شكلت زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، للعاصمة التركية "أنقرة"، 4 سبتمبر الجاري، التي تُعد الأولى على المستوى الرئاسي منذ عام 2014، محطة تاريخية في العلاقات المصرية التركية على كل المستويات، خاصة المستوى الاقتصادي، إذ تم الاتفاق على تعاون اقتصادي موسع بين البلدين خلال تلك الزيارة، وهو الأمر الذي سيترتب عليه العديد من المزايا الاقتصادية ذات المنفعة الكبيرة في السنوات المقبلة.
وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على الجانب الاقتصادي من زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي لتركيا، إضافة إلى توضيح الانعكاسات الاقتصادية الإيجابية المتوقع حدوثها نتيجة التعاون المصري التركي.
إطار عام
يُمكن التعرف على الجانب الاقتصادي للزيارة من خلال النقاط التالية:
(-) تحقيق التكامل الاقتصادي: تطرقت الزيارة إلى إحداث زيادة كبيرة في عدد المشروعات الاقتصادية التي تُعمق التعاون الاقتصادي بين مصر وتركيا، مع استهداف الفرص الاستثمارية المُشتركة في كل المجالات، الأمر الذي يُحقق التكامل الإنتاجي والاستهلاكي، ويخدم هدف التصدير لكل من الدولتين، سواء إلى القارة الإفريقية أو إلى بقية دول العالم، فالتكامل الاقتصادي أصبح هدفًا أساسيًا بعد زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي، تسعى إلى تحقيقه الدولتان من خلال التعاون في العديد من المجالات.
(-) تطوير مناخ الاستثمار: احتل ملف الاستثمار مكانة مهمة على هامش الزيارة، إذ اتفق الطرفان على استمرار العمل في تطوير مناخ الاستثمار لرجال الأعمال في كل من الدولتين، من خلال اتخاذ الإجراءات المُختلفة التي تعمل على إزالة العوائق التي تواجه المستثمرين والشركات، مع تحفيز القيام بالاستثمارات الجديدة، إضافة إلى ذلك أكد الطرفان أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر، وهو الأمر الذي يوضح إدراك الدولتين بأهمية الاستثمار في تحقيق الإنعاش الاقتصادي.
(-) توقيع مذكرات تفاهم: تم توقيع 17 مذكرة تفاهم بين مصر وتركيا خلال زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي، منها توقيع مذكرة تفاهم مع شركة "بولاريس" التركية؛ لتطوير منطقة صناعية بالعاصمة الإدارية الجديدة، وإضافة إلى ذلك تم توقيع مذكرة تفاهم بين جهاز حماية المنافسة المصري ومؤسسة المنافسة التركية في مجال السياسة التنافسية، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال التعليم العالي، ومذكرة للتعاون في مجال السكك الحديدية، ومذكرة تفاهم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فضلًا عن توقيع مذكرة تفاهم للتعاون الاقتصادي والعلمي والفني في المجال الزراعي، ومذكرة تفاهم في مجال الصحة والعلوم الطبية.
وفي إطار الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال، تم توقيع مذكرة تفاهم بين كل من جهاز تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر في الدولتين، إضافة إلى ذلك تم توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في بناء القدرات بين وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي بمصر ووزارة السياحة والثقافة التركية، فضلًا عن مذكرات تفاهم في مجال الطاقة ومجال العمل والتشغيل ومجال حماية البيئة ومجال العمران. فمن هنا يُمكن القول إن أوجه التعاون بين البلدين تطرقت إلى مجالات حيوية في الاقتصاد.
مردودات محتملة
إن التعاون الاقتصادي الموسع بين مصر وتركيا يحمل في طياته العديد من الانعكاسات الإيجابية، التي يتم توضيحها فيما يلي:
(-) توسيع حجم التبادل التجاري: اتسم التبادل التجاري بين مصر وتركيا بالانخفاض النسبي خلال السنوات الماضية، فوفقًا للشكل (1) سجل التبادل التجاري بين الدولتين 6.6 مليار دولار في عام 2023، مُنخفضًا عن حجمه في 2022، الذي بلغ فيه 7.8 مليار دولار، أي انخفض بنسبة 15.4%، الأمر الذي يوضح التراجع الذي كانت تُعاني منه العلاقات التجارية بين البلدين، إذ انخفضت الصادرات المصرية إلى تركيا من 3.96 مليار دولار في عام 2022 إلى 3.77 مليار دولار عام 2023، إضافة إلى ذلك انخفضت الواردات المصرية من تركيا بشكل كبير في عام 2023، إذ انخفضت من 3.82 مليار دولار في عام 2022 إلى 2.78 مليار دولار في عام 2023، أي انخفضت بمقدار 27.23%.
ومن هنا فمن المُتوقع أن حجم التبادل التجاري سينتعش بشكل كبير بين مصر وتركيا بعد هذه الزيارة، إذ تستهدف الدولة المصرية زيادة حجم التبادل التجاري بنسب تتراوح بين 20% و25%، إذ تصل 8 مليارات دولار في عام 2025، إذ إنها حققت 3 مليارات دولار في النصف الأول من عام 2024، وعلى المدى المتوسط من المُحتمل بشكل كبير أن يصل حجم التبادل التجاري 15 مليار دولار في عام 2030، كما تهدف كل من الدولتين، ومع وجود اتفاقية تجارة حرة بينهما، سينتعش الميزان التجاري المصري بشكل كبير، من منطلق أن الدولة المصرية تصدر لتركيا أكثر من 3.8 مليار دولار، ما يُحقق العديد من العائدات الدولارية للدولة المصرية ويخفض من قيمة الواردات المصرية، الأمر الذي يُحسن من ميزان المدفوعات المصري بشكل كبير.
(-) زيادة حجم الاستثمارات: سيترتب على اهتمام كل من الدولتين بتعزيز الاستثمار باعتباره أحد العوامل الأساسية، لتحقيق النمو الاقتصادي، زيادة حجم الاستثمارات التركية في مصر، إذ يبلغ حجم هذه الاستثمارات في الوقت الراهن نحو 3 مليارات دولار عبر 1700 شركة مختلفة المجالات في جميع أنحاء جمهورية مصر العربية، كما يوضح الشكل (2)، منهم 35 شركة صناعية، ويبلغ حجم التداول السنوي لهذه الاستثمارات نحو 1.5 مليار دولار، وفي إطار تطلع مصر إلى جذب استثمارات تركية جديدة بقيمة مليار دولار خلال 18 شهرًا، فمن المتوقع أن يصل حجم الاستثمارات التركية في الربع الأول من عام 2026 إلى 4 مليارات دولار، ما يُحقق قيمة مضافة كبيرة للاستثمار الأجنبي بمصر، وبلوغ هدف الدولة المصرية بتحقيق استثمارات بقيمة 20 مليار دولار سنويًا، وسيترتب على توجيه هذه الاستثمارات في قطاع الملابس والمنسوجات والأجهزة الكهربائية، استقرار مستوى أسعار هذه السلع داخل مصر.
(-) خفض معدل البطالة: يُصاحب التوسع المتوقع في المشروعات الاقتصادية التركية بمصر، توفير فرص عمل بشكل كبير بين الشباب المصريين، إذ إن الاستثمارات التركية الحالية بمصر توفر نحو 70 ألف فرصة عمل بطريقة مباشرة و100 ألف فرصة عمل بطريقة غير مباشرة، وهو الأمر الذي يوضح أن مع زيادة حجم الاستثمارات، سيزداد معدل التشغيل في الاقتصاد المصري بشكل ملحوظ، كما أن الاتفاق حول تعزيز التعاون بمجالات العمل والتوظيف والضمان الاجتماعي، سيُحقق انتعاشة كبيرة في سوق العمل المصرية، وما يزيد من هذا الانتعاش التعاون بين البلدين في مجال المشروعات الصغيرة والمتوسطة والمتناهية الصغر، التي تستقطب عددًا كبيرًا من العمالة داخلها، فمن هنا يُمكن القول إن مُحصلة جميع هذه العوامل، سيتمثل في انخفاض مُحتمل بمعدل البطالة في الاقتصاد المصري.
(-) تنمية القطاعات الاستراتيجية: سينعكس التعاون الاقتصادي الموسع بين مصر وتركيا على تنمية العديد من القطاعات الاستراتيجية، منها قطاع صناعة السيارات، فتركيا لديها ميزة تنافسية في هذا القطاع، إذ تحتل المرتبة الـ14 على مستوى العالم في هذه الصناعة، وكما تجاوز حجم الصادرات التركية من صناعة السيارات الـ17 مليار دولار، خلال النصف الأول من عام 2024، الأمر الذي سيفيد الاقتصاد المصري في تحفيز هذا القطاع المهم، الذي توليه الحكومة المصرية في الوقت الحالي اهتمامًا كبيرًا، كما أن قطاع المنسوجات والغزل النسيج من القطاعات التي سيتحقق لها طفرة مع التعاون التركي، فتركيا سابع أكبر مصدر للملابس على مستوى العالم، ومع اتجاه واحدة من أكبر شركات المنسوجات التركية للانتقال إلى مصر، ستنقل الخبرات التركية إلى قطاع المنسوجات المصري، وإضافة إلى ذلك ستنتعش صناعة الزجاج وصناعة الأجهزة الكهربائية داخل مصر بشكل كبير، كما أن قطاع الزراعة سيشهد تعاونًا كبيرًا بين البلدين، الأمر الذي سيُحقق الاكتفاء الذاتي والطفرة التصديرية للدولة المصرية، وبلوغ هدف الـ100 مليار دولار في الصادرات.
(-) ارتفاع معدل النمو الاقتصادي: إن التعاون المصري التركي في العديد من المجالات الاستراتيجية داخل الدولة المصرية، سيعمل على تحقيق مستويات عالية من النمو الاقتصادي، فتوسيع دورة الإنتاج والتشغيل في الدولة المصرية، والاهتمام بزيادة القيمة المُضافة للعديد من القطاعات الاستراتيجية، سيعطي دفعة لمعدل النمو داخل الدولة المصرية، الوصول به للمُعدل المستهدف إذ يتراوح بين 6 إلى 8%.
(-) تحقيق أمن الطاقة: يتوافق الهدف التركي في ملف الطاقة مع هدف الدولة المصرية، في تحقيق الريادة في صادرات الطاقة إلى العالم، إضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي منها، فمن المتوقع أن مذكرة التفاهم في مجال الطاقة بين الطرفين، سيعقُبها إقامة عدد من مشروعات الطاقة النظيفة في كل من مصر وتركيا، خاصة في الغاز الطبيعي والطاقة النووية، فحرص تركيا على استيراد الغاز الطبيعي المُسال من مصر، سيُحقق انتعاشة كبيرة في صادرات الغاز الطبيعي المصري، ما يُحقق عائدًا كبيرًا تستغله الدولة المصرية في تمويل مشروعات الطاقة بها، يُسهم في تحقيق أمن الطاقة، الذي يتوقف عليه النشاط الاقتصادي داخل الدولة.
(-) تنشيط قطاع السياحة: يُعتبر قطاع السياحة من أكبر القطاعات التي انتعشت بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وتركيا، وفي الشهور الأولى من عام 2023، بلغ عدد السياح الأتراك 50 ألف سائح، وارتفع عددهم في نفس الفترة من عام 2024 إلى 80 ألف سائح، ومن المتوقع أن يرتفع عدد السياح الأتراك بعد التعاون الاستراتيجي بين الدولتين إلى 250 ألف سائح، نهاية عام 2024، الأمر الذي سيُحفز قطاع السياحة المصري بدرجة كبيرة.
وعليه يُمكن القول إن زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، لتركيا، تأتي في توقيت دقيق يشهده العالم أجمع في العديد من المُتغيرات الاقتصادية، فقد أحدثت التوترات الجيوسياسية اختلالات اقتصادية كبيرة داخل العديد من الدول النامية، الأمر الذي تطلب إعادة تنسيق العلاقات بالشكل الذي يُحقق المنافع المُشتركة، خاصة على المستوى الاقتصادي، فالتعاون المصري التركي سيجعل كلًا من البلدين يستفيد من المزايا التنافسية للبلد الآخر، ما يُحقق العديد من الانعكاسات الاقتصادية الإيجابية.