تعرضت الموانئ العالمية منذ فبراير 2022 لصدمات كبيرة، أثرت على حركة التجارة والتوريد في العالم؛ نظرًا لأن الموانئ تُشكل حلقة أساسية في دورة الاقتصاد العالمي، وتتدفق من خلالها السلع العالمية من دولة لأخرى، ومن هنا تعمل على تحقيق الاستقرار الاقتصادي داخل الدول المُختلفة، ومع تزايد التوترات الجيوسياسية بأحداث الشرق الأوسط، تأثرت التجارة في ساحل البحر الأحمر بشكل كبير، الأمر الذي أثر على العديد من المؤشرات العالمية وعلى اقتصاد العديد من الدول.
وتأسيسًا على ما سبق، يسعى هذا التحليل للتعرف على الموانئ التي تعرضت للصدمات جراء التوترات الجيوسياسية، بالإضافة إلى انعكاسات وضعها الراهن على المؤشرات العالمية والاقتصاديات المُختلفة.
نظرة عامة
يُمكن إلقاء الضوء على الموانئ والممرات المائية التي تأثرت من التوترات الجيوسياسية على النحو التالي:
(*) ميناء أوديسا: يُعتبر هذا الميناء أحد أكبر الموانئ في البحر الأسود، فهو عصب الاقتصاد الأوكراني، حيثُ إنه يربط الاقتصاد الأوكراني بالاقتصاد العالمي، إذ تمر عبره 65% من صادرات وواردات أوكرانيا للعالم، كما يرتبط هذا الميناء بشبكة سكك حديدية، تعمل على النقل السريع للبضائع من البحر إلى البر، وهو الأمر الذي يجذب الشركات العالمية المختلفة التي تصدر البضائع للعالم أجمع مثل شركتي"Iceblik" التي تُنتج الغازات النادرة دوليًا و"Cryoin" التي تُصدر غاز النيون عالي الجودة لدول العالم، حيث يُستخدم بشكل أساسي في إنتاج الرقائق وأشباه الموصلات، ومن ناحية أخرى يُعد ميناء أوديسا أهم نقاط مغادرة الحبوب الأوكرانية إلى الأسواق العالمية، ومع تزايد التوترات في هذا الميناء مع ضرب روسيا لبنيته التحتية، إذ تعرضت منشأة حبوب تابعة لشركة "لويس دريفوس" إلى هجوم صاروخي في أغسطس 2024، تأثرت حركة الواردات في هذا الميناء، كما يوضح شكل (1)، إذ انخفضت بشكل كبير في عام 2024 بالمُقارنة بعام 2023.
(*) موانئ الدانوب: تحتل هذه الموانئ أهمية كبرى في تجارة أوكرانيا مع العالم الخارجي، فموانئ الدانوب وهي (إزميل – ريني- أوست دوناسيك)، تشتمل على العديد من مرافق الحبوب، إذ قامت شركة " نيبولون" وهي شركة تجارة حبوب كبرى، ببناء مرفق تخزين في ميناء إزميل، وقد قدرت شركة " إنفورمال بي جي" أن مرافق نيبولون يُمكنها تصدير ما يُقرب من 170 ألف طن حبوب شهريًا، وقد تضررت هذه المرافق من القصف الروسي عليها، ففي 1 أغسطس 2023 تضرر 40 ألف طن من الحبوب، ومع استمرار الهجمات تضرر العديد من مرافق الحبوب ومراكز الخدمات اللوجستية.
ويوضح شكل (2) أن صادرات وواردات موانئ الدانوب حدث بها تذبذبات وتقلبات من مايو 2022 إلى سبتمبر 2023، وهو ما يُمثله الشكل بالقمم والقيعان في المنحنيات، مما يدل على عدم استقرار الأوضاع في هذه الموانئ مع الحرب الروسية الأوكرانية، رغم أنه في بداية الحرب ارتفعت الصادرات والواردات من خلال هذه الموانئ، إذ ارتفعت من 450 ألف طن متري في فبراير 2022 إلى 1250 طن متري في يونيو 2022، ولكن منذ ذلك الوقت حدث التذبذب وعدم الاستقرار في معدلات الصادرات والواردات.
(*) ميناء كونستانتا: يقوم ميناء كونستانتا بدور كبير في صادرات الحبوب الأوكرانية، حيث أصبح هذا الميناء الروماني الممر المائي البديل لصادرات أوكرانيا بعد الحرب الروسية الأوكرانية، إذ شحنت أوكرانيا من خلاله حوالي 8.1 مليون طن من الحبوب في السبعة أشهر الأولى من عام 2023، ولكن تباطأت وتيرة الشحن؛ بسبب الهجمات على الموانئ الأوكرانية، ففي النصف الأول من عام 2024 انخفضت صادرات الحبوب الأوكرانية عبر ميناء كونستانتا بنسبة 43%، إذ بلغت 4.24 مليون طن متري. وهو الأمر الذي يوضح تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على حركة التجارة في هذا الميناء.
(*) ميناء تشورنومورسك: في بداية الحرب قام هذا الميناء بدور كبير في مبادرة تصدير الحبوب من أوكرانيا، قبل أن تنسحب روسيا من المبادرة، ويتم إغلاق الميناء، إذ تعرض للهجوم في يوليو 2023 بعدة صواريخ، ما نتج عنه تدمير أكثر من 60 ألف طن من الحبوب في الميناء، وفي عام 2024 تسبب هجوم روسي قرب ميناء تشورنومورسك إلى توقف عمليات تسليم هامة، الأمر الذي أثر على فعالية هذا الميناء في حركة التجارة الأوكرانية.
(*) ميناء ميكولايف: يقوم هذا الميناء بدور حيوي في حركة الشحن الأوكرانية، إذ تزداد استثمارات العديد من الشركات داخل هذا الميناء، مثل شركتي "يو إس بونج" و"كوفكو" الصينيتين وشركة "نيبولون " الأوكرانية، الأمر الذي يدل على أهميته الاستراتيجية، وعلى الرغم من ذلك عانى الميناء من الإغلاق منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الأمر الذي أثر على تكاليف الخدمات اللوجستية للمُصدرين، مما يُرجح بشدة أنه مع عودة هذا الميناء للعمل، ستزداد الكفاءة التصديرية لأوكرانيا، إذ إنه يؤثر بشكل إيجابي على القدرة التنافسية للمُصدرين، مما يُحسن الخدمات اللوجستية للمُنتجات، خاصة المنتجات الزراعية التي كان يحتل الميناء في نقلها مكانة رائدة قبل الحرب.
ويُمكن القول إنه نتيجة لعدم الاستقرار، انخفض إجمالي البضائع في الموانئ الأوكرانية كما يوضح شكل (3)، من 153.7 مليون طن في عام 2021، إلى 59 مليون طن في عام 2022، ثم ارتفع قليلًا إلى 62 مليون طن في عام 2023، وبالإضافة إلى ذلك شهدت هذه الموانئ انخفاضًا ملحوظًا في صادرات الحبوب، من 4.7 مليون طن متري في أول ستة أشهر من عام 2024 إلى 380 ألف طن متري فقط في يوليو، وهو الأمر الذي أثر على أسعارها.
وتحاول أوكرانيا التغلب على التباطؤ الذي حدث في تجارتها، حيثُ أوضح مركز GMK أن موانئ أوكرانيا استطاعت في الفترة من يناير إلى يونيو 2024، أن تتعامل مع حوالي 52.7 مليون طن من البضائع مقابل 31.3 مليون طن في نفس الفترة من عام 2023، ومن الجدير بالذكر أن حوالي 33.5 مليون طن من البضائع خلال الفترة المذكورة في عام 2024 كانت منتجات زراعية أوكرانية، وهو الأمر الذي يوضح مدى تأثير هذه الحرب على أسعار الغذاء العالمية.
(*) البحر الأحمر: تأثر البحر الأحمر بشكل كبير من الأحداث الجيوسياسية الإقليمية، خاصة الحرب على غزة، وهجمات الحوثيين على السفن البحرية التي ترتبت على هذه الحرب؛ فنظرًا لأن البحر الأحمر يمر به من 10 إلى 15% من حجم التجارة العالمية، فالتداعيات التي نتجت عن الأحداث فيه أثرت على حركة التجارة بشكل كبير، وبحسب تقرير صندوق النقد الدولي فإن التجارة عبر ساحل البحر الأحمر في أول شهرين من عام 2024، انخفضت بنسبة 50% بالمُقارنة بعام 2023، فكما يوضح شكل (4) أن التجارة عبر قناة السويس انخفضت بنسبة 42%، كما انخفضت حمولة الحاويات في القناة بنسبة 82%، إذ إن المنحنى الأزرق يتجه إلى أسفل من نهاية عام 2023 واستمر في الانخفاض في عام 2024، الأمر الذي يُدلل على التباطؤ الكبير في حركة التجارة عبر القناة، التي توفر ممرًا مباشرًا للشحن بين أوروبا وآسيا، كما انخفضت التجارة في قناة بنما بنسبة 49%، إذ تُشكل هذه القناة ممر حيوي للتجارة مع الإكوادور وتشيلي والصين والولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يوضح حجم التأثُر في حركة التجارة العالمية.
الانعكاسات الاقتصادية
أثرت الأحداث الجيوسياسية في العالم على العديد من المؤشرات العالمية والاقتصاديات المُختلفة، على النحو الآتي:
(-) ارتفاع مؤشر أسعار الأغذية: تعرض مؤشر أسعار الأغذية إلى صدمة من التوترات الجيوسياسية كما يُشير شكل (5)، ففي عام 2022 مع بداية الحرب الروسية الأوكرانية، ارتفع هذا المؤشر إلى 144.7 نقطة بالمُقارنة بـ 95.9 نقطة في عام 2018، وعلى الرغم من انخفاضه في عام 2023 وفي الربع الأول من عام 2024، إذ سجل 119 نقطة في أبريل 2024، لكنه ارتفع إلى 120.7 نقطة في أغسطس 2024، وهو الأمر الذي يعكس الارتفاع الذي حدث في أسعار السلع العالمية الأساسية عن مستواها قبل الحرب الروسية الأوكرانية.
(-) ارتفاع أسعار الشحن: تسببت التوترات الجيوسياسية وتعطل سلاسل التوريد العالمية في ارتفاع أسعار الشحن، فوفقًا لمؤشر الحاويات العالمي الذي يُعبر عنه شكل (6)، ارتفعت أسعار الشحن من 1404 دولارات في 28 سبتمبر 2023 إلى 5181 دولارًا في 29 أغسطس 2024 لكل حاوية 40 قدمًا، أي ارتفعت بنسبة 269.02%، وهي نسبة كبيرة للغاية تعني الارتفاع الكبير في سعر شحن السلعة العالمية خلال عام 2024، وهو الأمر الذي يؤثر على السعر النهائي للسلعة التي تستوردها الدول المختلفة.
(-) ارتفاع التضخم في الدول: أثر تعطل سلاسل التوريد وارتفاع أسعار السلع العالمية في حدوث موجات تضخمية بالعديد من الدول، خاصة الدول النامية، التي تُعاني من التضخم المستورد بشكل كبير، إذ يوضح شكل (7) أن هذا المعدل سجل 51.97% في تركيا بشهر أغسطس، كما سجل 31.6% في إيران، و30.78% في كوبا، بينما سجل 26.2% في مصر و3.6% في هولندا، التي ارتفع التضخم بها عن معدل 0.2% في سبتمبر 2023، وهو الأمر الذي يوضح أن الاضطرابات الجيوسياسية في العالم ألقت بظلالها السلبية على العديد من الدول، التي اضطرت إلى اتخاذ سياسات نقدية أكثر تشددًا، أثرت على دورة الاقتصاد داخلها.
(-) ارتفاع عجز موازنات الدول: تضررت موازنات العديد من الدول، خاصة الدول المستوردة، نتيجة التوترات الجيوسياسية، إذ أن تكلفة الاستيراد ترفع من عجز الميزان التجاري للدول، وعجز الميزان يتسبب في عجز الموازنة العامة، فقد ارتفع هذا العجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في الأردن إلى 5.3% بالمُقارنة بـ 4.6% في عام 2022، وفي العراق تحول فائض الموازنة في عام 2022 إلى عجز بنسبة 7.7% في عام 2023، وفي مصر ارتفع عجز الموازنة في عام 2023 إلى 7.1% بالمُقارنة بـ 6.1% في عام 2022، لكنه سجل نسبة مرتفعة في كوبا قُدرت بـ 10.8% في عام 2023، وهو الأمر الذي يوضح التأثير الكبير للأحداث العالمية والإقليمية على زيادة عجز موازنات بعض الدول، وتحويل الفائض إلى عجز في دول أخرى.
وعليه يُمكن القول، إن التوترات الجيوسياسية التي حدثت في العالم الفترة الأخيرة، خاصة الحرب الروسية الأوكرانية، تسببت في حدوث موجة من الارتفاع السلبي في مختلف المؤشرات العالمية، إذ إن هذه التوترات أثرت على حركة التجارة العالمية، وأحدثت عرقلة كبيرة بها، وهو الأمر الذي ألقى بظلاله السلبية على العديد من الدول، سواء المستوردة أو المُصدرة، فالدول المستوردة تضررت من ارتفاع تكلفة استيرادها، الأمر الذي رفع من عجز الموازنة، بينما أصبحت الدول المُصدرة تُعاني من بطء حركة التصدير، وارتفاع تكاليف الشحن، الأمر الذي قلل من إيراداتها.