زيارته إلى الصين إلى تعزيز فرص التعاون الأوروبي الصيني، إذ اصطحب معه خلال الزيارة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، حتى تبدو أن الزيارة أوروبية صينية، ويظهر ماكرون بالمُدافع عن المصالح الأوروبية. فاقتصاديًا أصبحت الصين الشريك الأكبر للاتحاد الأوروبي في عام 2021، وبلغت قيمة الصادرات الصينية من البضائع إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2022 أكثر من 560 مليار دولار. أما بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية فتبدو فرنسا أقرب إلى الموقف الصيني من الحرب الروسية الأوكرانية، إذ يدعو ماكرون لإقناع الأطراف المتحاربة بضرورة التسوية السلمية للصراع. وهو ما يتماشى مع توجهات الصين التي طرحت مقترحًا للسلام في أوكرانيا يتكون من 12 بندًا. فبرغم أن فرنسا تعد أحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن والقوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي، إلا إنها انخرطت بصورة أقل في الدفاع عن أوكرانيا مقارنة بدول أوروبية أخرى، وهى الدول التي يعتبر مسؤولوها بأن الموقف الفرنسي يمثل تحديًا كبيرًا لضرورة اتخاذ نهج أكثر صرامة تجاه بكين.
(*) الاتجاه نحو الاستقلالية الأوروبية: يرى بعض المراقبين أن ماكرون يسعى إلى تحقيق نوع من الاستقلال الأوروبي عن الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الأمر الذي تجلى في طرحه لفكرة جيش أوروبي مستقل، ووصفه لحلف الناتو بأنه يعاني من موت دماغي. كما جاءت تصريحات ماكرون عقب الزيارة وعلى متن طائرته خلال عودته من زيارة الصين، التي نقلتها صحيفة بوليتيكو لتعكس تلك التوجهات، قائلًا إنه يتعين على أوروبا أن تقلل من اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية، وتجنب الانجرار إلى مواجهة بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان، ومؤكدًا نظريته حول الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، التي من المفترض أن تقودها فرنسا، لتصبح قوة عظمى ثالثة.
مجمل القول؛ إن جولات إيمانويل ماكرون إلى الدول الفاعلة في النظام الدولي، التي تمثلت في زيارته لروسيا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية، ثم الصين، تعكس الرؤية الفرنسية إزاء تفاعلات النظام الدولي، وتشير إلى أن "ماكرون" في طريقه لقيادة أوروبا بعيدة عن الهيمنة الأمريكية، وتعزيزًا للاستقلال القاري، فماكرون يسعى من خلال تلك الزيارات وغيرها إلى دعم استقلال أوروبا بعيدًا عن التبعية للولايات المتحدة الأمريكية، والاتجاه شرقًا، سواء فيما يتعلق بحماية أمنها أو في علاقاتها الاستراتيجية مع الأقطاب الصاعدة على مسرح السياسة الدولية، وهي التوجهات التي لا زالت تواجه تحديات متعددة في ظل تعقيدات المشهد الأوروبي وارتباطه بالمصالح الأمريكية.