كما كان متوقعًا وأعلن عنه الرئيس الأمريكي جو بايدن في 12 أبريل 2024، من أنه يتوقع أن تحاول طهران توجيه ضربة لإسرائيل في المدى القريب عاجلًا وليس آجلًا، ردًا على تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق، شنّت إيران في 14 أبريل 2024 هجومًا مكثفًا بالطائرات المُسيّرة والصواريخ، انطلاقًا من أراضيها باتجاه إسرائيل. وهو ما يعد أول هجوم إيراني غير مسبوق يستهدف العمق الإسرائيلي بشكل مباشر، حتى وإن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نجاح إسرائيل في التصدي للهجوم الإيراني، فيما اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت أن المواجهة لم تنته بعد، وتباينت ردود الأفعال الدولية الرافضة لذلك الهجوم والمطالبة بوقف التصعيد بين الجانبين لحماية الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، فيما أعلن عن عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لبحث تداعيات الهجوم الإيراني على إسرائيل. وطالبت مصر والسعودية والإمارات بممارسة أعلى درجات ضبط النفس.
هجوم متوقع
هناك العديد من المؤشرات التي عكست توقع الهجوم الإيراني على إسرائيل، والتي يمكن الإشارة إلى أهمها في المواقف الآتية:
(*) الولايات المتحدة الأمريكية: على المستوى الرسمي، أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن توقعه ردًا إيرانيًا عاجلًا وليس أجلًا، ردًا على استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في سوريا، كما أعلن البيت الأبيض أن التهديد الإيراني ضد إسرائيل حقيقي والهجوم، وقدر البيت الأبيض أن الهجوم الجوي ضد إسرائيل سيستغرق على الأرجح ساعات عدة، فيما أعلنت هيئة الأركان الأمريكية أنها تحضر لضمان جاهزيتها لأي تحرك إيراني محتمل ضد إسرائيل. فيما كثفت العديد من المنصات الإعلامية الأمريكية من تناولها لهجوم إيراني محتمل على أهدف إسرائيلية.
(*) إيران: أعلن المرشد الإيراني على خامنئي أن إسرائيل يجب أن تُعاقَب وسوف تُعاقَب. وجاء ذلك التصريح بعد استهداف إسرائيل القنصلية الإيرانية وتدميرها، ما أدى إلى مقتل 7 من المستشارين العسكريين الإيرانيين. فيما أعلن وزير الخارجية البريطاني عن تواصلهم مع وزير الخارجية الإيراني ومطالبته بوقف الاستهداف المحتمل للأراضي الإسرائيلية. كما أشارت تقارير إعلامية إلى حديث المستشار الألماني أولاف شولتس مع الرئيس الصيني شي جين بينج للتدخل لدى إيران لوقف لتصعيد المحتمل.
(*) إسرائيل: طالب مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الوزارات بالاستعداد لهجوم إيراني محتمل، كما تم إعطاء الأوامر بفتح الملاجىء العامة وتجهيزها، ومنع سفر جنود جيش الاحتلال للخارج للحاجة إليهم في الداخل، وحتى لا يكونوا عرضة لهجمات محتملة. فيما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي جالانت "أننا جاهزون للدفاع عن أنفسنا في حالة الرد الإيراني"، كما أعلن رئيس الأركان الإسرائيلي "أننا مستعدون للتعامل مع تهديدات إيران".
(*) تحذيرات لرعايا الدول الغربية وتعليق رحلات الطيران: نصحت بريطانيا رعاياها بمغادرة إسرائيل إذا لم تكن إقامتهم فيها دائمة، كما حثّت وزارة الخارجية الألمانية مواطنيها على مغادرة إيران وعدم السفر إليها، كما طالبت مواطنيها في إسرائيل ولبنان بالمغادرة أيضًا، كما أعلنت شركة لوفتهانزا الألمانية تمديد قرار إلغاء رحلات الطيران إلى إيران، كما نصحت وزارة الخارجية الألمانية بعدم السفر إلى إيران وإسرائيل، ولبنان. كما دعت وزارة الخارجية الفرنسية إلى عودة عائلات الدبلوماسيين الفرنسيين من إيران. كما أعلنت الخطوط الجوية النمساوية تعليق رحلاتها المارة بالمجال الجوي الإيراني، كما دعت وزارة الخارجية النمساوية مواطنيها الموجودين في إيران إلى المغادرة، وحذرت مواطنيها من السفر إلى إيران لتزايد المخاطر التهديدية من التصعيد الإيراني الإسرائيلي. كما أعلنت الخطوط الجوية الأسترالية تعليق رحلاتها إلى إيران لتجنب التوترات في الشرق الأوسط، وأعلنت هولندا إغلاق سفارتها الأحد 14 أبريل 2024 كإجراء احترازي.
استدراج أمريكي
تشير خبرات ودروس التاريخ والماضي القريب إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها مقومات لاستدراج الخصوم في حروب وأزمات ممتدة، تحقق من خلالها مصالحها الإستراتيجية، وتدعم حلفاءها، فقد سبق أن استدرجت العراق لاحتلال الكويت بعدما تردد عن اللقاء الشهير بين السفيرة الأمريكية في العراق جلاسبي والرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وإفصاحه عن رغبته في ضم الكويت للعراق، وما قيل عن أن رد السفيرة الامريكية بأنها شؤون داخلية اعتبرها صدام حسين ضوءً أخضر لتحقيق هدفه، ثم ما تلاه من تشكيل تحالف دولي قادته الولايات المتحدة الأمريكية نفسها عام 1991 لتحرير الكويت، وما أعقبه من تكثيف الوجود الغربي والقواعد الأمريكية في منطقة الخليج العربي، وإعلان الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب عقب نجاح عملية التحرير من أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود نظامًا دوليًا يتسم بالأحادية القطبية تتربع على قمته. أما الخبرة الثانية التي تعكس الاستدراج الأمريكي في الوقت الحاضر فهي الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022 ودخلت عامها الثالث، حيث أشارت العديد من التقديرات إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية استدرجت روسيا للمستنقع الأوكراني، فقد صدرت التصريحات المكثفة من مسؤولين أمريكيين أولًا في مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن -كما يحدث الآن مع التنبؤ بضربة إيرانية محتملة ضد إسرائيل- بالتأكيد على وجود تقارير تؤكد على قيام بوتين بشن عملية عسكرية ضد أوكرانيا.
وسعت الولايات المتحدة الأمريكية من ذلك الاستدراج إلى تحقيق هدفين، أولهما: تقليم أظافر الدب الروسي الساعي لمكانة دولية وتحميله بفاتورة حرب باهظة التكاليف على الاقتصاد الروسي تؤدى إلى تصاعد التوترات الداخلية وثانيهما: الحد من كثافة العلاقات الاقتصادية الروسية الأوروبية، وتقليل الاعتماد المتبادل بينهما بعد تدشين خطى نورد ستريم 1و2 لتصدير الغاز الروسي إلى أوروبا التي كانت تعتمد على 40% على استهلاكها منه، بما يحد من فعالية الضمانة الأمريكية للأمن الأوروبي ويسهم في دعم الاستقلالية الأوروبية عن المظلة الأمريكية. لذلك فإن التصريحات الأمريكية من مسؤولين في الإدارة الأمريكية وتكثيف الإعلام الأمريكي لتناول ذلك الاحتمال بتوقع الهجوم الإيراني على إسرائيل يأتي في إطار استراتيجية الاستدراج التي تجيد واشنطن نسج خيوطها، لذلك فهي تهدف من الاستدراج الإيراني إلى ذلك التصعيد المحسوب مع إسرائيل، لتحقيق العديد من الأهداف، أهمها:
(*) حماية إسرائيل من تهديد وجودي: مًنيَّت إسرائيل بخسائر كبيرة من عدوانها الغاشم على غزة بما جعل بعض التقديرات تشير إلى أن إسرائيل تواجه تهديدًا وجوديًا بعد عملية السابع من أكتوبر 2023، والتي كشفت هشاشة الأمن الإسرائيلي، وانكشافه وسقوط نظريات الردع الإسرائيلي بامتلاك القوة. هذا التهديد الوجودي أظهرته العديد من المؤشرات أولها فشل نتنياهو وجيش الاحتلال في تحقيق أيٍ من أهداف حربه الغاشمة على غزة، سواءً ما يتعلق بالقضاء على حركة حماس أو إطلاق سراح المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وثانيها ما يرتبط بمشاهد النزوح للمواطنين الإسرائيليين من المناطق المحاذية للعمليات العسكرية سواء في مستوطنات غلاف غزة أو المستوطنات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وذلك بإنشاء معسكرات لاستضافتهم. وثالثها انخفاض مستوى الهجرة إلى إسرائيل وتزايد عمليات الهجرة من إسرائيل إلى الخارج، بما دفع البعض لتوصيف إسرائيل بأنها "الدولة الفندق". والتي ما إن تتعرض للخطر حتى يتركها القائمين فيها. ورابعها حالة الذعر والرعب التي يعيشها الداخل الإسرائيلي وفقًا لما تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية من الهجوم الإيراني بالمسيرات، بما يكشف حالة الزيف التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي من قدرة حكومته اليمينية المتطرفة على فرض الواقع بامتلاك القوة الغاشم، حتى في ظل الحديث عن تماسك الداخل لمواجهة تحديات الخارج فقد تزامن الهجوم الإيراني مع مظاهرات إسرائيلية تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وإجراء انتخابات مبكرة.
(*) توظيف انتخابي: يشكل التصعيد الإيراني الإسرائيلي، ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية جعله تصعيدًا محسوبًا، وذلك من خلال ما قيل عن حوافز أمريكية غير معلنه لإيران للتخفيف من مستوى الرد الإيراني على استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في سوريا. وبالتالي فإن نجاح إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن بتوقع الهجوم واتخاذ الإجراءات الكفيلة بضبط مستواه وتجنيب إسرائيل رد إيراني حاسم سيتم توظيفه انتخابيًا في الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن بأن الإدارة الأمريكية تسعى للحفاظ على أمن إسرائيل برغم وجود حكومة يمينية متطرفة تعرض الدولة العبرية لتحدٍ وجودي يعكسه المظاهرات الضخمة التي تطالب بإسقاط حكومة بنيامين نتنياهو.
(*) العودة الأمريكية للشرق الأوسط: تبنى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما إستراتيجية التوجه شرقًا، لمواجهة التمدد الصيني وتقليل ارتباطات الولايات المتحدة الأمريكية بتفاعلات منطقة الشرق الأوسط لارتفاع تكلفة صراعاتها. وقد عكس التفاعل الأمريكي مع الهجمات الإيرانية بالمسيرات على إسرائيل -توقعًا ومساعدةً في احتواء الهجوم والتقليل من خسائره- عودة أمريكية للتفاعل مع قضايا الشرق الأوسط وأزماته التي دخلت مرحلة حافة الهاوية، حيث أعلن الرئيس الأمريكي عقب الهجوم الإيراني أنه تحدث مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأكد التزامه بأمن إسرائيل، فيما أشار وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إلى أن القوات الأمريكية اعترضت عشرات المُسيّرات والصواريخ الإيرانية، وطالب أوستن من وزير الدفاع الإسرائيلي جالانت بإخطار واشنطن بأي رد إسرائيلي.
مجمل القول، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في توقع ولجم الهجوم الإيراني وتحديد مستواه والمشاركة في التصدي له، ومحاولة ضبط السلوك الإسرائيلي في الرد. بما يعكس أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تمتلك مفاتيح التصعيد والتهدئة ما بين الدول الفاعلة في الشرق الأوسط. غير أن الحقيقة المؤكدة بأن الصراع الإيراني الإسرائيلي، وإن بدا أنه تحت السيطرة فإنه لم ينته بعد، وأن فصول من ذلك الصراع لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات والسيناريوهات والتي ربما تغامر بمستقبل الأمن الإقليمي للشرق الأوسط برمته وزعزعة استقراره الهش.