في خضم "العملية العسكرية الخاصة" التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا 24 فبراير 2022، انقلبت معادلة الأمن الأوروبي رأسًا على عقب ودخلت جيوش المنطقة في سباق مع الزمن لتحديث قدراتها التسليحية والعملياتية لكي تصبح أكثر قدرة على مواجهة خطر توسع الحرب في القارة العجوز، وعلى رأسها ألمانيا التي تمثل أكبر اقتصاد في أوروبا ورابع أكبر اقتصاد عالميًا، حيث أطلقت الحكومة الائتلافية بقيادة زعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي المستشار أولاف شولتس صندوقًا لتمويل تطوير الجيش بقيمة 100 مليار يورو، إلا أن عملية التحديث لا يزال يكتنفها العديد من التحديات التي تقوض الهدف الرئيسي للسياسة الدفاعية الجديدة بأن يكون الجيش الألماني "البوندسفير" لاعبًا رئيسيًا في مواجهة التهديدات التقليدية بأوروبا.
ومع الإجماع على أهمية التحديث العسكري، إلا أن مؤشرات التعثر تلقي بظلالها على المشهد السياسي المعقد في ظل تباين مواقف أحزاب الائتلاف بشأن الخطوات اللازمة لمعالجة تناقص أعداد منتسبي القوات المسلحة والجدل بشأن فرض التجنيد الإجباري من أجل الوصول بعدد القوات إلى 203 آلاف عنصر بحلول 2031، ليس فقط بين أحزاب الائتلاف، وإنما بين داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي بين المستشار أولاف شولتس ووزير دفاعه بوريس بيستوريوس، وقد كشفت مفوضة الدفاع في البرلمان "البوندستاج" وعضو الحز الحاكم إيفا هوجل في مارس 2024 أن عدد جنود الجيش تناقص خلال عام 2023 بمعدل 1537 عنصرًا.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي تقييم وضع الجيش الألماني في سياق خطط التطوير وحجم التهديدات المحيطة، والتداعيات المحتملة على التوازن العسكري في أوروبا وكذلك في المشهد السياسي الداخلي.
أبعاد خطة التطوير
في خضم مساعي تطوير مهام الجيش الألماني وتعزيز قدرته على شن الحرب وأن يكون ضامنًا للدفاع والردع التقليدي في أوروبا حسب تصريحات المستشار أولاف شولتس أمام البوندستاج في يونيو 2023، جاء إعلان وزير الدفاع عن إعادة هيكلة "البوندسفير" في 4 أبريل 2023 على النحو التالي:
(*) قيادة مركزية موحدة: ويتمثل في دمج القيادة الإقليمية للجيش الألماني في الداخل والقيادة العملياتية للقوات والبعثات الخارجية تحت قيادة مركزية موحدة بما يضمن رفع كفاءة الجيش وتعزيز التنسيق بين القيادة الجديدة وقوات حلف الناتو، ويدفع لتسريع الاستجابة للتهديدات الناشئة في القارة الأوروبية. ويعالج ذلك النموذج الخلل في هيكل الجيش الألماني على مدار السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة والتي اتسمت بانخفاض مستوى جاهزية الوحدات الإقليمية خلافًا للقوات المشاركة في المهام الخارجية المؤهلة للمشاركة في العمليات القتالية، كالحرب في أفغانستان وعمليات ومهام قوات حلف الناتو في أوروبا.
وتتضمن إعادة الهيكلة وجود 4 أفرع للقوات المسلحة الألمانية على رأسها الجيش (القوات البرية) إلى جانب سلاح الجو وسلاح البحرية وفرع الفضاء المعلوماتي والسيبراني المختص بمواجهة أنشطة الحرب الإلكترونية والتهديدات السيبرانية الهجينة، إلى جانب قيادات عملياتية ومجموعات دعم.
(*) نظام التجنيد: في إطار مساعي زيادة عدد قوات البوندسفير إلى 203 آلاف عنصر، يدفع وزير الدفاع بوريس بيستوريوس باتجاه العودة للتجنيد الإجباري الذي تم إلغائه في يوليو 2011 خلال حكم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وفي 22 أبريل 2024 طرح مخططو وزارة الدفاع ثلاثة سيناريوهات من أجل دعم الوصول للهدف المنشود بحلول 2031؛ أولها نموذج الدول الاسكندنافية وهو تفعيل التجنيد للشباب الذكور فوق 18 عامًا وانتقاء نحو 40 ألف عنصر سنويًا، وثانيها بقاء نظام التجنيد الحالي مع وضع حوافز لتشجيع الانضمام للجيش الألماني، وثالثها فرض التجنيد الإجباري على الذكور والإناث.
(*) زيادة التمويل: تتحرك برلين في إطار تعزيز الإنفاق الدفاعي ليواكب معيار الناتو (2%)، وقد طالب الوزير بيستوريوس بزيادة ميزانية الدفاع لعام 2025 بقيمة تتراوح بين 6.5 إلى 7 مليارات يورو، مع توقعات بنفاذ صندوق التمويل الخاص بقيمة 100 مليار يورو بحلول 2027. وفي عام 2023 بلغ حجم الإنفاق الدفاعي السنوي 63.7 مليار دولار (58.5 مليار يورو)، بما يعادل 1.42% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 4.46 تريليون دولار حسب تقرير التوازن العسكري 2024 الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، وبيانات مجموعة البنك الدولي.
تحديات متعددة
على الرغم من الخطط الطموحة التي تهدف لأن يكون الجيش قادرًا على شن حرب بحلول 2029 تحسبًا لتدهور الأوضاع على الجبهة الشرقية لحلف الناتو وتوسع نطاق الحرب الروسية الأوكرانية، إلا أن تحديات جمة تهدد قدرة ألمانيا بتركيبة حكومتها الائتلافية على تنفيذ متطلبات السياسة الدفاعية الجديدة، وربما كنت سببًا رئيسيًا في تحجيم ردود فعل برلين على العملية العسكرية الخاصة وحرصها على البقاء في الخطوط الخلفية في معترك التصعيد مع روسيا.
(&) تحديات سياسية: تثير المطالبات بإعادة التجنيد الإجباري الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وعلى الرغم من تبني وزير الدفاع بوريس بيستوريوس لهذا الاتجاه عبر تهيئة الرأي العام لمخاطر المرحلة المقبلة والتحولات الجيوسياسية في أوروبا والتأكيد على تحول الجيش إلى قوة فعالة في الدفاع الإقليمي وقادرة على شن الحرب، إلا أن المستشار الألماني أولاف شولتس أكد في أكثر من تصريح أن بلاده لن تعود إلى نظام التجنيد الإجباري في ظل رفض أعضاء الائتلاف خاصة الحزب الديمقراطي الحر وهو ما عبر عنه مسئول ملف الدفاع بالحزب ألكسندر مولر.
(&) تحديات مجتمعية وديمغرافية: يعاني المجتمع الألماني من الشيخوخة في ضوء زيادة معدل الوفيات لما يقارب ضعف معدل المواليد سنويًا، حسب الإحصاءات الرسمية، ففي 2023 بلغ معدل المواليد نحو 692989 نسمة مقابل 1.03 مليون وفاة، بمعدل انخفاض 337011 شخص، ويتمتع الذكور بمتوسط أعمار 78 عامًا، مقابل 83.2 عامًا، ويرتبط غياب الزيادة الطبيعية في عدد السكان بتأخر وانخفاض معدل الإنجاب إذ يبلغ متوسط عمر السيدة الألمانية لدى إنجابها الطفل الأول 30.3 سنة، بمعدل 1.35 طفل لكل سيدة.
وتتباين رؤى المجتمع الألماني بشأن العودة للتجنيد الإجباري في ظل التهديدات التي يتعرض لها أمن ألمانيا، ففي استطلاع لشبكة "إم دي آر" الإخبارية الألمانية في مايو 2024 أُجرى على 25 ألف مبحوث، وافق نحو 61% على عودة التجنيد مقابل 38% من الرافضين، بينما تختلف تلك النتيجة من الفئات المطالبة بالتجنيد، إذ ينخفض مستوى التأييد لعودة التجنيد الإجباري في صفوف الشباب من 16 إلى 29 عام بنسبة 32% مقابل 61% في الفئة العمرية من 30 إلى 49 عامًا، وتبلغ أعلى مستوى في الفئة العمرية من 65 عامًا بنسبة 68%.
(&) تحديات مالية: يرتبط ذلك بعدم قدرة الحكومة الائتلافية على التوفيق بين أولويات الإنفاق الدفاعي الإضافي في التجنيد والتدريب والإعاشة وبناء الثكنات والمرافق للجنود الجدد من جهة، والإنفاق المتزايد على البرامج الاجتماعية والتحول الطاقي من جهة أخرى دون تجاوز سقف الديون الذي يبلغ 0.35% من الناتج المحلي الإجمالي (باستثناء حالات الطوارئ)، وهو ما ظهر في مسودة الميزانية الجديدة لعام 2025، حيث كشف وزير المالية كريستيان ليندنر عن تخفيض حزمة الدعم العسكري لأوكرانيا إلى 4 مليارات يورو مقابل 8 مليارات عام 2024، مشيرًا إلى أن أوكرانيا بحاجة للتعويل على الدعم الأوروبي وأرباح الأصول المجمدة الروسية.
وبينما من المتوقع أن تستنفد مليارات دعم الدفاع الألماني بحلول نهاية 2027، وتحتاج الحكومة الفيدرالية المقبلة أن تقر نحو 38.9 مليار يورو في 2028 حسبما نقلت بوليتيكو عن ليندنر، تشير مفوضة الدفاع بـ"البوندستاج" إيفا هوجل إلى "البوندسفير" بحاجة لنحو 50 مليار يورو على بند تحديث الثكنات وبناء المرافق العسكرية فقط.
تداعيات استراتيجية
نشرت ألمانيا في 8 أبريل 2024 كتيبة قتالية في ليتوانيا ضمن مجموعة قتالية بحجم لواء يضم 3 كتائب بإجمالي 5 آلاف عنصر من المتوقع اكتمال نشرها بحلول 2027 في إطار نموذج قوة الناتو الذي أقرته قمة الحلف في مدريد يونيو 2022 لنشر 8 مجموعات قتالية بحجم لواء على امتداد دول الجبهة الشرقية الثمانية، حيث تتولى ألمانيا قيادة مجموعة ليتوانيا.
وبالنظر لما نشرته صحيفة بيلد عن تقريرين رسميين ألمانيين في يناير وفبراير 2024 يرجحا اندلاع صراع مباشر بين موسكو وحلف الناتو في 2025 بدءًا من توترات في دول البلطيق باستخدام الأقليات الروسية في سبتمبر 2024 وصولًا لهجمات مباشرة ودقيقة على الأراضي الألمانية، فإن خطط التطوير والتحديث العسكري الألماني تبدو متأخرة في استجابتها للتهديدات التي قد تندلع في غضون أشهر معدودة بينما ستكتمل جاهزية الجيش نظريًا لخوض حرب نظامية بحلول 2029.
كما أن مبادرات تسريع وتيرة تسليم الأسلحة ودعم توسيع القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية لتطوير قدرات ردع تقليدية بعيدة المدى على غرار الاتفاق الرباعي بين ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا لتطوير صواريخ بعيدة المدى في 11 يوليو 2024 على هامش انعقاد قمة الناتو في واشنطن في الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس الحلف تشير إلى هشاشة منظومة الردع الأوروبية أمام المخاوف من "زحف روسي" قد يواكبه تراجعًا أمريكيًا عن دعم أوروبا في حالة وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل، وهو ما دفع لاتفاق برلين وواشنطن على نشر صواريخ أمريكية بعيدة المدى مؤقتًا في ألمانيا عام 2026 على هامش فعاليات قمة واشنطن.
وإجمالًا؛ على الرغم من التحولات الكبرى التي شهدتها السياسة الدفاعية الألمانية عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ومنها تعزيز مبيعات الأسلحة الألمانية وتطوير الأسلحة الأوروبية المشتركة، إلا أن تطوير الجيش وإعادة هيكلته لم تسر بنفس الوتيرة للاستجابة لحجم التحديات وبفجوات زمنية مؤثرة تهدد مصداقية تحول البوندسفير إلى ضامن رئيسي للأمن الأوروبي، وبالتالي يظل الوجود العسكري الأمريكي هو الفاعل الأهم في معادلة التوازن الاستراتيجي بالقارة الأوروبية.
ويبدو أن التحدي الرئيسي أمام الجيش يتمثل في تركيبة الحكومة الائتلافية والتي تتجنب اتخاذ خطوات استثنائية لتغيير الوضع الراهن وقد يؤدي ذلك إلى تغيير سياسي كبير في الانتخابات المقبلة 2025.