بعد أيام من وصف المحادثات بشأن الملف الأوكراني بـ"الإيجابية"، أبدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إحباطه من وتيرة المحادثات بشأن وقف الحرب الروسية الأوكرانية بالتزامن مع قصف روسي واسع النطاق بالمُسيّرات والصواريخ على كييف، ورفض أوكرانيا مقترحًا أمريكيًا للسلام، يتضمن اعترافًا بالوضع الميداني القائم واعتراف واشنطن بالقرم أرض روسية.
جاء تبدل الموقف الأمريكي عندما لوحت إدارة ترامب في 18 أبريل 2025 لإمكانية الانسحاب من جهود الوساطة بين روسيا وأوكرانيا إذا لم تحقق المحادثات تقدمًا ملموسًا، أو في حال واصل أحد طرفي الأزمة عرقلة الوصول إلى تسوية قريبة للنزاع، وذلك على هامش اجتماعات باريس بشأن أوكرانيا التي تناولت المقترح الأمريكي.
وبين تصريحات واشنطن المتناقضة بشأن مسار المفاوضات، تتواصل المحادثات بين الولايات المتحدة وطرفي النزاع من جهة وبينها، وبين الحلفاء الأوروبيين من جهة أخرى لإشراكهم في جهود إنهاء الحرب الجارية على الأراضي الأوروبية والمساهمة في توفير حلول مستدامة للصراع ولضمان أمن أوكرانيا، بالتزامن مع الزيارة الرابعة التي يجريها المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف إلى روسيا، بعد هدنة هشَّة من جانب واحد أعلنتها روسيا لمدة 30 ساعة خلال عيد الفصح ومقترحات بوقف إطلاق نار محدود يستثني البنى التحتية المدنية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يسعى التحليل التالي للوقوف على حدود المناورة الأمريكية بالانسحاب من جهود تسوية الصراع وانعكاسات ذلك على مستقبل المفاوضات.
ضغوط تفاوضية
بصورة متزامنة لوّح الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته ماركو روبيو في 18 أبريل الجاري أن الولايات المتحدة قد تنسحب من المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا ما لم تشهد المحادثات تقدمًا ملموسًا خلال أيام، وهو ما يتناقض مع تصريحات ترامب في المكتب البيضاوي يوم الاثنين 20 أبريل بأن الاجتماعات بشأن روسيا وأوكرانيا "جيدة للغاية".
ويمكن قراءة ضبابية الموقف الأمريكي إزاء المفاوضات الروسية الأوكرانية على النحو التالي:
(*) تعقيدات إستراتيجية: يمكن القول إن المحادثات الأمريكية مع الأطراف الفاعلة في الأزمة الأوكرانية ممثلة في موسكو وكييف بلغت مرحلة جديدة أكثر واقعية مع انخراط القوى الأوروبية في 17 أبريل 2025 خلال اجتماعات باريس، والتي أظهرت تمسك كييف والأوروبيين بوجود ضمانات أمنية على رأسها توفير قوة حفظ سلام في أوكرانيا، مقابل تمسك موسكو بالسيادة على الأقاليم الخمس وهي شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوجانسك وزابوريجيا وخيرسون. ويمثل التلويح بالانسحاب محاولة للضغط على مختلف الأطراف لإعادة تقييم مواقفهم لإنهاء حرب استنزفت الموارد الأمريكية خلال ثلاث سنوات، حسب وصف روبيو الذي وصفها بأنها "ليست حرب الولايات المتحدة".
ويكمن التعقيد الأساسي في المفاوضات عدم استعداد زيلنيسكي للتنازل (الضمني) عن شبه جزيرة القرم، في ضوء عدم امتلاكه تفويضًا دستوريًا وسياسيًا يخوله التنازل عن القرم أو أي من أراضي الأقاليم الأربعة التي تسيطر روسيا على أجزاء واسعة منها.
وترقُب كييف من واشنطن وحلفائها الغربيين توفير ضمانات أمنية عبر دعم عسكري مستدام لإعادة بناء الجيش وتعزيز قدراته القتالية والتسليحية، إلى جانب تعهدات بردع ومنع أي عمليات عسكرية روسية في أوكرانيا مستقبلًا، باعتبار الأخيرة جزءًا من المنظومة الغربية ليس فقط على الصعيد الثقافي وإنما بتجديد تعهدات قمة الحلف في بوخارست 2008 بإمكانية انضمام كييف "في نهاية المطاف" إلى الناتو.
(*) تعزيز الضغوط على أوروبا: تأتي التصريحات الأمريكية لتعزز المخاوف الأوروبية بشأن التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، خاصة في ظل اتسام سلوك الولايات المتحدة درجة بالحياد إزاء طرفي الصراع وتجنب إدانة روسيا، وتفضيل الانسحاب من الصراع ككل والانكفاء عن جهود إنهاء الحرب، على ممارسة المزيد من الضغوط على موسكو أو التلويح بتعزيز الدعم العسكري لكييف.
ويشير ذلك إلى رغبة واشنطن في إعادة توجيه الضغط الأوروبي من التكتل خلف كييف لمنع تقديم تنازلات إستراتيجية كبرى على صعيد التنازل عن الأقاليم الخمسة والحياد ونزع السلاح، إلى إقناع الأخيرة بإبداء "مرونة" في المحادثات في ظل تأكيد الإدارة الأمريكية على رفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.
ويحيي المقترح الأمريكي مخاوف أوروبا من التنكر لقواعد النظام الدولي والقوانين والأعراف والمبادئ الدولية الراسخة، وعلى رأسها المساواة في السيادة واحترام الوحدة والسلامة الإقليمية للدول والامتناع عن تهديدها بالقوة المسلحة -وفق ميثاق الأمم المتحدة- والتي قد تنعكس في أزمات أخرى قد تهدد الأمن الأوروبي، سواءً في تأجيج التوترات الإقليمية خاصة بمنطقة غرب البلقان أو بتلاقي المصالح الأمريكية الروسية في مناطق تقاسم النفوذ خاصة في القطب الشمالي واحتمالات اتخاذ قضية جرينلاند منحى عسكريًا.
وإجمالًا؛ لم يُشِر المقترح الأمريكي وفق ما نقلته الصحافة الأمريكية عن نائب الرئيس جيه دي فانس وبعض المسؤولين الأوروبيين الذي اطلعوا على المقترح، إلى الضمانات الأمنية التي قد يوفرها الشركاء الغربيين لأوكرانيا على غرار مساعي فرنسا وبريطانيا لتشكيل قوة حفظ سلام أوروبية لا تزال روسيا تعارضها من حيث المبدأ، كما لم يعالج المقترح مطالب الأوروبيين في توفير ضمانات لأي قوة سلام محتملة وتأكيد الالتزام بالدفاع الجماعي بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف.
(*) أوراق روسيا: تشير خطة ترامب غير المكتملة للسلام إلى ارتهان أمن أوروبا وليس أوكرانيا فحسب بالمطالبات الروسية، والتي قد تفرض (وفق الشروط الراهنة) صيغة اقتصادية في المستقبل القريب تعيد ربط أوروبا بقطاع الطاقة ومن ثم النفوذ الجيوسياسي الروسي، وهو ما لن تقبله أوروبا على أي حال رغم حالة الهشاشة الأمنية للقارة العجوز، ووجود بعض التباينات داخل الاتحاد الأوروبي إزاء التصدي للنفوذ الروسي من عدمه، فضلًا عن التباين داخل معسكر التصدي حول الآليات والإجراءات الاقتصادية والعسكرية المتبعة في مواجهة موسكو، وذلك في إطار مواقف واشنطن التي تنحاز قيميًا ودبلوماسيًا لموسكو كطرف منتصر في الحرب ويمتلك أوراقًا تفاوضية قوية بحسب الرئيس الأمريكي، وهي وقف الحرب والاحتفاظ بخطوط السيطرة الحالية وبالتالي الحفاظ على بقاء أوكرانيا التي قد تختفى في حالة استمرار الحرب 3 سنوات أخرى.
ولا يبدو الرئيس الأمريكي مستعدًا لإعادة نهج سلفه جو بايدن في التعامل مع روسيا، على صعيد تشديد العقوبات وتعزيز الدعم العسكري لأوكرانيا بالنظر لطبيعة الملفات التي تنخرط فيها موسكو على الصعيد الدولي تدعم الموقف التفاوضي الأمريكي على صعيد قضايا الاستقرار الاستراتيجي وجهود خفض التسلح ومنع الانتشار النووي، ودور موسكو في خفض التصعيد والمساهمة في حلحلة الملف النووي الإيراني دبلوماسيًا ولوجيستيًا، وأي محادثات مستقبلية بشأن كوريا الشمالية.
كما تستفيد روسيا من مساعي ترامب للتعاون والتنسيق في مناطق النفوذ المشتركة، فضلًا عن التعاون الاقتصادي والتجاري بالاستفادة من الموارد الضخمة للاتحاد الروسي، والرغبة في فك الارتباط بين موسكو وبكين.
انعكاسات محتملة
رغم التلويح الأمريكي بإمكانية الانسحاب من المحادثات بشأن تسوية الصراع بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن ذلك يظل مستبعدًا في ضوء المخاطر المحتملة لاستمرار الحرب على أمن أوروبا واستقرار الاقتصاد العالمي.
ومع استبعاد الانسحاب الأمريكي الكامل من مفاوضات وقف إطلاق النار، يمكن استشراف مستقبل المفاوضات وفق السيناريوهين التاليين:
(&) وقف مؤقت لإطلاق النار: ويشير ذلك إلى التوافق على منع استهداف البنى التحتية والأهداف المدنية ووقف مؤقت لإطلاق النار على طول الخطوط الأمامية؛ لمواجهة الخسائر المتزايدة للحرب التي توصف بـ"مفرمة اللحم"، تمهيدًا للدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات حول اتفاق سلام.
ويعزز من ذلك موقف أوكرانيا وأوروبا الداعي للبدء بوقف إطلاق النار وتجنيب كييف التفاوض تحت الضغط العسكري، ويحقق في الوقت ذاته انتصارًا تكتيكيًا لروسيا في ظل استعادتها لأجزاء واسعة من المناطق التي سيطرت عليها أوكرانيا في كورسك، ومواجهة العمليات الانتقامية بالداخل الروسي والمتمثلة في استهداف منشآت الطاقة والعمليات الانتحارية التي تستهدف قيادات الجيش الروسي.
وفي المقابل قد ترفض روسيا وقف القتال غير المشروط دون التوصل لتفاهمات مع الولايات المتحدة على قضايا الاستقرار الاستراتيجي وترتيبات أمن أوروبا، استنادًا إلى تصورات الجانبين بشأن ضعف أوكرانيا وهشاشة الموقف الأوروبي، ما يقود لصفقة سلام سيئة وقصيرة المدى.
وعلى الجانب الآخر، قد يمثل خروج الولايات المتحدة الأمريكية من مفاوضات التسوية بين روسيا وأوروبا تهديدًا باستدامة الصراع في وجود حالة من توازن الضعف بين روسيا من جهة وأوكرانيا وأوروبا من جهة أخرى، وغياب أي صيغة متوازنة وعادلة ومقبولة لكل الأطراف المنخرطة لإنهاء الحرب، ما ينذر بتجدد الأزمة واتساع نطاقها بما يتجاوز الجغرافيا الأوكرانية، وهو ما يعني انجرار الولايات المتحدة في حرب عالمية ثالثة.
(&) التسوية الشاملة: ويشمل تسهيل الولايات المتحدة للمحادثات المباشرة بين روسيا وأوكرانيا من جهة، وروسيا وأوروبا من جهة أخرى لإيجاد صيغة توافقية تنهي الصراع جذريًا مع رفع العقوبات الغربية عن روسيا والاتفاق على دعم أمني موثوق لأوكرانيا.
ويعترض هذا السيناريو في الوقت الراهن عدم وجود تفويض سياسي ودستوري للقيادة الأوكرانية الحالية بالتنازل الرسمي أو الضمني عن أجزاء من إقليم الدولة، فضلًا عدم انخراط القوى الأوروبية في جهود التسوية في ضوء مساعيها لتعزيز الموقف التفاوضي لكييف وإعادة تنظيم صفوفها لتولي مسئوليتها في الدفاع عن أمن أوروبا.
وإجمالًا؛ لا يبدو الطريق إلى سلام دائم بين روسيا وأوكرانيا في المتناول وفق الشروط الراهنة للمفاوضات نتيجة لتصورات الوسيط الأمريكي وحساباته قصيرة الأمد، بالتوازي مع عدم وجود أرضية مشتركة بين روسيا من جهة وأوكرانيا وأوروبا من جهة أخرى. كما أن الخلافات الاقتصادية والتجارية بين واشنطن وبروكسل والخلافات بشأن مقاربة قضايا الأمن الدولي والتلويح بتقليص الانتشار العسكري الأمريكي قد تعزز الانكشاف الأمني للقارة العجوز التي لا تزال غير قادرة على توفير ضمانات أمنية بمعزل عن حلف الناتو والالتزام الأمني الأمريكي.
ورغم التباينات الكبرى في مواقف واشنطن وبروكسل إلا أن الولايات المتحدة تظل ملتزمة بأمن أوروبا التي لا تزال تمتلك ثقلًا اقتصاديًا وجيوسياسيًا مهمًا، وهو ما يرجِّح أن يكون التلويح بالانسحاب من مفاوضات وقف إطلاق النار في أوكرانيا أداة تفاوضية لتعزيز الضغوط على بروكسل وكييف من أجل إبداء مرونة في المحادثات.