في 28 نوفمبر 2024، أعلن وزير الخارجية التشادي "عبد الرحمن كلام الله" أن بلاده ألغت اتفاقية التعاون الدفاعي التي تمت مراجعتها في 5 سبتمبر 2019 مع فرنسا، لتُسدل الستار على فصل من العلاقات الثنائية بين البلدين، وتمثل هذه الخطوة أحدث حلقات تراجُع العلاقات الفرنسية الإفريقية التي تشهد توترات متزايدة في الآونة الأخيرة، وضربة جديدة للنفوذ الفرنسي في إفريقيا على خلفية التحولات السياسية والأمنية في إفريقيا. وفي مؤتمر صحفي عُقِد في نجامينا عقب اجتماع بين الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي إتنو ووزير الخارجية الفرنسي، اختتم كلام الله حديثه بِحَثْ فرنسا على الاعتراف بأن تشاد نمت ونضجت، وأكد أن تشاد دولة ذات سيادة تولي قيمة كبيرة لسيادتها، وتأتي هذه الخطوة بعد سلسلة من التحرُكات المماثلة التي قامت بها دول إفريقية أخرى في إطار تصاعُد الرفض للنفوذ الفرنسي التقليدي في القارة.
تأسيسًا على ما سبق، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما تداعيات إلغاء تشاد اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا؟
أسباب القرار
لم يأتِ قرار تشاد بإلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا من فراغ، بل جاء مدفوعًا بجملة من العوامل والدواعي التي تعكس تغييرات عميقة على المستويات المحلية والدولية والإقليمية، يمكن تقسيمها إلى:
أسباب كامنة:
يكمن وراء القرار التشادي المُتَخَذ أسباب مضمرة، تتمثل في:
(*) سلبية رد فعل القوات الفرنسية على الهجمات الإرهابية شرق بحيرة تشاد: في 28 أكتوبر 2024، شنت جماعة بوكو حرام هجومًا على الجيش التشادي في منطقة بحيرة تشاد قرب الحدود النيجيرية أسفر عن سقوط نحو 40 قتيلاً، مما استدعى هجومًا مضادًا من القوات التشادية، وكشف هذا الهجوم عن هشاشة الوضع الأمني في منطقة يُفترَض أن تخضع لحماية وتعزيز أمني لدولة مثل فرنسا، إذ لم تتدخل القوات الفرنسية المتمركزة بشكل فعال للرد على الهجوم الحادث، ما أثار تساؤلات حول جدوى وجودها في مدن نجامينا، أبيشي، وفايا لارجو، ومدى التزامها بتأمين تشاد. واعتُبِر تقاعُس القوات الفرنسية عن التحرُك مؤشرًا على عدم الجدية في الالتزام ببنود اتفاقية التعاون الدفاعي بين البلدين، مما وفر أرضية سياسية للرئيس التشادي لتبرير إنهاء الاتفاقية.
(*) زعزعة الثقة في الاستراتيجيات الأمنية الفرنسية المُنَفَذة في إفريقيا: تشهد فرنسا أزمة نفوذ في إفريقيا نتيجة سياسات يُنظَر إليها على أنها غير عادلة، والتي نتج عنها رفض الوجود الفرنسي في عدة دول إفريقية، فبالنظر إلى دول الساحل الإفريقي كمثال حي، نجد أن مالي والنيجر وبوركينا فاسو شهدت توترات سياسية تبعتها طرد القوات الفرنسية؛ نظرًا لأن باريس لم تتمكن من تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب في تلك الدول، إذ فشلت العمليات العسكرية الفرنسية مثل برخان في تحقيق أهدافها المرجوة، مما أدى إلى فقدان الثقة في الدور الفرنسي كشريك أمني موثوق قادر على تحقيق الوعود المنشودة. لذا، ربما ترى تشاد أن الاعتماد على فرنسا في الوقت الراهن لم يكن مجديًا، خاصًة أن تشاد آخر الدول في المنطقة التي احتفظت فيها فرنسا بوجود عسكري كبير، فلدى فرنسا نحو 1000 جندي بالإضافة إلى طائرات حربية متمركزة في تشاد. ولا نغفل السنغال التي طالبت فرنسا في 28 نوفمبر 2024 بإغلاق قواعدها العسكرية التي يتمركز بها ما يقرب من 350 جنديًا فرنسيًا؛ لتحقيق السيادة الوطنية والتحرر من القيود الفرنسية، وتزامن قرار تشاد مع قرار السنغال بشأن العلاقات مع فرنسا.
(*) تصاعُد الضغط الشعبي والسياسي في تشاد: يَعتَبِر التشاديون أن فرنسا شريكًا غير مرغوب فيه، إذ يُنظَر إليها كداعم للنظام الحاكم مقابل استغلال الموارد الطبيعية، وامتدادًا للإرث الاستعماري، حيث لعبت فرنسا دورًا رئيسيًا في صياغة سياسات تشاد الأمنية والعسكرية لعقود، ومع تزايُد الوعي السياسي في تشاد، باتت فكرة السيادة الوطنية مطلبًا محوريًا، كما يعكس قرار إنهاء الاتفاقية رغبة القيادة التشادية في إعادة صياغة هذه العلاقة من موقع أكثر استقلالية بعيدًا عن النفوذ الفرنسي، ومن ثم تحسين صورة الحكومة التشادية أمام المواطنين وكَسب تأييدهم.
(*) سَيْر تشاد على خُطى دول إفريقية مجاورة: لم تكن تشاد استثناءً في إعلان رغبتها بالتحرر من قبضة القوى الأجنبية التي تفرض وجودها بطرق مباشرة وغير مباشرة على القارة الإفريقية، ففي سبتمبر الماضي، شهدت النيجر انسحابًا كاملًا للقوات الأمريكية، إثر تأزُم العلاقات بين نيامي وواشنطن، وهو انسحاب رافقه تعزيز العلاقات مع روسيا، في تحوُل يعكس تغيُر موازين القوى الإقليمية، ويبدو أن تشاد تسعى إلى انتهاج نهج يُرسّخ سيادتها الوطنية، ويمنحها القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية بمعزل عن التدخلات الخارجية التي طالما أثقلت كاهل القارة الإفريقية، ومن ثم ترغب تشاد في البحث عن شراكات دولية جديدة تُخلِصها من الاعتماد المُفرِط على فرنسا.
أسباب مُعلنَة:
خلال مؤتمر صحفي عُقِد بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين ليوم الحرية والديمقراطية، في يوم الأحد 1 ديسمبر 2024، أعلن الرئيس التشادي أن قرار إعادة توجيه الشراكة مع فرنسا يستند إلى رؤية استراتيجية تعزز سيادة البلاد واستقلالية قراراتها، وأوضح أن هذا القرار يرتكز على ثلاثة محاور رئيسية:
(*) أولًا: غياب مبدأ المعاملة بالمثل، حيث أكد أن تشاد لن تقبل بعد الآن بما يتعارض مع مبدأ التكافؤ الذي يُعد ركيزة السيادة الوطنية.
(*) ثانيًا: الحاجة إلى إصلاح علاقاتها الدولية، بما يضمن اختيار الشركاء وأنماط التعاون بما يخدم المصالح الوطنية بعيدًا عن أي قيود خارجية.
(*) ثالثًا: تعزيز قدرات الجيش الوطني، عبر إنهاء هذه الاتفاقية كخطوة نحو بناء قوة عسكرية مستقلة وقادرة على أداء مهامها السيادية في حماية أمن الوطن واستقراره.
تداعيات القرار
يحمل قرار تشاد بإلغاء اتفاقية التعاون الدفاعي تداعيات جمة، تتمثل في:
(*) تحديات داخلية: سيواجه تشاد جملة من التحديات الداخلية عقب القرار المُعلن، ففي ظل حدودها الممتدة مع مناطق تشهد نزاعات دائمة وتهديدات إرهابية تتفاقم في منطقة الساحل، فقد يتسبب انسحاب الدعم الفرنسي في خلق فراغ أمني يصعب ملؤه في وقت قصير، أي اضطراب أمني يعوق قدرة تشاد على مواجهة التحديات المتزايدة بمفردها، ويزيد من مخاطر تمدد الجماعات المسلحة إلى مناطق جديدة، وتنفيذ الجماعات الإرهابية عدد أكبر من العمليات الإرهابية في المنطقة. وعلى الصعيد الاقتصادي، قد تواجه تشاد صعوبات كبيرة في ظل انسحاب الدعم الإنمائي الفرنسي، الذي كان يشكل أحد الأعمدة الأساسية للتنمية الاقتصادية في البلاد.
(*) تصاعُد الدور الروسي والصيني: من المتوقع أن يسهم القرار في تعزيز نفوذ روسيا والصين في تشاد وإفريقيا بشكل عام، فعبر أدواتها العسكرية، مثل مجموعة "فاجنر"، تعزز موسكو وجودها في القارة، ما يفتح المجال لتعاون أكبر بين تشاد والقوى الدولية الصاعدة. من جانب آخر، قد تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تعويض غياب فرنسا في المنطقة، غير أن نجاح هذه الجهود يبقى مرهونًا بقدرة هذه القوى على التفاعل مع الدول الإفريقية، وخصوصًا تشاد. كما قد تلجأ تشاد إلى توثيق علاقاتها مع جيرانها مثل النيجر وغيرها، بالإضافة إلى الانخراط في تكتلات إقليمية كالاتحاد الإفريقي أو مجموعة دول الساحل الخمس، سعيًا لتقليص اعتمادها على القوى الخارجية، وسيركز الرئيس التشادي "محمد إدريس ديبي إتنو" في الفترة القادمة على توقيع اتفاقيات وإقامة علاقات مع روسيا التي باتت نجمًا صاعدًا في القارة في ظل التراجع الفرنسي الملحوظ.
(*) إعادة تشكيل السياسة الفرنسية في إفريقيا: يشير هذا القرار إلى إخفاق السياسة الفرنسية التقليدية في القارة الإفريقية، مما قد يضطر باريس إلى إعادة تقييم استراتيجياتها، سواء عبر تقليص انخراطها العسكري في المنطقة أو من خلال بناء شراكات جديدة ترتكز على مبادئ أكثر احترامًا للسيادة الوطنية ولحقوق الشعوب الإفريقية. وفي هذا السياق، قد يكون قرار تشاد جزءًا من استراتيجية تفاوضية تهدف إلى الحصول على شروط أفضل في علاقاتها مع فرنسا، سواء في المجالات الاقتصادية أو الأمنية، وقد يكون هذا التوجه هو ما دفع المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، "كريستوف لوموان"، إلى التأكيد على أن فرنسا ستواصل الحوار مع نجامينا رغم اتخاذها هذا القرار.
ختامًا، يمكن القول إن قرار تشاد بإلغاء اتفاقيات التعاون الدفاعي مع فرنسا، يمثل نقطة تحوُل مفصلية في مسار العلاقات بين الطرفين، ومرآة تعكس التحولات العميقة التي تعصف بالخريطة الجيوسياسية للقارة الإفريقية. فهذه اللحظة التاريخية تتداخل مع عوامل عديدة بدءًا من الموجة المتصاعدة لرفض التدخلات الأجنبية في القارة، وصولًا إلى إعادة تشكيل موازين القوى بين اللاعبين الدوليين الذين يتنافسون على موقع إفريقيا الاستراتيجي. ويبقى المستقبل مفتوحًا على احتمالات متعددة، حيث ستتحدد ملامحه بناءً على قدرة تشاد على إدارة هذه المرحلة الانتقالية بحنكة، وعلى استعداد باريس لتَقَبُل حُقبة جديدة من التوازنات الدولية التي يُعاد تشكيلها بلا هوادة.