شهدت فرنسا خلال عام 2024 أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخها المعاصر، تجلت في تعاقب أربع حكومات خلال اثني عشر شهرًا فقط، بداية من حكومة إليزابيث بورن التي واجهت صعوبات في إدارة الأغلبية البرلمانية، مرورًا بحكومة جابرييل أتال التي قدمت استقالتها في يوليو، ثم حكومة ميشيل بارنييه التي أصبحت أقصر الحكومات عمرًا في تاريخ الجمهورية الخامسة، وانتهاءً بحكومة فرانسوا بايرو التي تواجه تحديات صعبة في نهاية العام، ما يمثل ظاهرة عكست عمق الانقسامات السياسية والاجتماعية التي تعصف بثاني أكبر اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، وفي خضم هذه الأزمة المتفاقمة، وجدت فرنسا نفسها أمام تحديات جسيمة هددت استقرار نظامها السياسي، وأثارت مخاوف جدية بشأن مستقبل الجمهورية الخامسة.
جذور الأزمة وتداعياتها
بدأ 2024 بحكومة إليزابيث بورن، التي كانت تواجه صعوبات متزايدة في تمرير الإصلاحات الحكومية وسط معارضة برلمانية شديدة، وقد واجهت تحديات كبيرة خلال فترة رئاستها للوزراء، خاصة في تمرير الإصلاحات المهمة مثل قانون التقاعد وقانون الهجرة المثير للجدل.
ونظرًا لعدم وجود أغلبية مطلقة لحزب الرئيس ماكرون في البرلمان، اضطرت الحكومة مرارًا للجوء إلى المادة 49.3 من الدستور لتمرير القوانين دون تصويت برلماني، مما أثار انتقادات واسعة وأدى إلى تآكل شعبيتها، ما اضطرها إلى تقديم استقالتها في 8 يناير 2024، لتفسح المجال أمام تشكيل حكومة جديدة برئاسة جابرييل أتال، في محاولة لإعطاء دفعة جديدة لسياسات الرئيس ماكرون.
إلا أن الأزمة السياسية تعمقت مع نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، التي شكلت صدمة للنخبة السياسية الفرنسية، إذ حقق حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف نصرًا مفاجئًا بحصوله على ثلاثين مقعدًا من أصل ثمانين مخصصة لفرنسا.
هذه النتيجة غير المتوقعة دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون إلى اتخاذ قرار حاسم وجريء بحل الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات تشريعية مبكرة، في محاولة لإعادة ترتيب المشهد السياسي وفق رؤيته.
لكن الانتخابات التشريعية التي جرت في يونيو ويوليو 2024 جاءت بنتائج أكثر تعقيدًا، إذ أفرزت برلمانًا منقسمًا بشكل حاد.
تصدر تحالف الجبهة الشعبية الجديدة اليساري المشهد بـ193 نائبًا، متفوقًا على حزب النهضة بقيادة ماكرون الذي حصل على 166 نائبًا، بينما حل التجمع الوطني اليميني في المرتبة الثالثة بـ 142 نائبًا.
هذا التوزيع غير المسبوق للمقاعد خلق حالة من الشلل السياسي، دفعت حكومة جابرييل أتال إلى تقديم استقالتها في 15 يوليو 2024.
صراع الإرادات وأزمة الشرعية
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا وعمقت الأزمة السياسية، اتخذ الرئيس ماكرون قرارًا غير مسبوق بتأجيل تعيين رئيس وزراء جديد خلفًا لأتال حتى انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الصيفية 2024، متذرعًا بما أسماه "الهدنة الأولمبية".
لكن القرار الأكثر إثارة للجدل جاء في 26 أغسطس، إذ رفض ماكرون تعيين لوسي كاستيتس، مرشحة الجبهة الشعبية الجديدة، لمنصب رئيس الوزراء، في خرق واضح للتقاليد السياسية الفرنسية التي تقضي بتعيين زعيم الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية رئيسًا للوزراء.
هذا القرار أشعل أزمة دستورية حادة، دفعت حزب فرنسا الأبية اليساري، العمود الفقري للجبهة الشعبية الجديدة، إلى الشروع في إجراءات عزل الرئيس ماكرون.
وفي خضم هذه الأزمة، رفض حزبا الخضر وجناح من الحزب الاشتراكي المشاركة في أي مشاورات إضافية، مما عمق حالة الانقسام السياسي.
حكومات قصيرة العمر وتداعيات اقتصادية
في محاولة لاحتواء الأزمة، عين ماكرون ميشيل بارنييه رئيسًا للوزراء في 5 سبتمبر، لكن حكومته التي تشكلت من تحالف أقلية لم تصمد سوى ثلاثة أشهر، إذ في سابقة تاريخية لم تشهدها فرنسا منذ عام 1962، سقطت حكومة بارنييه بتصويت لحجب الثقة في 4 ديسمبر، لتصبح أقصر الحكومات عمرًا في تاريخ الجمهورية الخامسة.
وفي 13 ديسمبر، عين ماكرون فرانسوا بايرو، زعيم الحركة الديمقراطية، رئيسًا للوزراء في ظروف درامية كشفت عنها صحيفة "لوموند"، حيث جاء التعيين بعد تهديد بايرو بسحب دعمه للرئيس.
وسرعان ما انعكست حدة الأزمة السياسية على الوضع الاقتصادي، إذ خفضت وكالة موديز التصنيف الائتماني لفرنسا، محذرة من أن الانقسام السياسي سيعيق جهود الإصلاح المالي.
المجتمع الفرنسي
لم تقتصر تداعيات الأزمة على المستوى السياسي فحسب، بل امتدت لتشمل النسيج الاجتماعي الفرنسي بأكمله، إذ شهدت البلاد موجة من الاحتجاجات والإضرابات، قادتها النقابات العمالية، وخاصة الاتحاد العام للعمل (CGT)، الذي نظم يومًا للإضراب والاحتجاج في الأول من أكتوبر ضد الميزانية المقترحة من الحكومة المؤقتة.
كما برزت انقسامات عميقة داخل الأحزاب التقليدية، خاصة الحزب الاشتراكي، حيث انقسم الحزب بين مؤيدي ترشيح لوسي كاستيتس لرئاسة الوزراء، وبين الداعين إلى التحالف مع حزب ماكرون وما يسمونه "القوى الجمهورية"، هذه الانقسامات عكست حالة من الارتباك السياسي العميق في المشهد الفرنسي.
مستقبل غامض
يختتم عام 2024 فصوله تاركًا فرنسا في مفترق طرق تاريخي، فالأزمة السياسية غير المسبوقة، وتعاقب أربع حكومات خلال عام واحد، والانقسامات العميقة في المجتمع الفرنسي، كلها عوامل تطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل النظام السياسي الفرنسي.
وفي ظل هذه التحديات المتعددة، يبدو أن فرنسا مقبلة على مرحلة من إعادة التفكير في نظامها السياسي وآليات الحكم فيها، في محاولة لإيجاد توازن جديد يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي في واحدة من أهم الديمقراطيات الأوروبية.