تأتى زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 29 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2022 وفق بيان البيت الأبيض، لتركز المناقشات على عمق وامتداد العلاقات مع فرنسا، التي تعد من أقدم حلفاء الولايات المتحدة، والاستمرار في الشراكة الوثيقة بين واشنطن وباريس في مواجهة التحديات العالمية والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
وتعد تلك الزيارة الأولى منذ تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، والثانية منذ تولى ماكرون مقاليد السلطة في فرنسا، حيث كانت الزيارة الأولي له عام 2018 في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وتكتسب الزيارة أهميتها من عدة أوجه؛ أولها أنها تأتى في إطار تنشيط التحركات العالمية ما بين القوى الكبرى في ظل التحديات التي تواجه النظام الدولي منذ اندلاع الصراع الروسي الأوكراني، وما سببه من أزمات عمّقت من محنة النظام الدولي من الناحية الاقتصادية في ظل توقعات بركود وتضخم عالمي سيكون له تداعيات شديدة الوطأة على جميع الاقتصادات. وثانيها أن الأمن الأوروبي يواجه تحديات متنوعة ما بين أزمات الطاقة، والمهاجرين، وصعود اليمين المتطرف، وهي التحديات التي تتطلب تعزيز الروابط الاقتصادية والتعاون الدفاعي والأمني مع الولايات المتحدة الأمريكية التي ترتبط بعلاقات تحالف استراتيجي لضمان الأمن الأوروبي وحمايته. وثالثها تنوع التفاعلات الإقليمية وتأثيراتها منها: أزمة البرنامج النووي الإيراني، وانتفاضة الشباب ضد نظام الحكم هناك، والفراغ الرئاسي في لبنان وما يعانيه من تدهور اقتصادي.
ملفات مشتركة:
هناك العديد من الملفات التي تمثل مجالاً للتعاون الأمريكي الفرنسي. وتتمثل أبرز تلك الملفات في العناصر التالية:
(*) الأمن الأوروبي: يشكل الأمن الأوروبي أحد مرتكزات الاستراتيجية الأمريكية في أوروبا، فمشروع "مارشال" لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مثل المنقذ الرئيسي للتدهور الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعات أوروبا الغربية بعد أن تبنى الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي هذا المشروع في يونيو 1947 في خطابه أمام جامعة هارفارد، لإنفاق ما يقرب من 13 مليار دولار أمريكي لإعادة الإعمار، ثم جاء إنشاء حلف الناتو عام 1949 بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بهدف مواجهة التمدد الشيوعي حينئذ، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي تغيرت عقيدة الحلف في إطار البحث عن مهام جديد لتركز على مواجهة الإرهاب وقضايا الهجرة غير المشروعة، والتهديدات الأمنية الجديدة مثل الأمن السيبراني.
(*) الصراع الروسي الأوكراني: على الرغم من أن ثمة اتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على ضرورة حل الأزمة الروسية الأوكرانية من خلال المفاوضات. وهو الأمر الذى تجلى في طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الرئيس الصيني شي جين بينج، على هامش قمة العشرين في مدينة بالى الأندونيسية في 16 نوفمبر 2022، بالتدخل لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالجلوس على طاولة المفاوضات، إلا هناك رؤية تتبناها بعض التحليلات انطلاقًا من مفهوم لعبة الأمم، وهو الكتاب الذى صدر بالعنوان نفسه عام 1969 للمؤلف الأمريكي مايلز كوبلاند، الذى يشير إلى أن ما يظهر على السطح وما يجرى في العلن بالنسبة لشريحة من التفاعلات الدولية الشائكة لا يعبر بالضرورة عن المضمون الحقيقي لسلوك فاعل دولي ما مؤثر في هذه التفاعلات. وتتبنى تلك التحليلات فكرة الاستدراج في العلاقات الدولية وأن الولايات المتحدة الأمريكية نجحت في استدراج بوتين للحرب لتحقق أهدافًا متنوعة أهمها: استنزاف قدرات روسيا في المستنقع الأوكراني، واستعادة الأمن الأوروبي تحت المظلة الأمريكية وبضمانتها بعد كثافة العلاقات الاقتصادية مع روسيا قبل اندلاع الصراع، عقب الانتهاء من تدشين مشروع نوردستريم2، لنقل الغاز الروسي من روسيا إلى ألمانيا ثم إلى الدول الأوروبية.
(*) ملف الطاقة: يشكل ملف الطاقة أحد الملفات المشتركة بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، لا سيما أن روسيا تمد الاتحاد الأوروبي بما يقرب من 40 في المئة من احتياجات الغاز، وقد تأثرت تلك الإمدادات بعد تفجر الصراع مع أوكرانيا وتضاعف العجز التجاري بين الاتحاد الأوروبي وروسيا (المورد الرئيسي للطاقة) بأكثر من أربعة أضعاف إلى 62.6 مليار يورو في الربع الأول من عام 2022، مقارنة بـ14.7 مليار في الفترة نفسها من العام 2021. وقد كان التغيير في قيمة واردات الاتحاد الأوروبي من الطاقة الأكثر تأثيرًا، حيث تضاعف العجز في تجارة الطاقة ثلاث مرات تقريبًا إلى 183.6 مليار يورو في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2022، مقارنة بالفترة نفسها من 2021.
القضايا الخلافية:
تتنوع القضايا الخلافية ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، ويمكن إبراز أهمها في القضايا التالية:
(*) إنشاء جيش أوروبي: جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول ضرورة وجود جيش أوروبي للدفاع عن المصالح الأوروبية، والتي جاءت في نوفمبر 2018 خلال لقاء له مع راديو أوروبا1، مشيرًا إلى أن أوروبا يجب أن تعتمد على نفسها في حماية مصالحها بدلاً من الاعتماد على أمريكا. وربما عزز من تلك الرغبة الفرنسية في تحقيق هذا الهدف ما وصف به ماكرون حلف الناتو بأنه يعاني من "موت دماغي" أو "سريري"، على حد وصفه.
(*) تحالف أوكوس: أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في منتصف سبتمبر 2021 عن تحالف أمني استراتيجي في منطقة المحيطين الهادي والهندي يضم كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة وأستراليا. وعرف بتحالف "أوكوس". وبموجب هذا التحالف ستقوم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بتزويد أستراليا بعدد من الغواصات التي تعمل بالدفع النووي. وقد كان ذلك التحالف إحدى القضايا الخلافية بين واشنطن وباريس، لا سيما أنه أدى إلى إلغاء ما وصف بـ"صفقة القرن" بين أستراليا وفرنسا عام 2019، وتخليها عن عقد شراء 12 غواصة فرنسية الصنع لصالح الاتفاق الجديد، فضلًا عن استبعاد فرنسا من التحالف الاستراتيجي الجديد الذي يهدف إلى وقف الصعود الصيني في منطقة "الإندوباسيفيك".
(*) التنافس على إفريقيا: يشكل التنافس الأمريكي الفرنسي على مقدرات القارة الإفريقية أحد الملفات الخلافية بينهما، لا سيما أن الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى محاصرة الصين ومنع تغلغلها في إفريقيا، حيث تجاوزت الاستثمارات الصينية المباشرة في إفريقيا 2 مليار دولار، كما أنها أنشأت 25 منطقة للتعاون التجاري في 16 دولة إفريقية خلال عام 2021، في حين تعتبر فرنسا أن هذا الهدف ثانوي بالنسبة لها، وأن إفريقيا تشكل الفناء الخلفي لها في ظل علاقاتها الاستراتيجية مع الدول الإفريقية، فإفريقيا تمثل 20 في المئة من سكان العالم، فضلًا عن مواردها الضخمة التي تشكل نحو 33 في المئة من مجمل الموارد المتوافرة في العالم، فهي منتج رئيسي لأكثر من 70 في المئة من المعادن المهمة للصناعات العالمية، مثل اليورانيوم، والبلاتين والنيكل وخام الألمنيوم والكوبالت. كما تستأثر القارة الإفريقية بنحو 25 في المئة من الإنتاج العالمي من الذهب والأحجار الكريمة العالية القيمة مثل الألماس، إضافة إلى النفط والغاز، وتستحوذ أيضاً على 65 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة عالميًا، و10 في المئة من المياه العذبة المتجددة.
مجمل القول؛ إن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الولايات المتحدة الأمريكية تسعى إلى تعزيز التعاون الأوروبي الأمريكي في ظل التهديدات الناجمة عن تداعيات الصراع الروسي الأوكراني، وفى ظل الارتباك الذي تعاني منه أوروبا واعتمادها على الجانب الروسي في توفير احتياجاتها من الطاقة، يبقى التساؤل: هل ستقدم الولايات المتحدة الأمريكية بدائل عملية لإمدادها بالغاز أم أن عملية تأديب أوروبا ستستمر بعد أن حاولت الخروج عن المظلة الأمريكية بتكثيف علاقاتها الاقتصادية مع روسيا قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية؟