على امتداد وادي الأردن، يواجه الفلسطينيون حملة شرسة من العنف الممنهج الذي يُمارسه المستوطنون الإسرائيليون بدعم ضمني أو صريح من السلطات الإسرائيلية، وهو نزوح قسري لا يحدث بشكل عشوائي، بل يبدو وكأنه جزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى إفراغ المنطقة من سكانها الأصليين لصالح الاستيطان الإسرائيلي.
فبدء من عمليات الاعتداء، ومصادرة الأراضي، وسرقة المواشي، حتى هجمات المستوطنين المستمرة يعيش الفلسطينيون بيئة خانقة تجبرهم على مغادرة أراضيهم التاريخية.
قصة ياسر أبو عرام
في اليوم الأول من شهر رمضان، كان ياسر أبو عرام يجلس يحدق بيأس في أرضه في خربة سمرة بالضفة الغربية المحتلة، وبعد شهور من المضايقات المستمرة من قبل المستوطنين الإسرائيليين الذين سرقوا ماشيته وحاصروا مجتمعه الرعوي الصغير، قرر أخيرًا الرحيل، فيقول "أبو عرام" وفق ما نقله موقع "+972": "اليوم أنا، وغدًا شخص آخر".
يعيش في وادي الأردن نحو 60 ألف فلسطيني، لكن عنف المستوطنين جعل البقاء شبه مستحيل، ففي فبراير الماضي، أقيمت بؤرة استيطانية جديدة على تل قريب من خربة سمرة، ما زاد من حدة المضايقات، وفي الأول من مارس الجاري، غادر "أبو عرام" وعائلته المكان الذي سكنوه لعقدين من الزمن، فلم يبقَ سوى بقايا منزله ولافتة كتب عليها المستوطنون شعارات ساخرة.
تكتيكات التطهير العرقي
خربة سمرة ليست حالة فردية، بل نموذج لما يحدث في المنطقة (ج) شمال غور الأردن، حيث تسيطر إسرائيل عليه بالكامل، إذ شهدت هذه المنطقة تزايدًا كبيرًا في عنف المستوطنين منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، ومع إنشاء البؤر الاستيطانية غير القانونية، بات الفلسطينيون محاصرين بين التهديدات المستمرة من المستوطنين وبين القيود العسكرية الإسرائيلية.
في يناير 2024، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي "عملية الجدار الحديدي"، التي أدت إلى نزوح أكثر من 40 ألف فلسطيني، معظمهم من مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية، بحسب "درور إتكيس"، مؤسس منظمة "كيرم نافوت" الإسرائيلية، فإن الأمر ليس عشوائيًا، بل "ممنهج ومخطط له جيدًا"، حيث أعطت عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والهجوم العسكري الجديد في الضفة الغربية الضوء الأخضر لتصعيد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين.
سياسة إسرائيلية طويلة الأمد
منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967، صُنّفت نحو 50% من وادي الأردن كـ"أراضي دولة"، ومنع الفلسطينيين من البناء أو الزراعة أو الرعي في 85% من أراضيه، وأُقيمت مستوطنات ومناطق عسكرية ومحميات طبيعية، لتقييد الوجود الفلسطيني بشكل ممنهج.
في الثمانينيات، أعلن الجيش الإسرائيلي منطقة خربة سمرة "منطقة إطلاق نار"، ما جعل حياة سكانها أكثر صعوبة، إذ أصبحت عمليات الهدم المستمرة، والتدريبات العسكرية الحية، وحرمان الفلسطينيين من المياه، كلها أدوات تُستخدم لتهجير السكان الأصليين.
أداة لتهجير الفلسطينيين
شهدت السنوات الأخيرة ازديادًا في عدد البؤر الاستيطانية الرعوية، التي يستخدمها المستوطنون لمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، ففي عام 2016، أنشأ المستوطن أوري كوهين مزرعة استيطانية قرب خربة سمرة، وفي 2019 تبعه مستوطن آخر، أسائيل كورنيتز، ما أدى إلى تصاعد العنف ضد الفلسطينيين.
على عكس المستوطنات التقليدية، فإن هذه البؤر الاستيطانية تتوسع بسرعة، نظرًا لاعتمادها على تربية المواشي وعدم حاجتها إلى بنية تحتية كبيرة، وفقًا لمنظمة "يش دين" الإسرائيلية، فإن المستوطنين في هذه البؤر يعملون كـ"ميليشيات مسلحة مدعومة من الدولة"، ويحصلون على تمويل حكومي تحت ذريعة دعم الرعي.
بين عامي 2018 و2024، قدمت وزارة الزراعة الإسرائيلية تمويلًا بقيمة 1.66 مليون شيكل (450 ألف دولار) للمزارع الاستيطانية غير القانونية، وحصل كورنيتز على 255 ألف شيكل، بينما حصل كوهين على 595 ألف شيكل، رغم توثيق اعتداءاته على الفلسطينيين.
الرحيل إلى المجهول
مع تزايد العنف، لم يجد الفلسطينيون في خربة سمرة خيارًا سوى الفرار، فالمواطن الفلسطيني "طارق حميد"، فرّ مع عائلته في أكتوبر 2023، بعد تعرضهم لحصار من قبل المستوطنين، في صيف 2023، حاول وضع إطارات على الطريق المؤدي إلى قريته لمنع المستوطنين من الدخول، لكن دون جدوى.
في أكتوبر الماضي، هاجم أوري كوهين "حميد" وأفراد عائلته، وضربه بمسدس، مما تركه مصابًا، ورغم أن الشرطة الإسرائيلية حضرت أثناء الهجوم، إلا أنها لم تتدخل، بل اعتقلت "حميد" وشقيقه.
مغادرة جماعية
بحسب درور إتكيس، الباحث في المنظمة الإسرائيلية "كيرم نافوت"، فإن "الحكومة الإسرائيلية تدعم المستوطنين، سواء عبر الشرطة أو الجيش أو تمويل المشاريع الاستيطانية". ونتيجة لذلك، أُجبر الفلسطينيون على مغادرة قراهم بشكل جماعي.
وأصبح ما يحدث في وادي الأردن يرتقي إلى تسميته بمصطلح "عملية تطهير عرقي تدريجية"، التي تهدف إلى إفراغ المنطقة من سكانها الفلسطينيين لصالح المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.
فبينما تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلية دعم المستوطنين، فإن الفلسطينيين يجدون أنفسهم محاصرين بين العنف والقيود المفروضة عليهم، ما يدفعهم إلى الرحيل بحثًا عن حياة أكثر أمنًا، ولو بشكل مؤقت.