في ظل الاعتداءات الإسرائيلية الموسعة على منطقة الشرق الأوسط، خاصة في قطاع غزة ولبنان، يأتي الحديث حول تراخي المواقف الأمريكية والأوروبية لوقف هذه الممارسات العدائية لإسرائيل؛ وهو الأمر الذي يرجع إلى التأثير الهائل لأنشطة اللوبي الصهيوني على اقتصاديات هذه الدول، إذ إن ارتفاع قيمة الاستثمارات الإسرائيلية وانتشار الشركات الناشئة ورأس المال الاستثماري يتحكم بشكل كبير في اقتصادها، وهو الأمر الذي يُشكل تأثيرًا ملحوظًا على توجهاتها السياسية.
والجدير بالذكر أن اللجنة الإسرائيلية الأمريكية للشئون العامة "أيباك"، تعمل على التغلغل الإسرائيلي داخل المجتمع الأمريكي من خلال أدوات المال والاقتصاد.
تأسيسًا على ما سبق يُحاول هذا التحليل التعرف على حجم اقتصاد اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، مع توضيح كيف يؤثر هذا الوضع الاقتصادي على العديد من الأبعاد.
نفوذ اقتصادي ضخم
يُمكن توضيح حجم اقتصاد اللوبي الصهيوني في الدول المختلفة من خلال النقاط الآتية:
(*) حجم الاستثمارات: تغلغلت الشركات الإسرائيلية في الدول المختلفة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فمنذ عام 2004، تمكنت أكثر من 40 شركة إسرائيلية من الاستثمار في مقاطعة فيرفاكس بولاية فيرجينيا الأمريكية، ومن عام 2016 تم إدراج أكثر من 60 شركة إسرائيلية في بورصة ناسداك في نيويورك، فالعديد من الشركات البارزة في الولايات المتحدة أسهها اليهود، والتي تتنوع مجالاتها بين الأطعمة والمشروبات مثل سنابل ودانكن دونتس وهاجن داز و"بن آند جيريز"، والتكنولوجيا مثل الفيسبوك وجوجل وأوركل، وغيرها من الشركات الكبرى.
وفي الدول الأوروبية انتشرت شركات اليهود بشكل كبير، إذ أن هناك 912 شركة إسرائيلية في دول الاتحاد الأوروبي، وتعمل 38% من الشركات الناشئة الإسرائيلية في مجال تكنولوجيا المعلومات كما يوضح شكل (1)، إذ يوضح أن أبرز الشركات الإسرائيلية في أوروبا تعمل في هذا القطاع، ثم قطاع الإنترنت بحوالي 19%، وتنتمي بقية الشركات إلى قطاعات أخرى بنسب تتراوح من 9 إلى 11%، باستثناء أشباه الموصلات التي تُشكل 1% فقط من حجم السوق.
ويوضح شكل (2) أن حجم القطاعات التي يعمل بها اليهود تُشكل نسب لا يُستهان بها في الاقتصاد الأوروبي، إذ تُمثل المبيعات والتسويق التي يُساهم فيها اليهود 49% من جميع الأنشطة في أوروبا، و15% لعمليات البحث والتطوير و10% للتشغيل و4% للتصنيع، ومن هذه النسب يتضح أن اقتصاد اليهود في الدول الأوروبية يُعتبر مُحرك أساس في اقتصادهم.
والجدير بالذكر أن العائلة اليهودية "روتشيلد" توغلت في 5 دول أوروبية (ألمانيا، بريطانيا، النمسا، فرنسا، الفاتيكان) منذ القرن التاسع عشر، وسيطرت على نصف ثروات العالم، وزادت من استثماراتها في مجال السلاح والأدوية، كما أسست العديد من الشركات العملاقة مثل مجموعة "آر إس إيه للتأمين" وشركة "السكك الحديدية الشمالية"، والشركة الاستثمارية والبنك العالمي "روتشيلد وشركاه"، فضلاً عن امتلاكها شركة عقارات "Cogifrance"، وهو الأمر الذي يوضح حجم الثقل الاقتصادي لهذه العائلة داخل الدول الأوروبية المختلفة.
(*) التمثيل الاقتصادي الكبير: على الرغم من أن اليهود لا يمثلون إلا 2.4% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه تزداد نسبة تمثيلهم في الجهات الاقتصادية المختلفة، بما فيها البنوك والوزارات وغيرها من الجهات الأخرى، وهو الأمر الذي جعلهم من الفئات الأساسية التي تُشارك في القرار الاقتصادي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، كما أن رؤوس أموال اليهود داخل البنوك الأمريكية تعطيها انتعاشة كبيرة، ولو سحب اليهود هذه الأموال لتعرضت البنوك إلى الانهيار، وهو الأمر الذي يفرض نفوذًا كبيرًا لليهود على الإدارة الأمريكية.
(*) ارتفاع مستوى الدخل والإنفاق: تتميز طبقة اليهود في الاقتصاديات المختلفة أنها من الطبقات ذات الدخل المرتفع، ففي الولايات المتحدة الأمريكية لا يقل الدخل السنوي لنصف الأسر اليهودية عن 100 ألف دولار أمريكي، وهو أعلى بكثير من الدخل الذي تحصل عليه الأسر الأمريكية، فكما يوضح جدول رقم (1)، يعمل 48% من السكان اليهود في شركات ربحية، بينما يعمل حوالي 21% لحسابهم الخاص، ويعمل 16% في منظمات غير ربحية و13% يعملون في الحكومة، فهذه الريادة الكبيرة في الأعمال لليهود داخل الاقتصاد الأمريكي، تجعلهم من الفئات التي تُحرك الإنفاق الاستهلاكي، مما يُحفز الاقتصاد بشكل كبير.
(*) الدعم المادي للسياسة الانتخابية: تقوم طبقة اليهود، بالأخص داخل الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم التمويلات للسياسة الانتخابية، وهو ما يجعلها مصدر تمويل أساسي للانتخابات، وهو الأمر الذي تُمارسه لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية "أيباك" بشكل كبير خلال الفترة الحالية، إذ أصبحت هذه اللجنة قوة هائلة في جمع التبرعات في السنوات الأخيرة، فمن جدول (2) يتضح حجم التمويلات التي تُقدمها لجنة "الأيباك" للحملات الانتخابية في دورة انتخابات عام 2022 لمجلس النواب الأمريكي، إذ جمعت أموالاً لصالح "جورج لاتيمر " المُنافس الديمقراطي ، تُقدر بحوالي 1.61 مليون دولار من ما يُقرب من 1800 متبرع في مواجهة النائب عن ولاية نيويورك جمال بومان في الانتخابات التمهيدية للحزب، بينما جمعت للمرشحة الديمقراطية "جاكي روسن" حوالي 1.19 مليون دولار، وغيرها من التمويلات الأخرى للعديد من المرشحين والمنافسين، وهو الأمر الذي يوضح أن المنظمة تعمل على فرض التـأثير السياسي داخل الكتل الحزبية في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تقديم الدعم المالي الكبير، هذا فضلًا عن تمثيل اليهود بنسبة 6.3% في الكونجرس الأمريكي (25 في مجلس النواب من أصل 435 عضو، 9 في مجلس الشيوخ من أصل 100 عضو).
تأثيرات واضحة
لسيطرة اللوبي الصهيوني على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، العديد من الانعكاسات، التي سيتم توضيحها فيما يلي:
(-) توجيه القرارات السياسية: إن التغلغل الاقتصادي للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية المختلفة، جعل القرارات السياسية لهذه الدول تأتي في صالح الاحتلال الإسرائيلي في ظل ممارساته الإجرامية في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في قطاع غزة وجنوب لبنان، إذ أنه في ظل تغافل الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية عن الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة، صوت مجلس النواب الأمريكي على منع البنتاجون من تخصيص أي أموال لإعادة إعمار غزة في يونيو الماضي، فضلًا عن استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق الفيتو ضد قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة بمعدل 3 مرات منذ بداية الحرب على قطاع غزة حتى مارس 2024.
وبالإضافة إلى ذلك يزداد الدعم العسكري لإسرائيل، إذ أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية في 26 من سبتمبر الماضي أنها ستحصل على حزمة مساعدات عسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية تُقدر قيمتها بـ 8.7 مليار دولار ، كما أنه منذ الحرب على غزة حتى يونيو الماضي، قدمت واشنطن حوالي 6.5 مليار دولار، وفي عام 2023 بلغت مبيعات الأسلحة التي أبرمتها الدول الأوروبية لإسرائيل 326.5 مليون يورو، بزيادة عشرة أضعاف بعد أحداث 7 أكتوبر، ومن هنا يُمكن القول إن هذه المواقف أوضحت حالة التخبط الكبير والتناقض في قرارات الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
(-) تأزُم وضع الشرق الأوسط: ترتب على عدم قدرة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية على إيقاف ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، تأزُم الأوضاع السياسية والاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط، فعلى المستوى السياسي يوجد الاعتداء الكبير على الأراضي العربية، وسلبهم من حقوقهم في العيش بسلام داخل أوطانهم، خاصة في قطاع غزة ولبنان، ونتيجة للحرب ارتفعت معدلات التضخم داخل العديد من دول الشرق الأوسط، فضلاً عن الفقد الكبير في العائدات الدولارية لهذه الدول، الأمر الذي أثر على مسار الحياة الاقتصادية داخلها.
(-) انخفاض الاستقلال الاقتصادي: إن وجود طبقة اليهود خاصة الداعمين لإسرائيل كفاعلين أساسيين داخل العديد من المؤسسات الاقتصادية الهامة في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وغيره من المؤسسات الفاعلة الأخرى، خفض من استقلالية اقتصاد العديد من دول الشرق الأوسط، فمستوى استقلالية هذه الدول ينخفض على مدار الزمن، وهذا هو المُخطط الصهيوني الذي يسعون إلى تحقيقه من خلال إدارة الاقتصاد العالمي، فسيطرة اليهود على معظم بنوك العالم، أوقعت دول العالم الثالث في " فخ الديون"، التي تعتبر مُحدد أساسي في انخفاض الاستقلالية الاقتصادية.
وفي النهاية يُمكن القول إن الدافع الخفي للقرارات الأمريكية والأوروبية المُنحازة للاحتلال الإسرائيلي في انتهاكاته الشديدة في منطقة الشرق الأوسط والدعم غير المحدود له، هو سيطرة اللوبي الصهيوني على اقتصاداتها، فالتغلغل الاقتصادي لطبقة اليهود في هذه المُجتمعات، جعلها تؤثر على القرار السياسي فيها تجاه أزمات المنطقة بشكل كبير ، فمجلس الأمن الذي من مهامه الأساسية حفظ السلم والأمن الدوليين، لم يستطع إيقاف التوغل الإسرائيلي غير الآدمي في المنطقة، إذ أن الصوت الأكبر والمؤثر في جميع العصور هو صوت "رأس المال والاقتصاد"، الذي يُمثله اليهود (خاصة الداعمين لإسرائيل) بشكل كبير، الأمر الذي أثر على الوضع الاقتصادي في دول العالم النامي.