انتشر خلال العقدين الماضيين مُصطلح جديد في الأوساط الاقتصادية، وهو مُصطلح "شركات الزومبي" أو "ظاهرة الزومبي العالمية"، التي ظهرت نتيجة التخطيط المالي غير الكفء والأوضاع الاقتصادية السلبية في العالم أجمع نتيجة التوترات الجيوسياسية التي يُعاني منها، وقد أصبحت هذه الظاهرة تُهدد الاقتصاد العالمي بشكل كبير، إذ أن ارتفاع أداء المؤسسات والشركات المُختلفة يعمل على إنعاش الاقتصاد العالمي، وبتدهوره يُصاب بمُشكلات متعددة.
وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على ماهية ظاهرة الزومبي والأسباب التي أدت إلى ظهورها، وما هو تأثير انتشار ها على الاقتصاد العالمي.
ماهية الظاهرة
يُمكن التعرف على ماهية ظاهرة الزومبي من خلال مجموعة من النقاط الأساسية التي سيتم توضيحها فيما يلي:
(-) توصيف الظاهرة: ظهر الحديث عن شركات الزومبي لأول مرة في اليابان خلال "العقد الضائع" في تسعينيات القرن الماضي، مع انفجار فقاعة أسعار الأصول، ثم اشتهر هذا المصطلح مع الأزمة المالية العالمية في 2008، و يُمكن وضع توصيف لشركات الزومبي أنها الشركات التي فشلت في تحقيق أرباح كافية، تُمكنها من سداد أعباء القروض التي تحصلت عليها، إذ أن نسبة تغطية الفائدة لهذه الشركات أقل من 1%، و تفتقر هذه الشركات إلى الاحتياطيات النقدية العملاقة وفائض رأس المال الذي يُمكنها من الاستثمار وتحفيز النمو ، إذ أن عادةً ما توجد هذه الشركات بين الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، كما أن هذه الشركات تعتمد على التمويل من البنوك بشكل أساسي والدعم من الكيانات الحكومية حتى تستمر في السوق بالرغم من تعثرها.
ومن حيثُ مدى انتشار هذه الشركات في الاقتصاديات المختلفة، يتضح من الشكل (1) أن نسبة شركات الزومبي في دول العالم للشركات الخاصة، كانت أقل من 2% في أوائل ومنتصف التسعينيات، ثم ارتفعت ارتفاع مؤقت في عام 2003 إلى 6.8% بالنسبة للشركات المدرجة، ثم انخفضت النسبة بين عامي 2003 و2007، ولكن في أعقاب الأزمة المالية العالمية، ظهر اتجاه متزايد من ظاهرة الزومبي العالمية على مستوى الشركات المدرجة والخاصة، إذ وصلت نسبتها 7% في عام 2017، وتجاوزت هذه النسبة قليلاً في عام 2020، وفي عام 2021 مثلت شركات الزومبي 10% من جميع الشركات المدرجة، كما أنه وفقًا لدراسة أجراها بنك التسويات الدولية، فإن 15% من الشركات المُدرجة في الدول المتقدمة تُعتبر ضمن شركات الزومبي.
(-) التمركُز الجغرافي للظاهرة: تزداد ظاهرة "شركات الزومبي" في عدد من الاقتصاديات، مثل اليابان وكندا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية، ففي اليابان دعمت سياسة " القروض الصفرية" التي تبنتها الحكومة أثناء جائحة كورونا، استمرار الشركات الصغيرة والمتوسطة في سوق الأعمال، كما أطالت عمر الشركات التي قد تكون في الأصل ضمن فئة شركات "زومبي"، وهو الأمر الذي ترتب عليه الارتفاع الكبير في شركات الزومبي في اليابان كما يوضح الشكل (2)، إذ أنه وفقًا لبيانات "تيكوكو" فإن معدل شركات الزومبي سجل 17.1% في عام 2022، أي حوالي 251 ألف شركة.
وفي الاقتصاد الأمريكي تقدمت 516 شركة بطلبات إفلاس في عام 2023، وفقًا لتقرير S&P Global Intelligence، كما أن حجم شركات الزومبي في الاقتصاد الأمريكي أصبحت أكبر من 10% من الشركات العاملة في الاقتصاد، كما أن شركات الزومبي تُشكل حوالي 11.5% من الأسهم المُدرجة في البورصة الأمريكية، وفي كوريا الجنوبية تُصنف أربع شركات من كل 10 شركات عاملة في السوق الكوري على أنها " زومبي"، إذ بلغت نسبة الدين إلى إجمالي حقوق الملكية في هذه الشركات إلى أعلى مستوياتها في سبع سنوات.
أسباب دافعة
تتعدد الأسباب التي تدفع إلى انتشار ظاهرة "الزومبي العالمية" بين الشركات المُختلفة، فمن هذه الأسباب ما يلي: -
(*) تقلُبات أسعار الفائدة : تتحكم السياسات النقدية التي تتخذها الدول المُختلفة في بعض الفترات، في انتشار شركات الزومبي بشكل كبير، فعندما تنخفض معدلات الفائدة داخل الدولة في فترة معينة ويتم منح التمويل الغير مدروس من قبل البنوك والجهات الداعمة بطريقة مُفرطة للشركات المتوسطة والصغيرة الحجم، ثم يتبع ذلك سياسة تشديديه تتمثل في رفع كبير في معدلات الفائدة، تزداد أعداد شركات الزومبي في الاقتصاد، فالانخفاض في أسعار الفائدة الأسمية بنسبة 10 نقاط مئوية، يُمثل حوالي 17% من الارتفاع في حصة شركات الزومبي في الاقتصادات المُتقدمة، وهو ما حدث في اقتصاد المملكة المتحدة، إذ أن 12.4% من الشركات متوسطة الحجم في بريطانيا مُعرضة لخطر التحول إلى شركات زومبي، وفي عام 2022 كان هناك واحدة من كل 16 شركة لديها ميزانية عمومية سالبة، أي أداء مالي ضعيف.
وهو الأمر الذي يرجع إلى ما يوضحه الشكل (3)، فأسعار الفائدة في الاقتصاد البريطاني كانت تتسم بالانخفاض، إذ سجلت 0.1% في عام 2021، ولكن بدأت بعد ذلك في الارتفاع، إذ سجلت 5.25% في مارس 2024، وهو الأمر الذي ترتب عليه انتشار الشركات التي تتعرض لمخاطر شديدة على مستوى العديد من المجالات الاقتصادية، كما يوضح الشكل (4)، ففي مجال الصحة، 82.1% من الشركات تتميز بالأداء الجيد، بينما 17.9% من الشركات لديها مخاطر، وهي نسبة كبيرة لا يُستهان من تأثيرها على الاقتصاد البريطاني، وفي الاقتصاد الأمريكي أيضاً ارتفعت نسبة شركات "الزومبي"؛ بسبب الزيادات السريعة التي قام بها الاحتياطي الفيدرالي في سعر الفائدة، إذ قدر بنك " جولدمان ساكس" أن نسبة شركات الزومبي في الولايات المتحدة الأمريكية بلغت حوالي 13 % في عام 2022.
(*) ارتفاع التضخم: تسببت معدلات التضخم المرتفعة التي نتجت عن التوترات الجيوسياسية التي شهدها العالم في الفتر ة الأخيرة، في انتشار كبير لظاهرة "شركات الزومبي" على مستوى كافة الأصعدة، إذ أن ارتفاع هذا المؤشر قلل من القيمة النقدية لأرباح معظم الشركات، مما جعلها غير قادرة على تحمل أعباء الديون الكبيرة، فالتضخم من العوامل الأساسية التي تُقلل من كفاءة بيئة الأعمال في الاقتصاديات المختلفة، خاصة إذا كان أداؤها المالي ضعيفًا.
(*) انخفاض تنافسية الأسواق: يؤثر التنافس القوي في الأسواق إيجابيًا على حالة الشركات المُتعاملة بها، ففي الأسواق التنافسية تمامًا ستخرج شركات " الزومبي" غير المُنتجة من السوق، وهو ما يسمح للشركات الأكثر كفاءة من التواجد بشكل كبير، مما يُعزز دخول شركات إنتاجية جديدة، والعكس يُحدث عندما ينخفض التنافس، فانخفاض التنافس يُمكن شركات الزومبي من الاستمرار في نشاطها لمُدد أطول.
الانعكاسات الاقتصادية
يؤثر انتشار شركات "الزومبي" بالسلب على الاقتصاديات المُختلفة وذلك على النحو التالي:
(-) انخفاض الإنتاجية: توجد علاقة قوية بين زيادة حجم شركات الزومبي في الاقتصاد والانخفاض في الإنتاجية، إذ أن إنتاجية العمل في شركات الزومبي تتسم بالانخفاض الشديد، فوجود هذه الشركات يعمل على مزاحمة الشركات الأكثر إنتاجية في الاقتصاد من خلال ما يُسمى "تأثيرات الازدحام"، إذ تُشير العديد من التقديرات إلى أن عندما تزيد حصة شركات الزومبي في الاقتصاد بنسبة 1%، ينخفض نمو الإنتاجية بحوالي 0.3 نقطة مئوية، فمع تزايد حجم شركات "الزومبي" في الاقتصاد البريطاني، تعرض هذا الاقتصاد إلى تباطؤ كبير في الإنتاجية، وهو الأمر الذي يوضح الترابط الكبير بين ارتفاع عدد شركات الزومبي في الاقتصاد وبين انخفاض الإنتاجية.
(-) ركود البيئة الاستثمارية: يؤدي انتشار شركات الزومبي في اقتصاد ما، إلى تباطؤ البيئة الاستثمارية في هذا الاقتصاد، إذ أنه يعمل على سحب رؤوس الأموال التي كان المُفترض أن تحصُل عليها شركات أخرى أكثر كفاءة، وهو الأمر الذي يُعني" ارتفاع تكلفة الفرصة البديلة" لرأس المال الذي تحصُل عليه شركات الزومبي، فارتفاع هذه التكلفة تؤدي إلى أثار مباشرة سلبية على حجم الاستثمار في الاقتصاديات المُختلفة.
(-) ارتفاع حجم الديون العالمية: يرجع التزايد الكبير في حجم الديون العالمية خلال العقدين الماضيين نسبيًا إلى الانتشار الكبير لشركات الزومبي، فكما يوضح الشكل (5) أن نسبة الدين العالمي من الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت من 96.8% في الخمسينات إلى 258% في عام 2020، وانخفضت هذه النسبة في عام 2021 و2022، ولكن في الربع الأول من عام 2024 بدأ الدين العالمي يرجع إلى مساره التصاعدي، إذ سجل 315 تريليون دولار، أي ارتفع بحوالي 1.3 تريليون دولار عن مستواه في عام 2023.
(-) ارتفاع معدلات البطالة: إن تزايد عدد الشركات التي تُعاني من ضعف أدائها المالي، والتي تزداد فرص إفلاسها في ظل ارتفاع معدلات التضخم والسياسات النقدية المُتشددة التي تتخذها العديد من الدول، يعمل على إمكانية تسريح عدد كبير من العمالة في هذه الشركات، إذ يُقدر عدد العاملين في هذه الشركات حول العالم حوالي 130 مليون شخص، والأثر الإجمالي على الاقتصاد يتمثل في ارتفاع عدد العاطلين به، وهو الأمر الذي سيزيد من الأعباء المالية على الدول.
(-) تدهور القطاع المصرفي: إن القطاع المصرفي من أوائل القطاعات التي تضرر من انتشار ظاهرة "شركات الزومبي"، إذ أن درجة مُخاطرة القروض التي يمنحها ترتفع مع تزايد الشركات ذات الأداء المالي الضعيف، فمع تعثُر هذه الشركات على سداد أقساط القروض المُستحقة عليها، يخسر البنك العديد من العوائد المالية التي تُعتبر مصدر بقائه في الاقتصاد، وهو الأمر الذي سيؤدي في النهاية إلى انهيار البنوك المصرفية، وهذا اتضح في الاقتصاد الأمريكي بشكل كبير، مع انهيار بنك "سيليكون فالي" وبنك "سيغنتشر" وبنك "فرست ريبابليك"، مما يُنذر بانتشار ظاهرة "بنوك الزومبي".
وفي النهاية يُمكن القول إن ظاهرة "شركات الزومبي" بدأت تنتشر بشكل كبير في الوقت الراهن في العديد من الاقتصاديات، في ظل السياسات الحكومية والمصرفية التي تُقدم التمويل المالي المُيسر للشركات بدون دراسة وضعها المالي الحالي والمُستقبلي، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، وهو الأمر الذي يُنذر بوقوع كارثة على هذه الاقتصاديات وعلى الاقتصاد العالمي، مما يتطلب ضرورة التوصل إلى حلول جذرية لهذه الظاهرة، من خلال وضع سياسة نقدية تُحقق بيئة أعمال تتسم بالكفاءة والفعالية، وتعزيز كفاءة الجهاز المصرفي داخل كل دولة.