طرح بيان البرلمان الأوروبي الصادر في 25 نوفمبر 2022، تجاه حقوق الإنسان بمصر، ضرورة مُلحة تتعلق ببحث مسألة ازدواجية معايير حقوق الإنسان الأوروبية، وكيف حاولت دول القارة العجوز توظيف هذا الملف لخدمة أجندتها السياسية، وتعميم نموذجها السياسي؛ فلم تكن يومًا مطالبات احترام حقوق الإنسان التي تُطلقها الدول الأوروبية والغربية تجاه دول العالم التي تخالف أجندتها السياسية سوى سلاح مزدوج توجهه وقتما شاءت، وحيثما أرادت؛ إذ تمكن المتابعون في أي مكانٍ بفضل العولمة وتطور أدوات النقل المرئي والمسموع، وكذلك وسائل التوثيق والأرشفة ملاحظة وتتبع الازدواجية الأوروبية التي حوَّلت حقوق الإنسان من قيم ذات طبيعة إنسيَّة إلى مجرد أداة يتم توظيفها لممارسة الضغوط ومحاولة السطو على القرار السياسي في دول الشرق لتحقيق مصالحها.
تأسيسًا على ما سبق، نحاول في هذا التحليل رصد واقع حقوق الإنسان الأوروبية، وإبراز مسألة الازدواج في هذه المعايير، وكيف يتم توظيفه لخدمة الأجندة الخاصة لهذه الدول؟
حقوق الإنسان في السياسة الأوروبية:
تحاول أوروبا فرض نموذجها في حقوق الإنسان، الذي يرتكز على تعزيز الفردانية وإعلاء اللذة والجسمانيّة، وهو ما يتنافى مع العديد من القيم والخصوصيَّات المختلفة للعديد من المجتمعات، مثل المجتمعات العربية والإسلامية وكذا القيم والمجتمعات الآسيوية التي ترفض هذه الادعاءات، وتعتبر أن محاولات تعميم هذا النموذج سيقضي على مفهوم الأسرة وتماسكها الاجتماعي، انطلاقًا من ذلك، بات توظيف حقوق الإنسان سلاحًا أيديولوجيًا يتم توجيهه ضد الدول لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية. وساهم النظام العالمي "أحادي القطبية" في شرعنة التدخل بشئون الدول الداخلية، بهدف التأثير على سياسات الدول أو تقديم السند القانوني لاجتياحها في بعض الأحوال فقط لهدم نظام قائم دون التفكير في النظام الجديد الذي سيحقق الهدف من هذا التدخل، وهو ما كان جليًا في حالات كالعراق 2003، وليبيا 2011.
في هذا السياق، بدا عدم احترام الأوروبيين للخصوصيَّات الثقافية رغم ادعاءات التنوع في مونديال قطر 2022؛ دخلت الدول الأوروبية في صراع مُحتدم مع الاتحاد الدولي لكرة القدم "FIFA"، ودولة قطر، بسبب رفض الدولة المنظمة بالسماح بدعم المنتخبات الأوروبية للمثلية الجنسية، باعتباره منافيًا للقيم العربية والإسلامية، وهو الأمر الذي رفضته العديد من المنتخبات الأوروبية، مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا. دعا ذلك جياني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، لانتقاد الغرب، واتهامهم بعدم احترام خصوصيَّات الدول، والسماح فقط لسماع صوتهم باعتبار أنهم يعيشون وحدهم في هذا الكوكب، وهو ما يتنافى مع أساسيَّات حقوق الإنسان التي يتشدقون بها.
واقع اللاجئين في أجندة حقوق الإنسان الأوروبية:
كان اللاجئون في المنطقة ضحيَّة للسياسة الأوروبية والدولية؛ حيث دفعوا ثمنًا باهظًا نتيجة حالات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي التي أصابت المنطقة بعد 2011. وبرز ذلك في محاولات استغلالهم بالسياسة الخارجية الأوروبية، وإقامة معسكرات اللجوء ونقاط التفتيش خصيصًا لهم، رغم فتح كل الأبواب لأمثالهم من الأوكرانيين إضافة إلى ذلك؛ تركهم ضحية لأجواء البرد القارس كما كان على الحدود البيلاروسية البولندية، أو لأسماك البحر كما كان في بحري إيجة والمتوسط، والتقاعس في اتخاذ إجراءات لمساعدتهم. ونبرز ذلك بالتفصيل فيما يلي:
(*) اضطهاد اللاجئين: أثبتت الدول الأوروبية في تعاملها مع اللاجئين على حدودها مع الدول غير الأعضاء في منطقة شنجن، مثل حدود بيلاروسيا وبولندا، والحدود الأوروبية مع تركيا زيف مسألة حقوق الإنسان في الاستراتيجية الأوروبية؛ حيث استخدمت قوات الأمن كل وسائل العنف ضد طالبي اللجوء من الشرق الأوسط دون غيرهم مع عدم مراعاة للأطفال والنساء الذين كانوا يمثلون أغلبية اللاجئين من مناطق النزاع في الشرق الأوسط. وعلى العكس من ذلك، عند اندلاع الحرب بين كييف وموسكو أعلنت أوروبا ترحيبها، وفتح حدودها للاجئي أوكرانيا، ومعاملتهم كالأوروبيين، وهو ما يُظهر بجلاء ازدواجية المعايير الأوروبية، وأن ثمَّة حقوق إنسان مختلفة تخص الأوروبيين ذوي البشرة البيضاء دون غيرهم، وأن ممارسة الضغوط على الدول لجني أرباح سياسية واقتصادية جزء من الأكذوبة الأوروبية الكبرى حول حقوق الإنسان التي تحولت إلى قضيةٍ للاستهلاك العالمي. وفي هذا السياق، تستضيف العديد من الدول العربية مثل مصر، التي تتعرض لهجمة شرسة من دوائر القرار الأوروبية ملايين اللاجئين من إفريقيا والعراق وسوريا واليمن وغيرها، دون أن تنشئ لهم نقاط تفتيشية أو معسكرات لجوء كما تفعل بعض الدول الأوروبية التي باتت تستخدمهم كطرف مفعول به في سياساتها الخارجية.
(*) استغلال معاناة اللاجئين في العلاقات الأوروبية التركية: لم يكن خفيًا على أحد استغلال تركيا ودول الاتحاد الأوروبي لورقة اللاجئين في علاقتهما الثنائية التي شهدت شدًا وجذبًا طوال السنين الماضية؛ حيث تبنت تركيا سياسة الباب المفتوح لاستقبال اللاجئين من سوريا وأفغانستان والعراق والعديد من مناطق النزاع في المنطقة، حتى وصل عددهم أكثر من خمسة ملايين لاجئ، وباتت تستخدمهم كورقة ضغط رابحة لابتزاز دول الاتحاد الأوروبي التي تراجعت عن ممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على أنقرة.
وفي السياق ذاته، أقدمت دول الاتحاد الأوروبي على تقديم الإغراءات السياسية والاقتصادية لحكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لإيقاف موجة الهجرة غير الشرعية نحو دول الاتحاد، ومن هذه الإغراءات اتفاق أنقرة وبروكسل على دعمٍ يُقدَّر بستة مليارات يورو، بالإضافة إلى تحقيق أنقرة مكاسب تُسهل على مواطنيها الحصول على تأشيرة شنجن لدخول دول الاتحاد، وهو الأمر الذي جعل بعض الحقوقيين يطلقون عليها تأشيرات دخول مرَّت على جثث طالبي اللجوء.
(*) التورط في تعمد إغراق المهاجرين، والحيلولة دون وصولهم لحدود دول الاتحاد: برزت العديد من التقارير الاستخباراتية والحقوقية والاتهامات المتبادلة بين دول الاتحاد نفسها، عن تورط وكالة حماية الحدود الأوروبية "فرونتكس" في اتخاذ قرارات وإجراءات أودت بغرق آلاف اللاجئين في بحري إيجة والمتوسط، أو حتى امتنعت على الأقل في تقديم إجراءات الحماية التي كانت ستكفل إنقاذ آلاف الأرواح ممَّن قضوا حياتهم في سبيل الوصول إلى أوروبا المتخيلة.
(*) النقاط الساخنة ومعسكرات اللجوء اختراق لحقوق الإنسان الأساسية: مثَّلت خطوة الاتحاد الأوروبي بإنشاء نقاط ساخنة لأخذ بصمات اللاجئين والتدقيق في هوياتهم انتقادًا لمنظمات حقوق الإنسان العالمية، لا سيما منظمة العفو الدولية التي اعتبرت في أحد تقاريرها أنه يحدث انتهاك وتضليل وطرد اللاجئين في هذه النقاط، وتُشير التقارير كذلك إلى إجبار اللاجئين واستخدام القوة المفرطة للحصول على المعلومات عن طريق ممارسة العنصرية والانتهاك الجسدي، مما أودى إلى البعض بالدخول في أزمات نفسية طويلة من هول ما تعرضوا له.
حقوق الإنسان أوروبيًا.. مؤشرات ودلالات:
لطالما صدَّرت أوروبا نفسها للعالم كراعية لحقوق الإنسان، وهو ما يتنافى مع العديد من الشواهد التي تؤكد الواقع الأسود لحقوق الإنسان الأوروبية، والتي يغلب عليها طابع الازدواجية، والوظائفيَّة. وسنبرز هذه المؤشرات والدلالات فيما يلي:
(*) ازدواجية الملاعب بين الأعلام الأوكرانية والفلسطينية: لطالما رفع الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، شعارات تدعو إلى عدم إدخال السياسة في الرياضة، وفي هذا الصدد رفض الأمن الفرنسي رفع مشجع تونسي للعلم الفلسطيني في ملعب حديقة الأمراء، سبتمبر 2022، بحجة أنها شعارات سياسية تنافي تعليمات الفيفا. وعلى النقيض من ذلك، سمحت الدوريَّات الأوروبية الكبرى برفع علم أوكرانيا إثر الحرب الروسية على أوكرانيا، لمحاولة صناعة رأي عام عالمي معادي لروسيا ومتعاطف مع التوجهات الأوروبية، لا سيما أن هذه الدوريَّات تتابعها جماهير غفيرة تمتد من شرق الأرض إلى غربها، وهو ما يُعد فرصة لفرض وجهة النظر الغربية والترويج لها. يؤكد ذلك ازدواج جديد في المعايير الأوروبية التي يعتبرها الكثير من المحللين أنها مُفصلة على مقاس الأوروبيين وحدهم وليست مُجردة كما يدعون.
(*) استخدام العنف ضد المحتجين السلميين في فرنسا: دائمًا ما تدعو أوروبا إلى احترام حقوق الإنسان، لا سيما الحق في التجمع والتظاهر بحجة أنها تجمعات سلمية، وهو الأمر الذي لم تقم به باريس في تعاملها مع حركة السترات الصفراء التي قُوبلت احتجاجاتها ومسيراتها السلمية بقمع وعنف شديدين من قوات الأمن الفرنسية، وهو ما يرفع الستار عن ادعاءات باريس باحترام حقوق الإنسان، رغم مطالبتها ومن أمامها الاتحاد الأوروبي ومنظماته المختلفة باحترام حقوق التجمع السلمي. تجدر الإشارة إلى أن فعاليات حركة السترات الصفراء كانت للاحتجاج على ارتفاع أسعار الوقود.
(*) رفض الحالات الاستثنائية: ترفض الدول الأوروبية الحالات الاستثنائية كحالات الطوارئ، وتعتبرها طريقًا لانتهاك حقوق الإنسان. وعلى الرغم من ذلك، أعلنت باريس حالة الطوارئ عام 2016، وسمحت بانتشار قواتها العسكرية المدججة بالأسلحة الثقيلة في الشوارع والميادين العامة، بعد تعرضها وبعض العواصم الأوروبية لحالات إرهاب فردي لا يُمكن مقارنتها بحالة الإرهاب والعنف التي تعرضت لها دولة كالعراق ومصر التي عانت منذ عزل تنظيم الإخوان الإرهابي في يونيو 2013، وهددت حالة الإرهاب كيان الدولة المصرية ووجودها.
وفي هذا الاتجاه، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في تصريحات سابقة له، 26 أبريل 2022، تضحية القاهرة بثلاثة آلاف شهيد من القوات الشرطية والعسكرية في حربها على الإرهاب، بالإضافة إلى ما يقرب من 13 ألف مصاب.
وفي الوقت الذي اتخذت فيه العواصم الأوروبية قرارات استثنائية بسبب حالات دهس وطعن فردية، إلا أنها كانت تهاجم إجراءات القاهرة التي كانت تحارب تنظيمات راديكالية كالقاعدة وداعش على حدودها الغربية؛ حيث الانفلات الأمني في ليبيا، ومحاولات باءت بالفشل لبعض التنظيمات الإرهابية من الاستقرار في منطقة محدودة بشبه جزيرة سيناء ذات التضاريس الوعرة التي تساعدهم على التخفي للقيام بعمليات دموية ضد الكمائن والمدنيين على حد سواء. ويُعبر ذلك عن أوج حالات التناقض والثنائية التي باتت تُمثل أساس سياسات أوروبا الخارجية مؤخرًا.
(*) استضافة التنظيمات الإرهابية وتوظيفها خارجيًا: على الرغم من رفع الدول الأوروبية شعارات مكافحة الإرهاب، والالتزام بالتعاون مع دول العالم في هذا الاتجاه، إلا أننا نجد بعض الاقتصادات الأوروبية، كالاقتصاد البريطاني يعتمد على استثمارات هذه الجماعات؛ فعلى سبيل المثال يتحكم مكتب تنظيم الإخوان الإرهابي بلندن في ما يزيد على 60% من أنشطة الإخوان المسلمين المختلفة، وعلى الرغم من وجود عناصر التنظيم فعليًا في تركيا، إلا أن المملكة المتحدة باتت المسرح الفعلي للتحركات والتفاعلات بين فروع التنظيم الدولي، يستغلها في إدارة أصوله الاقتصادية المنتشرة في العديد من الدول الأوروبية. وتشير التقارير إلى استضافة المملكة المتحدة لأكثر من 35 ألف عنصر متطرف، منهم 3000 عنصر خطر على الأقل. وأثبتت الدراسات الحجم الكبير الذي انضم من أوروبا لتنظيم داعش الإرهابي، وهو ما يؤكد خلل في إجراءات مكافحة الإرهاب التي تتبعها أوروبا.
(*) الغاز والطاقة أهم من حقوق الإنسان لدى أوروبا: يُظهر الاهتمام الأوروبي بقضايا حقوق الإنسان في بعض الدول الأوروبية، باعتبارها من القيم العليا التي لا يُمكن التغاضي عنها، ازدواجًا واضحًا، لا سيما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتعطل سلاسل إمداد الطاقة الروسية، وهو ما جعل الأوروبيين يلهثون وراء مصادر الطاقة، ومن مؤشرات ذلك تنازلهم عن حقوق الإنسان البيئية، وتراجعهم عن تعهداتهم في حماية البيئة وعودتهم لاستخدام الفحم وإعادة تشغيل محطات الطاقة النووية. وتُعد مؤشرات زيارات قادة أوروبا وتواصلهم مع العديد من دول المنطقة التي يتهمونها باختراق حقوق الإنسان كالقاهرة والرياض والسعودية وأبوظبي والجزائر، لمساعدتهم في تجاوز هذا الشتاء، مؤشرًا مهمًا لازدواجية معاييرهم وتقديمهم لمصالحهم على أي شيء. يُضاف لذلك، لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، على هامش قمة شرم الشيخ للمناخ، رغم وصفه له مسبقًا بالديكتاتور، وكذلك فعل الأوروبيون الأمر نفسه مع دول كإيران التي حاولوا التوصل إلى اتفاق نووي معها لتعويض حصة موسكو من الغاز، وذلك رغم الملاحظات الكبيرة على أداء إيران سواء على مستوى حقوق الإنسان أو حتى ملفها النووي. يعني ذلك بشكل أو بآخر أن أوروبا لا تنظر إلا إلى مصالحها، وأن حقوق الإنسان ما هي إلا صورة لتجميل صورة الساسة الأوروبيين سواء أمام ناخبيهم أو المجتمع الدولي.
في الختام، كان بيان مجلس النواب المصري للرد على تقرير البرلمان الأوروبي حول حقوق الإنسان بمصر، كاشفًا عن الازدواجية الأوروبية في التعاطي مع هذا الملف، لا سيما أن أوروبا التي تنتقد اليوم حقوق الإنسان، هي نفسها كانت مشاركة في قمة المناخ بشرم الشيخ "كوب 27"، نوفمبر 2022، ورأت بأعيُنها نتاج حالات استقرار الدول، وكيف انعكس ذلك على الاستقرار العالمي وقضاياه الأساسية كالأمن والبيئة. وأن أوروبا التي ساهمت في انهيار الدولة بليبيا وسوريا، لم تستطع استيعاب عدد متواضع من هؤلاء اللاجئين الذين عانوا من الأحداث في بلادهم وعانوا أكثر في طريق وصولهم للجنة الأوروبية المُتوهمة.
في السياق ذاته، قد لا تُدرك أوروبا أنها لن تكون ولا العالم بأسره قادرين على استقبال موجة جديدة من الهجرة نتيجة حالة عدم استقرار جديدة في المنطقة؛ فالأحرى أن تكون المناقشات حول سياسات وأوضاع الدول في سياق جو من بناء الثقة والحوار، لا سيما أن القاهرة نفسها اتخذت خطوات جديَّة لحسم هذا الملف؛ إذ أطلقت حوارًا وطنيًا بين الأطياف السياسية المصرية، ومن أبرز ثماره حتى الآن، فتح الباب على مصراعيه لإعادة تأهيل دور الإصلاح، وخروج العديد من الموقوفين على ذمم قضايا سياسية وأمنية سواء بقرارات من النيابة العامة المصرية أو بعفو من الرئيس المصري نفسه في ضوء اختصاصاته التي حددها له القانون.