يركز المتفائلون بمسيرة التعاون الأوروبية على احتفال الاتحاد الأوروبي بمرور 65 عامًا على إقامة أول سوق أوروبية مشتركة، وبدء كرواتيا عام 2023 بفتح حدودها رسميًا أمام دول الاتحاد والانضمام لمنطقة شنجن، يرى الكثيرون أن الاتحاد يشهد حالة من الضعف نتيجة العديد من التحديات الأمنية والاقتصادية التي فرضها الوضع الجيوسياسي خلال عام 2022. وفي هذا السياق، أبرزت حادثة محاولة انقلاب مجموعة "مواطني الرايخ" التي نجحت السلطات الأمنية الألمانية في إحباطها أوائل ديسمبر 2022 عن واقعٍ سياسي جديد قد يشهده المعسكر الغربي خلال السنوات المقبلة بشكلٍ عام، والذي قامت دعائمه على أنقاض الحرب العالمية الثانية، وتعتبر الدولة الوطنية بمصالحها وحدودها قوام هذا الواقع، ومن المُمكن أن تغلب عليه سمة الفردانية والمصالح القومية للدول التي ستتطلع إلى ضمان تحقيق مصالحها الخاصة. وقد ازداد هذا الشعور القومي لدى العديد من الساسة الأوروبيين، الذين باتوا يبحثون عن مصالح بلادهم بدلًا من المصالح الأوروبية المشتركة بعد الحرب الروسية الأوكرانية التي بدأت نتائجها السلبية تنعكس على العالم بأسره خلال عام 2022. نحاول في هذا التحليل الاستشرافي رصد ملامح الانقسامات التي ستبدأ بها الدول الأوروبية عامها الجديد.
واقع أوروبي جديد:
شهد عام 2022 بروز اتجاه أوربي قومي قوي؛ إذ يؤمن البعض بضرورة تحرر السياسة الأوروبية من نتائج الحرب العالمية الثانية، والبدء في بناء قدرات أوروبية دفاعية تتجاوز حلف الناتو (NATO) الذي تهيمن عليه واشنطن، ويتطلع اتجاه جديد إلى تحرر كامل من قيود التحالفات، والبدء في بناء قدرات ذاتية وفق مصالح كل دولة. ونبرز فيما يلي مؤشرات نمو ذلك:
(*) الضيق من السياسات الأمريكية: يعتبر الأوروبيون، أن الموقف الأمريكي طوال الحرب الروسية الأوكرانية كان سلبيًا، ويتهمون واشنطن بتوريطهم في هذه الحرب باعتبارها الرابح الأكبر؛ حيث تقوم بتصدير الطاقة لهم بأسعار تتجاوز ما كانت تقدمه موسكو. وقد شهد عام 2022 نتيجة للسياسات الاقتصادية للبنك الفيدرالي الأمريكي، والإجراءات الحكومية الأمريكية بوجهٍ عام انهيارًا للعملة الأوروبية الموحدة (اليورو) أمام الدولار الأمريكي، وذلك لأول مرة منذ عشرين عامًا. وأثار إقرار الرئيس الأمريكي جون بايدن لقانون خفض التضخم حفيظة الدول الأوروبية لا سيَّما فرنسا التي طالبت بإصدار قانون شراء أوروبي مشابه لحماية المنتجات الأوروبية من المنافسة غير النزيهة.
يُضاف إلى هذا الانهيار، حالة الركود والتضخم الكبيرة التي عاشها الاقتصاد الأوروبي خلال عام 2022 في ظل التخوف وحالة انعدام اليقين التي سادت حول قدرة القادة الأوروبيين في توفير مصادر طاقة بديلة للإمدادات الروسية.
(*) نمو نمط الخلاف في العلاقات الأوروبية: طفت الخلافات بين الدول الأوروبية وبعضها على السطح خلال عام 2022؛ حيث باتت كل دولة تتخذ إجراءات الحماية لاقتصادها بشكلٍ منفرد مما تسبب في انزعاج بقية الدول، وبات التنافس بين بعض الدول الكبرى المؤثرة على عمل الاتحاد مُسيطر، وهو ما يظهر في العلاقات الثنائية بين كل من فرنسا وإيطاليا من جهة، وفرنسا وألمانيا من الجهة الأخرى.
(*) اتساع شعبية الاتجاهات اليمينية: شهد عام 2022 نموًا واضحًا في شعبية تيارات اليمين، وقد دفعت الحرب الروسية الأوكرانية نحو نمو هذا الاتجاه. وتؤمن هذه التيارات بمركزية فكرة الدولة والتحلل من الالتزامات المشتركة مثل محاولة الانقلاب التي تبنتها مجموعة "مواطني الرايخ" في ألمانيا. وبرز نمو هذا الاتجاه في نتائج الانتخابات المختلفة التي شهدتها أوروبا، مثل فرنسا التي شهدت وصول زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان لجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وحصولها على 41.45% من إجمالي الأصوات مقابل نسبة لا تتجاوز 34% في انتخابات 2017. وقد أسهمت لوبان في نجاح حزبها في الجمعية الوطنية، وفي إيطاليا سيطرت حركة إخوة إيطاليا على نتائج الانتخابات التشريعية، وفي المجر استطاع حزب فيدس اليميني الاحتفاظ بالسلطة. ويتخوف الساسة الأوروبيون من وصول التيارات اليمينية للسلطة لتقارب هذه التيارات مع سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
أبرز الخلافات:
مرَّت سنة 2022 على السياسة الأوروبية بالعديد من الخلافات حول الكثير من القضايا، وتتركز أغلب هذه الخلافات على الجوانب الاقتصادية والعسكرية للتعاطي مع الواقع الجديد الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية. نحاول فيما يلي إبراز أهم هذه الخلافات، التي من المحتمل أن تمتد آثارها على عمل السياسات الأوروبية خلال عام 2023.
(&) الخلاف الفرنسي-الإيطالي: شهد عام 2022 خلافًا فرنسيًا إيطاليًا محتدمًا، ازداد بعد وصول رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، التي تتهمها باريس بالتشدد إلى سُدة الحكم. وكانت قد انتقدت ميلوني سياسة باريس تجاه إفريقيا أثناء حملتها الانتخابية، ودعت إلى إبقاء المهاجرين في بلادهم لاستغلال ثرواتها بدلًا من نهبها، في اتهام صريح للسياسات الفرنسية تجاه القارة الإفريقية. وتتهم باريس إيطاليا بالإخلال بالتزاماتها الأوروبية، وكذلك مخالفة قانون البحار ولروح التضامن الأوروبي بعد رفض روما استقبال سفينة "أوشن فايكينج" الإنسانية لإنقاذ المهاجرين أوائل نوفمبر 2022. ورغم المساعي الحثيثة التي تبذلها المفوضية الأوروبية لتحديد لقاء يجمع بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيسة الوزراء الإيطالية لإذابة الجليد فيما بينهما، إلا أن هذه الجهود لم تُسفر عن شيء حتى الآن؛ حيث تؤكد فرنسا على ضرورة قدوم ميلوني لزيارة باريس أولًا، فيما ترد الحكومة الإيطالية، أن انشغالات ميلوني تحول دون ذلك. وبرزت هوة الانقسامات بين الجانبين بعد اعتذار ميلوني عن حضور القمة الأوروبية المصغرة التي انعقدت في النصف الأول من ديسمبر 2022والتي تشارك فيها الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط والتي كانت منعقدة في إسبانيا، بهدف تدارس معالجة أزمة الطاقة والحرب الروسية الأوكرانية، والعمل على التقريب بين الجانبين الفرنسي والإيطالي.ويبدو أن عام 2023 سيحتاج لمزيد من الجهود لتقريب وجهات النظر بين الحكومتين الفرنسية والإيطالية بعد حالة الفتور التي طغت على علاقات الدولتين في عام 2022.
(&) الخلاف التركي-اليوناني: يُلقي الخلاف التركي اليوناني بظلاله على السياسة الأوروبية خلال عام 2023 لا سيما أن الدولتين تتمتعان بعضوية حلف شمال الأطلسي (NATO)؛ حيث تشهد منطقة شرق المتوسط وبحر إيجة، حالة من التنافس بينهما بسبب حقوق التنقيب عن النفط والغاز. ويتخوف الأوروبيون من اندلاع أي اشتباك بين الجانبين في أي لحظة. وتتهم تركيا أثينا بتوتير العلاقات بينهما، فيما تتهم اليونان أنقرة بالتعدي على سيادتها على الجزر التابعة لها. وقد يفرض هذا الملف تحديًا على أوروبا بشكلٍ عام وحلف الناتو على وجه الخصوص خلال عام 2023، خاصة في ضوء تزايد وتيرة السعي بين الجانبين لاستكشاف حقول النفط والغاز في منطقة شرق المتوسط.
(&) الخلاف الفرنسي-الألماني: تُعد وحدة المواقف الفرنسية الألمانية، صمام الأمان لاستمرار الاتحاد الأوروبي؛ إذ تمتلك الدولتان أكبر اقتصاديين في الاتحاد. ومن الملاحظ نمو نمط الخلاف بين الجانبين في ضوء وجود أزمة ثقة بينهما. ومن المحتمل أن يشهد الاتحاد نموًا لنمط العلاقات الفردية بين دول أوروبا والعالم بدلًا من فكرة التكتل الأوروبي الموحد. وهناك العديد من أسباب الخلاف بين الجانبين أهمها؛ رفض برلين تخفيض أسعار الطاقة اصطناعيًا باعتباره أمرًا يضر بالاقتصاد. بالإضافة إلى ذلك، وقعت ألمانيا على هامش مؤتمر حلف الناتو الأخير مع 14دولة أوروبية أخرى مشروع "مبادرة درع السماء" (Sky Shield)، وهو مشروع مشترك للدفاع الجوي من دون فرنسا التي تعمل مع إيطاليا على مشروع مشابه اسمه "مامبا".
(&) تسقيف أسعار الطاقة الروسية: شهد عام 2022 تحديات أوروبية جسيمة، فيما يتعلق بتسقيف مصادر الطاقة الروسية؛ حيث كان هذا الملف شاهدًا على انقسام أوروبي حاد. وقد تجاوزت دول الاتحاد الأوروبي، ومجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى وأستراليا حالة الانقسام بشأن القرار، ووصلت إلى تسقيف أسعار النفط الروسية المنقول بحرًا عند 60 دولارًا كحد أقصى، وذلك بهدف إضعاف عائدات موسكو من النفط للضغط عليها لوقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا. وتعمل الدول الأوروبية حاليًا على محاولة وضع سقف للغاز الروسي. وفي ظل محاولات القادة الأوروبيين لخفض أسعار الغاز الروسية، تشهد مصانع أوروبا حالة من الركود نتيجة التخوف من توفر مصادر الطاقة بشكلٍ أساسي. وتعارض كل من ألمانيا وهولندا والدنمارك هذا الإجراء، باعتبار أن السوق الأوروبية لم تجد مصادر بديلة تكفي احتياجاتها للغاز الروسي حتى الآن، وتنقسم دول الاتحاد كذلك على مسألة تحديد سقف لأسعار الغاز المستخدم في توليد الكهرباء. ويبدو أن عام 2023 سيكون قاسيًا على الدول الأوروبية فيما يتعلق بتأمين مصادر الطاقة البديلة، لا سيَّما إذا أكملت روسيا تصعيدها في الحرب الأوكرانية.
(&) إجراءات الدعم الاقتصادي أحادية الجانب: يشهد ملف الدعم الاقتصادي الذي توفره الحكومات الأوروبية لاقتصاداتها، حالة من الجدل والامتعاض بين الدول الأوروبية وبعضها. في هذا السياق، تعرضت برلين لانتقادات حادة من القادة الأوروبيين بسبب إطلاقها برنامج دعم لاقتصادها بلغ 200 مليار يورو للتخفيف من الأعباء الناجمة عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء. واتهمت العديد من الدول الأوروبية مثل فرنسا الحكومة الألمانية بأنها تضر بمبدأ المنافسة، لا سيّما أن الدول المعارضة لن تتمكن من اتخاذ خطوات كهذه، وتُتهم ألمانيا كذلك بأنها تتخذ سياسات أحادية الجانب دون الرجوع لبقية دول الاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن يطغى هذا الخلاف على السياسة الأوروبية خلال عام 2023 خاصة في ضوء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار أزمة الطاقة بأوروبا، واحتمال تصاعدها.
(&) سياسة الدفاع الأوروبية: يختلف الأوروبيون بشأن مسألة الاتفاق حول تشكيل قوة أوروبية مشتركة. وتبرز في هذا الاتجاه رؤيتان؛ حيث تعتبر الأولى أن واشنطن وحلف الناتو لن يتمكنا من الدفاع عن أوروبا في حال تعرضت لخطر مثل الذي تعرضت له أوكرانيا، ويستند أنصار هذا الاتجاه على رؤية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لعمل الحلف، وضرورة أن تدفع أوروبا له نظير الحماية التي يقدمها لهم. على الجانب الآخر، تعتبر أطراف أن فكرة إنشاء قوة أوروبية مشتركة مكلفة ومعقدة، خاصة أن أوروبا لديها تحالف عسكري كبير، وهو حلف الناتو الذي يعتبرونه كفيلًا بالدفاع عن حدود الحلف نتيجة أي تهديدات. ومن المرتقب أن يتسع النقاش حول هذه النقطة خلال عام 2023، خاصة في ضوء استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، ونمو التهديدات التي تتعرض لها بعض دول الحلف مثل بولندا.
(&) العلاقات الأوروبية-الروسية: تشهد العلاقات الأوروبية الروسية، حالة من البرود منذ بدء روسيا لعمليتها العسكرية في أوكرانيا. وفي حين تميل فرنسا وألمانيا والمجر لمنع أي تصعيد عسكري مع موسكو، عكس بعض دول شرق أوروبا مثل بولندا التي كانت ترغب في التصعيد وفرض منطقة حظر جوي على أوكرانيا، وتعد بريطانيا ودول البلطيق كذلك من أكثر المتشددين تجاه روسيا. وفي السياق ذاته، رفض الرئيس الفرنسي ماكرون فكرة إرسال أسلحة نوعية إلى أوكرانيا حتى لا تظهر أوروبا وكأنها مشتركة في الحرب. وتركز برلين على ضرورة فتح قنوات اتصال دبلوماسية مع موسكو لبناء سلام دائم في القارة الأوروبية. ومن المُمكن، ولو بقليل من التفاؤل، أن يشهد هذا الملف حلحلة على الأقل خلال عام 2023 لا سيّما أن أبرز دول الاتحاد الأوروبي مثل باريس وبرلين تميل إلى ضرورة فتح قنوات اتصال مع الرئيس الروسي بوتين.
(&) العلاقات الأوروبية الصينية: أثارت خطوة ألمانيا بالسماح لشركة الشحن الصينية " كوسكو شيبينج هولدنجز" بالاستثمار في أكبر ميناء في ألمانيا امتعاضًا أوروبيًا، خاصة من قِبل فرنسا، لا سيَّما أن باريس اعتبرت في وقت سابق أن السماح لبيكين بالاستثمار في البنية التحتية الاستراتيجية الأوروبية، بمثابة الخطأ الاستراتيجي. وازداد الخلاف بعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين في 4 نوفمبر من العام الماضي لتعزيز التعاون دون التنسيق مع بقية دول الاتحاد. ويخشى الزعماء الأوروبيون من تأثير التقارب الصيني الألماني سلبيًا على المصالح الأوروبية المشتركة.
في الختام، يبدو أن عام 2023 لن يكون سهلًا على السياسة الأوروبية، التي تشهد شقاقًا بين الدول الأوروبية وبعضها بسبب الخلاف حول استراتيجية الدفاع الأوروبية، وسياسات خفض التضخم، والتخوف من تراجع النزاهة في المنافسة الاقتصادية، وذلك في ضوء الخلاف حول تسقيف أسعار الطاقة الروسية. إضافة إلى ذلك، قد تكون هناك بوادر حرب تجارية بين واشنطن وبروكسل لا سيَّما بعد الإقرار الأولى لقانون خفض التضخم الذي تعتبره باريس يمثل إضرارًا بمبدأ المنافسة النزيهة بين الطرفين، ويضر بالمنتجات الأوروبية التي لن تصمد أمام تنافسية المنتجات الأمريكية. ومما يزيد الأمر تعقيدًا، استمرار الحرب الروسية الأوكرانية في ظل عدم وجود أي بوادر لحل الأزمة عبر الحوار.