في الـ19 من فبراير الجاري، أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في كلمته خلال افتتاح معرض ومؤتمر مصر الدولي للبترول "إيجبس مصر"، إلى التراجع الملموس في دور مؤسسات التمويل الدولية في دعم سياسات التحول إلى الطاقة النظيفة وتقديم التمويل منخفض التكلفة في الدول الإفريقية، وعدم الالتزام بالتعهدات التي أخذتها الدول المتقدمة على نفسها، وهو الأمر الذي أحدث تراجعًا كبيرًا في السياسات التنموية داخل القارة الإفريقية.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول هذا التحليل الإجابة عن سؤال أساسي وهو: كيف تراجع دور مؤسسات التمويل في الدول الإفريقية؟ من خلال التعرف على أسباب هذا التراجع مع قياس حجمه من عام 2020 إلى عام 2023، بالإضافة إلى توضيح أسبابه وانعكاساته على الدول الإفريقية.
تقديرات مهمة
أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تراجع دور مؤسسات التمويل الدولية في القارة الإفريقية، وهو ما يُمكن توضيحه على النحو الآتي:
(*) حجم التمويل في 2020: تسببت أزمة كورونا خلال عام 2020 في حدوث ركود اقتصادي عالمي، الذي كان له تأثيره البالغ على الدول الإفريقية بوجه خاص؛ بسبب اعتمادها على الواردات الخارجية بشكل كبير، وهو ما جعل التقديرات الصادرة عن "الأونكتاد" تُشير إلى أن القارة الإفريقية في حاجة إلى نحو 154 مليار دولار للتعافي الاقتصادي من هذه الأزمة، ولكن وفقًا لشكل (1) يتضح أن التمويلات طويلة الأجل لمؤسسة التمويل الدولية انخفضت بشكل كبير في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ قُدرت قيمتها بمليار دولار، أي 4.6% بالنسبة لباقي مناطق العالم، وقد حظيت إفريقيا جنوب الصحراء بـ4.6 مليار دولار ، وهي قيمة تقل عن نصيب دول أمريكا اللاتينية و البحر الكاريبي التي حصلت على تمويلات بقيمة 7.1 مليار دولار، هذا بالرغم من أن الدول الإفريقية من أكثر الدول تأثرًا بالأزمات، ومن ناحية أخرى قدم البنك الدولي؛ لمُعالجة الآثار المباشرة لفيروس كورونا 1.3 مليار دولار فقط لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهو الأمر الذي يدل على تواضع القيمة المُقدمة من البنك الدولي للدول الإفريقية.
(*) حجم التمويل في 2022: كانت بداية عام 2022 سببًا للعديد من الأزمات الاقتصادية في الدول المختلفة؛ بسبب اندلاع الأزمة الروسية الأوكرانية، وما أحدثته من تقطع سلاسل الإمداد، وكانت الدول النامية من أكثر دول العالم تأثرًا، وعلى الرغم من ذلك بلغ حجم تمويلات البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا 6.7 مليار دولار فقط، بينما حصلت دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي على 17.4 مليار دولار، و15.3 مليار دولار لأوروبا وآسيا الوسطى، وهو ما يوضح الفارق الكبير في حجم التمويل الموجه للدول الإفريقية والدول الأخرى في مناطق العالم.
(*) حجم التمويل في 2023: شهد عام 2023 أحداثًا كبيرة في الشرق الأوسط، أهمها حرب غزة التي تسببت في تأثيرات اقتصادية سلبية كبيرة بالدول المُحيطة بها، ولكن كان التمويل الموجه من البنك لا يوازي حتى 40% من حجم الضرر الحادث، فوفقًا لشكل (2) وافق البنك الدولي على تقديم قروض لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بقيمة 5.2 مليار دولار، بغرض تمويل 22 عملية، كما قدم البنك تمويلًا خاصًا لمشروعات في الضفة الغربية وقطاع غزة بقيمة 80 مليون دولار، بينما وافق البنك على منح غرب ووسط إفريقيا قروضًا بقيمة 12 مليار دولار، ومن حجم التمويلات الممنوحة لدول العالم الأخرى، يتضح أن القارة الإفريقية مع ظروفها الاقتصادية الصعبة لم توجه إليها قروضًا وتمويلات تتناسب مع احتياجاتها، إذ قدم البنك الدولي لأوروبا وآسيا الوسطى قروضًا بقيمة 11.3 مليار دولار مُقارنة بـ2.5 مليار دولار في عام 2020، وقدم 10 مليارات دولار لمنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي مُقارنة بـ7.1 مليار دولار في عام 2020، وهو ما يعني أن حجم التمويل لأوروبا وآسيا الوسطى ارتفع بنحو 8.8 مليار دولار، بينما إقراض الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ارتفع بنحو 4.2 مليار دولار فقط بالرغم من ازدياد الأزمات في هذه المنطقة، الأمر الذي يُعبر عن التوزيع غير العادل للتمويلات.
(*) تعهدات غير مُنفذَة: أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أن الدول المتقدمة في أوروبا وأمريكا ودول أخرى عندما تضع تعهدات تستطيع أن تنفذها من خلال قدراتها التنظيمية والاقتصادية، فالدول الإفريقية تحتاج في الوقت الراهن إلى التمويل منخفض التكلفة الذي تعهدت به الدول المتقدمة؛ حتى يُمكنها الإنفاق على التكنولوجيا مرتفعة التكلفة، والتحول إلى الطاقة النظيفة، فالدولة المصرية أنفقت أموالًا ضخمة جدًا حتى تصل إلى 15 مليون وحدة سكنية تعمل بالغاز الطبيعي، أي 60% من الوحدات في مصر تعمل بالغاز الطبيعي. وأكثر من نصف مليون سيارة تعمل بالغاز الطبيعي، وبالإضافة إلى ذلك عالجت الدولة الفقد في الاقتصاد الذي قُدر بنحو 9 إلى 10 مليارات دولار سنويًا؛ بسبب سوء البنية التحتية، والذي كلفها أموالًا كبيرة للغاية، ولكن مع ذلك لم تقم مؤسسات التمويل الدولية بدورها في تقديم التمويل منخفض التكلفة للدول الإفريقية؛ حتى تُساعدها على استكمال هذه المشروعات المهمة التي تُحقق لها التنمية.
فوفقًا لشكل (3) يتضح أن تمويل المناخ في الدول الإفريقية لا يتناسب مع حجم الضرر الواقع على هذه الدول، إذ يبلغ حجم تمويله 19.5 مليار دولار في القارة الإفريقية بنسبة 26%، بينما يبلغ في آسيا 31.2 مليار دولار بنسبة 42%، وحسبما أشار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، فالتعهدات التي خلُص إليها مؤتمر باريس في عام 2015 والتي قررت ضخ 100 مليار دولار سنويًا لصالح الطاقة والمناخ، لم تُحقق بعد مرور 9 سنوات على المؤتمر، على الرغم من أن الدول الكبرى هي المسؤولة عن تغيرات المناخ في العالم.
أسباب محورية
يُمكن تفسير التراجع في دور مؤسسات التمويل الدولية في القارة الإفريقية من خلال مجموعة من الأسباب كما يلي:
(-) ارتفاع مخاطر الائتمان: تُطبق مؤسسات التمويل الدولية سياسة مخاطر الائتمان على الدول النامية، خاصة الإفريقية، رغم ما لديها من مشكلة كبيرة في التمويل، بينما لا ينطبق ذلك البند على الدول الأخرى التي ليس لديها مشكلة في التمويل، وهو ما يجعل الشروط التي تفرضها مؤسسات التمويل على الدول الإفريقية صعبه للغاية؛ بسبب ظروفها الاقتصادية وانخفاض معدلات النمو داخلها.
(-) انخفاض التصنيف الائتماني للدول الإفريقية: إن التصنيف الائتماني المنخفض للدول الإفريقية الذي يتم إصداره عن مؤسسات التصنيف العالمية، يتسبب في انخفاض حجم التمويلات منخفضة التكلفة من قبل مؤسسات التمويل الدولية، فوفقًا لجدول (1) الذي يُشير إلى أن التصنيف الائتماني لكل من مصر وجمهورية الكونغو ونيجيريا بلغ (B-)، بمعنى أنه يخضع لزيادة المخاطر على التمويل الخارجي، يتضح أن التصنيفات الائتمانية تسببت في رفع المؤسسات التمويلية لسعر الفائدة على إقراض هذه الدول، فقد صدر عن منظمة "الأونكتاد" أن الدول الإفريقية تدفع فوائد على القروض أكثر 8 مرات مما تدفعه الدول الأوروبية؛ بسبب التقييم غير العادل الصادر عن مؤسسات التصنيف الدولية.
(-) تحول مسار الدعم: تُرجع الدول المتقدمة انخفاض حجم تمويلاتها للقارة الإفريقية إلى الضغوط المُتزايدة عليها؛ بسبب الأزمات العالمية، خاصة تأثيرات الأزمة الروسية الأوكرانية التي أثرت في اقتصاديات العالم أجمع، فبدأت الدول المتقدمة بدلًا من مساعدة الدول الإفريقية في تحقيق أهدافها الاقتصادية، وقدمت أموالًا ضخمة؛ لتقديم المساعدات العسكرية في دول الصراع، ففي بداية عام 2024 وافقت دول الاتحاد الأوروبي على تقديم مساعدات لأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو، وفي السنة المالية 2023 وافق الكونجرس الأمريكي على منح 520 مليون دولار لبرامج الدفاع الأمريكية الإسرائيلية المشتركة، وخصص 3.8 مليار دولار لإسرائيل (للتمويل العسكري الخارجي والدفاع الصاروخي)، فكل هذه المبالغ توضح أن الدول المتقدمة تُخصص جزءًا كبيرًا من برامج الدعم في ميزانيتها نحو مساندة أحد أطراف الصراع في الدول المختلفة؛ لتحقيق مصالحها السياسية، وهو الأمر الذي أفقد الدول النامية، وخاصة الإفريقية فرصة زيادة الحصول على التمويل منخفض التكلفة.
انعكاسات مهمة
ينعكس التراجع في حجم التمويل منخفض التكلفة، سلبيًا على الدول الإفريقية، على النحو الآتي:
(&) عدم استكمال العديد من المشروعات: تحتاج العديد من المشروعات داخل الدول الإفريقية إلى التمويل منخفض التكلفة، لإحداث رواج اقتصادي داخلها وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ولكن هذه المشروعات تحتاج إلى أموال ضخمة، ومن هذه المشروعات مشروع الطريق السريع بين أبيدجان ولاجوس؛ لربط خمس دول في غرب إفريقيا، والذي يُعتبر من أولويات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بالإضافة إلى مشروعات الطاقة التي تحتاج إلى تمويلات كبيرة للغاية، ولكن مع تراجع التمويل منخفض التكلفة من المتوقع بشكل كبير ألا تستكمل خطط تنفيذ بعض هذه المشروعات.
(&) إعاقة التحول للطاقة النظيفة: تحتاج الاستثمارات الخضراء في الدول الإفريقية إلى تمويلات ضخمة منخفضة التكلفة، لتحقيق المرونة المناخية، وأشار ريتشارد موناج، منسق شؤون قضايا التغير المناخي في إفريقيا في برنامج الأمم المتحدة للبيئة، أن القارة الإفريقية تحتاج إلى تريليوني دولار؛ لتنفيذ المساهمات المُحددة وطنيًا، و 1.2 تريليون دولار؛ لتنفيذ أهداف التنمية المستدامة، وبالُمقارنة بين هذه الاحتياجات وبين التمويل الموجه من البنك الدولي للبلدان الإفريقية، الذي قُدر بنحو 10 مليارات دولار، منها 385 مليون دولار لمنطقة القرن الإفريقي، يتضح الفجوة التمويلية الكبيرة التي تُعاني منها القارة، ومن هنا يُمكن القول إن عجز الدول الإفريقية عن تمويل مشروعات الطاقة الخضراء، يعوق طريقها نحو التحول إلى الطاقة النظيفة، على الرغم من أن القارة بها قدرات للطاقة تُمكنها من إنتاج آلاف الميجاوات من الكهرباء، كما أوضح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
(&) انخفاض معدلات النمو: هناك علاقة إيجابية بين حصول الدول النامية على تمويل منخفض التكلفة وبين تحقيق معدلات نمو مرتفعة داخلها، فعندما لا يوجد تمويل مناسب لبرامج التكيف المناخي في الدول الإفريقية، سيؤثر ذلك سلبًا في حجم الاستثمارات الأجنبية ومن ثم على معدلات النمو داخلها، كما أن فرض معدلات فائدة مرتفعة على الدول الإفريقية؛ بسبب ظروفها الاقتصادية، يُحملها تكاليف كبيرة لخدمة الدين، كان من الممكن استغلالها في تحقيق خطط التنمية الموضوعة، ما يؤثر بالسلب على المحصلة النهائية وهي "معدلات النمو الاقتصادي"، ومن ثم ترتفع معدلات الفقر في الدول الإفريقية.
(&) خلق أزمات اقتصادية: أوضح الرئيس عبد الفتاح السيسي أن الدولة المصرية واجهت تحديًا اقتصاديًا في الآونة الأخيرة جعلت عائد الممر الملاحي "قناة السويس" ينخفض بنسبة 40 إلى 50%، بعد أن كان يدر سنويًا 10 مليارات دولار، وهو ما يعني أن عدم وجود تمويل منخفض التكلفة يُساعد الدول النامية والمُحاطة بالأزمات، على زيادة مرونة اقتصادها تجاه الأزمات التي تواجهها، سيخلق المزيد من التحديات الاقتصادية داخلها.
وفي النهاية يُمكن القول إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تطرق إلى مطلب تنموي أساسي للدول الإفريقية وهو "التمويل منخفض التكلفة"، الذي تقوم عليه معظم العمليات التنموية المستدامة في الدول الإفريقية بوصفها "دولًا نامية"، ولكن على الناحية الأخرى لم تقم مؤسسات التمويل الدولية والدول المتقدمة بدورها الذي تعهدت به تجاه الدول الإفريقية، وهو ما جعل هذه الدول تتأثر بشكل كبير من جراء الأزمات العالمية وأزمات المنطقة العربية، الأمر الذي يُحتم على الدول الغنية تنفيذ التزاماتها التمويلية والاستثمارية داخل الدول الإفريقية، حتى تنهض اقتصاديًا.