عُقدت في العاصمة الإيطالية روما، فعاليات النسخة الثامنة من منتدى "حوارات روما المتوسطية" في الفترة من 1- 3 ديسمبر 2022، بالشراكة ما بين الحكومة الإيطالية والمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية. وعُقد المنتدى برئاسة الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، وبمشاركة رئيس جمهورية النيجر، وعدد من وزراء خارجية دول المتوسط، فضلاً عن مشاركة ممثلي المنظمات الدولية والإقليمية، وممثلي مؤسسات البحث والتفكير على ضفتي البحر المتوسط، وذلك بهدف تبادل الرؤى حول سبل تحقيق الاستقرار الإقليمي، وتعزيز الشراكات الاقتصادية والتعاون البناء، واقتراح الاستراتيجيات الكفيلة بمواجهة التهديدات المشتركة في المنطقة الأورومتوسطية.
تحديات ماثلة:
عكست المناقشات خلال جلسات المنتدى العديد من التحديات المشتركة، التي تواجه منطقة المتوسط بشماله وجنوبه. ويمكن الإشارة إلى أبرز تلك التحديات في التالي:
(*) الأزمة الأوكرانية: تشكل الأزمة الأوكرانية، التحدي الأبرز الذي يواجه دول المتوسط شمالاً وجنوباً. ففي شمال المتوسط عكست الأزمة هشاشة الأمن الأوروبي، وعدم قدرته على تجاوز تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، كما قوضت تلك الأزمة من قدرة مدخل الاعتماد المتبادل والتعاون الدولي كأحد ركائز العولمة على تجاوز الخلافات وحلها، حيث انقسمت أوروبا ما بين تيارين حول كيفية التعامل مع تداعيات الأزمة، أحدهما يدعو للحوار والمفاوضات مع روسيا لإنهاء الأزمة وتتزعمه فرنسا، والآخر يدعو إلى دعم أوكرانيا عسكرياً لمواجهة روسيا وتتزعمه بريطانيا وألمانيا. أما دول جنوب المتوسط فقد عانت من تبعات تلك الأزمة لاسيما فيما يخص ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء بشكل غير مسبوق. لذلك جاءت دعوة سامح شكري وزير الخارجية المصري أمام المنتدى إلى أهمية العمل الدولي نحو تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، والعمل على تعزيز الآليات الدولية للتخفيف من تداعيات هذه الأزمة على الدول النامية.
(*) الأزمة الليبية: تشكل الأزمة الليبية أحد التحديات التي تواجه منطقة المتوسط، لاسيما وأنها تشكل أحد مسارات الهجرة غير المشروعة لدول شمال المتوسط، في ظل النزوح الكبير من دول الساحل والصحراء من مناطق الصراعات التي أضحت ملاذاً بديلاً للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة في إفريقيا، كما أن ليبيا تزخر بالموارد الطبيعية وفى مقدمتها النفط، الذي من الممكن أن يسهم في الحد من تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا على المدى المتوسط لتعويض النفط الروسي بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية. كما يمثل استقرار ليبيا ضمانة رئيسية للاستقرار في دول شمال المتوسط، وفى مقدمتها إيطاليا على وجه التحديد. من هنا جاء تأكيد أنطونيو تايانى وزير الخارجية الإيطالي، خلال فعاليات المنتدى على أن ازدهار واتحاد واستقرار ليبيا، هو مصلحة استراتيجية لإيطاليا، مؤكداً أن ليبيا بلد صديق قريب من إيطاليا بشكل خاص، ولديه القدرة والموارد على إعادة ازدهار البحر المتوسط، ومن المصلحة الاستراتيجية لإيطاليا، أن ترى ليبيا موحدة ومستقرة ومزدهرة.
(*) أمن الطاقة: يشكل أمن الطاقة، أحد أبرز التحديات التي تواجه منطقة المتوسط، لاسيما وأن أوروبا تعتمد بشكل كبير على استيراد احتياجاتها من النفط والغاز، حيث تستورد 40 في المئة من إجمالي استهلاكها للغاز الطبيعي من روسيا، كما تعاني دول جنوب المتوسط من ارتفاع أسعار الطاقة التي انعكست بشكل كبير على أسعار السلع الأساسية. لذلك يصبح توجيه الاستثمارات الأوروبية إلى دول جنوب المتوسط بديلاً ملائماً للحد من تبعات الأزمة الأوكرانية على أمن الطاقة الأوروبي. من هنا جاء تأكيد سامح شكري وزير الخارجية خلال فعاليات المنتدى على أن إمكانات مصر كمركز إقليمي للطاقة هائلة.
(*) الأمن الغذائي: يشكل الأمن الغذائي أحد التحديات التي تواجه دول جنوب المتوسط منذ اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وهو الأمر الذي عبرت عنه منظمة الفاو عندما أشارت إلى أن مؤشر أسعار الغذاء العالمي بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق في مارس 2022، وهو أعلى مستوى منذ إنشاء الفاو في الأربعينيات من القرن الماضي. وربما يعود ذلك لكون منطقة البحر الأسود تعد "سلة خبز العالم"، حيث تستحوذ كل من روسيا وأوكرانيا معاً على 19 في المئة من صادرات القمح العالمية، 19 في المئة من صادرات الذرة، و87 في المئة من صادرات نبات عباد الشمس. في المقابل لا تعاني دول شمال المتوسط من أزمة غذاء، فوفقاً لتقرير صادر عن البرلمان الأوروبي قبل اندلاع الحرب، فإن صادرات الاتحاد الأوروبي من الأغذية الزراعية إلى روسيا بلغت 3.7 في المئة، في حين بلغت واردته الغذائية من روسيا 1.4 في المئة. كما استحوذت أوكرانيا على 36 في المئة من صادرات الحبوب إلى الاتحاد الأوروبي. لذلك ثمة اتجاه تبلور خلال فعاليات المنتدى يدعو إلى أهمية دعم الدول المتضررة من أزمة الغذاء، والعمل على تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتفعيل مبادرات عالم خالٍ من الجوع.
(*) التغيرات المناخية: تشكل التغيرات المناخية، أحد التحديات المشتركة التي تواجه منطقة الأورومتوسطية، فدول الاتحاد الأوروبي تأتى في المرتبة الثالثة في حجم غازات الاحتباس الحراري الملوثة للبيئة بعد الصين والولايات المتحدة الأمريكية. لذلك تعد المنطقة من أكثر مناطق العالم تأثراً بظاهرة الاحتباس الحراري، والتي سيكون لها تداعياتها المباشرة على زيادة معدل الفقر المائي وتنامي معدلات النحر على المدن الشاطئية على ضفتي المتوسط. وهو الأمر الذي يتطلب ترجمة ما أقرته الدول المشاركة في قمة المناخ COP27 بشرم الشيخ في نوفمبر 2022 بإنشاء صندوق للخسائر والأضرار لدعم الدول المتضررة من تغيرات المناخ، والذي اعتبره ممثلو عدد من الدول بداية لتحقيق العدالة المناخية.
استجابة مشتركة:
تنوع التحديات التي تواجه منطقة الأورمتوسطية، تتطلب استجابة مشتركة ما بين دول الشمال والجنوب لتحقيق السلام الإقليمي واستعادة الأمن والاستقرار لعل أولها: الحد من سلوك معتنقي أفكار اليمين المتطرف في أوروبا، لاسيما وأن تلك التيارات تدعو إلى إثارة التمييز العنصري ضد المهاجرين إلى دول شمال المتوسط باعتبارهم أحد الأزمات التي تواجه الاندماج والاستقرار في المجتمعات الأوروبية، كما تتبني تلك التيارات الدعوة إلى إعادتهم لمواطنهم الأصلية. وثانيها،توفير الدعم الأوروبي اللازم للمساهمة في تسوية الصراعات في دول الأزمات العربية وفي مقدمتها الأزمات السورية والليبية واليمنية، من خلال الحفاظ على وحدة وسلامة أراضي تلك الدول، وإعادة الاعتبار لدور الدولة الوطنية، ومغادرة القوات الأجنبية والمرتزقة وتوحيد المؤسسات وإعادة بنائها ومنع ازدواجيتها تفادياً للصراع بينها. وثالثها، المساعدة في تجفيف منابع تمويل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة ماليًا وإعلاميًا. وذلك من خلال تجريم استضافة منصاتها الإعلامية على الأراضي الأوروبية، ومنعها من بث سمومها وأفكارها الهدامة، التي تزيف الحقائق من خلال ترويج الأكاذيب والمغالطات.
مجمل القول، إن منتدى حوارات روما المتوسطية، وما عكسه من مناقشات جادة في محاوره الأربعة "الرخاء المشترك، والأمن المشترك، والهجرة، والمجتمع المدني والثقافة"، أبرز طبيعة التهديدات المشتركة التي تواجه دول شمال المتوسط وجنوبه، بما يتطلب استجابة بناءة لمواجهة تلك التحديات على أرض الواقع، من خلال تعزيز الشراكة الأورومتوسطية ما بين ضفتي المتوسط، لدعم اقتصادات دول الجنوب التي تعاني من أزمات متتالية بسبب جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية التي عمقت من معاناة شعوب دول شمال المتوسط وجنوبه على حد سواء.