يشهد الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن أزمة داخلية عميقة تهدد وحدته وقدرته على مواجهة التحديات العالمية، تكمن جذورها في الخلاف الحاد بين فرنسا وألمانيا، القوتين الرئيسيتين في الاتحاد، حول كيفية التعامل مع التهديدات الاقتصادية والجيوسياسية المتزايدة.
وفي فعالية أقيمت مؤخرًا في العاصمة الألمانية برلين، برز الخلاف بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس بشكل جلي، إذ إنه وفقًا لصحيفة "بوليتيكو" الأوروبية، حذر ماكرون من أن الاتحاد الأوروبي "قد يموت" إذا استمر في اتباع نهج التجارة الحرة التقليدي، مضيفًا أن أوروبا ستجد نفسها "خارج السوق" في غضون عامين أو ثلاثة أعوام، ما لم تتبنَ سياسات أكثر حِمائية.
في المقابل، اتخذ المستشار الألماني موقفاً أكثر تحفظاً، إذ أكد أن الجهود المبذولة لحماية الصناعات الأوروبية من الممارسات التجارية غير العادلة "يجب ألا تؤدي إلى إلحاق الضرر بأنفسنا".
ويتجلى هذا الموقف الألماني بوضوح في معارضة برلين لفرض رسوم جديدة على السيارات الكهربائية الصينية، إذ من المتوقع أن تصوت ضد هذا الإجراء في اجتماع مهم للاتحاد الأوروبي.
الانتخابات الأمريكية
يأتي الخلاف الفرنسي-الألماني في وقت بالغ الحساسية على الصعيد العالمي، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تتزايد المخاوف من احتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
وتجدر الإشارة إلى أن ترامب له سجلٌ حافلٌ في التعامل بصرامة مع الاتحاد الأوروبي في قضايا التجارة، واقترح فرض رسوم جمركية شاملة جديدة حال فوزه بالانتخابات.
ولكن حتى في ظل إدارة الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن، اتجهت السياسة الأمريكية بشكل ملحوظ نحو الحِمائية، إذ أعطت إدارة بايدن الأولوية للشركات المحلية في استثمارات صناعية ضخمة تقدر بمئات المليارات من الدولارات، ما يشكل إغراءً كبيرًا للشركات الأوروبية للانتقال إلى الولايات المتحدة، ما يثير مخاوف جدية لدى صناع القرار في بروكسل.
التحدي الصيني
على الجانب الآخر من العالم، تزداد قوة الصين في مجالات التكنولوجيا الحيوية الجديدة وسلاسل التوريد العالمية. وتبرز هذه القوة الصينية بشكل خاص في مجال التقنيات المحايدة للكربون، وهو قطاع يعتبره الاتحاد الأوروبي حيويًا لمستقبله الاقتصادي والبيئي.
ويفرض هذا الواقع الجديد على الاتحاد الأوروبي اتخاذ قرارات حاسمة وسريعة إذا أراد البقاء في دائرة المنافسة العالمية، إلا أن مثل هذه القرارات تتطلب درجة عالية من الإجماع بين القادة الوطنيين، وهو ما يبدو صعب المنال في ظل الخلافات الحالية بين باريس وبرلين.
عمق الخلاف
لا يقتصر الخلاف بين فرنسا وألمانيا على قضية الحماية التجارية فحسب، إذ كشفت "بوليتيكو" عن وجود تباينات عميقة في وجهات النظر حول عدة قضايا محورية أخرى، من بينها مقترحات الاقتراض المشترك للاتحاد الأوروبي، إذ تدعم فرنسا بقوة فكرة إصدار ديون مشتركة جديدة للاتحاد الأوروبي، على غرار ما تم خلال جائحة كوفيد-19. وترى باريس أن مثل هذه الخطوة ضرورية لتمويل الاستثمارات في القطاعات الاستراتيجية ومنافسة الصين والولايات المتحدة، لكن في المقابل، تعارض ألمانيا بشدة هذا الاقتراح، معتبرة إياه خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.
كما أن أزمة الرسوم على واردات السيارات الصينية تأتي في المرتبة التالية، إذ تقف فرنسا في طليعة الدول المؤيدة لفرض رسوم على السيارات الكهربائية الصينية، معتبرة أن هذه الخطوة ضرورية لحماية الصناعة الأوروبية،
أما ألمانيا، التي تعد صناعة السيارات عمودًا فقريًا لاقتصادها، فتخشى من أن مثل هذه الرسوم قد تؤدي إلى ردود فعل انتقامية من الصين، ما قد يضر بمصالحها الاقتصادية.
ويرى المحللون أن الخلاف بين فرنسا وألمانيا يعود في جزء كبير منه إلى تباين المصالح الوطنية بين البلدين، فعلى سبيل المثال، يشير السيناتور الفرنسي رونان لو جلو، رئيس مجموعة الصداقة الفرنسية الألمانية في مجلس الشيوخ، إلى أن صناعة السيارات الفرنسية لا تصدِّر إلى الصين إلا القليل جدًا، بينما تمثل السوق الصينية أهمية كبرى لشركات السيارات الألمانية.
بالإضافة إلى ذلك، يلعب الاختلاف في الأنماط القيادية دورًا في تعميق الهوة بين الزعيمين، فماكرون معروف بأسلوبه الجريء والمباشر، في حين يميل شولتس إلى التحفظ والحذر في تصريحاته وقراراته.
هذا التباين في الشخصيات يجعل من الصعب على الزعيمين التوصل إلى أرضية مشتركة حتى في القضايا الأقل إثارة للجدل.
تحديات داخلية
يواجه كلٌ من ماكرون وشولتس تحديات سياسية داخلية تجعل من الصعب عليهما تقديم تنازلات قد تزعج الناخبين في بلديهما.
ففي فرنسا، يواجه ماكرون جمعية وطنية منقسمة وصعودًا متزايدًا لليمين المتطرف، ما يدفعه إلى تبني مواقف أكثر تشددًا في بعض القضايا الأوروبية.
أما في ألمانيا، فيواجه شولتس سلسلة من الهزائم الانتخابية على المستوى المحلي، ما يضعف موقفه السياسي، كما أن الانتخابات الفيدرالية المقبلة، المقرر إجراؤها في موعد أقصاه سبتمبر من العام المقبل، تلقي بظلالها على قرارات المستشار الألماني، الذي يسعى لتجنب أي خطوات قد تكلفه المزيد من الدعم الشعبي.