أعلن حلف الناتو يوم الخميس 18 يناير 2024، إجراء مناورات المدافع الصامد والتي تنطلق الأربعاء 24 من الشهر الجاري وتستمر حتى أواخر مايو 2024، بمشاركة 90 ألف جندي من قوات الحلف، بالتزامن مع استمرار المخاوف بشأن هزيمة أوكرانيا وتراجع الدعم العسكري الغربي لكييف، حيث أظهرت وثيقة عسكرية ألمانية نشرتها صحيفة "بيلد" واسعة الانتشار، توقعًا بنشوب حرب واسعة بين حلف الناتو وروسيا في صيف عام 2025، دفاعًا عن دول الجبهة الشرقية على وقع تهديدات هجينة من جانب روسيا، وهو ما قال الحلف إنه مجرد سيناريو محتمل، بينما سخرت منه المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، ووصفته بـ"توقعات الأبراج الفلكية".
يأتي ذلك بينما تتلقى الجبهة الأوكرانية مؤشرات متضاربة تلقي بظلالها على مستقبل المواجهة الغربية الروسية في أوكرانيا، على وقع المخاوف من التغيرات السياسية المحتملة في انتخابات 2024 بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وسط تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في عموم المنطقة الأوروأطلسية، إلى جانب التوترات الجيوسياسية المتصاعدة على عدة جبهات التي تتحدى قدرة جيوش الحلفاء على الاستجابة وتعزز من حالة عدم اليقين بشأن مستقبل الأمن في أوروبا.
وتأسيسًا على ما سبق يتناول التحليل الاستراتيجي التالي المخاطر والتهديدات التي تعترض منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" على المدى القصير، وخيارات الحلفاء في مواجهة تلك التحديات.
تحديات رئيسية
وضعت قمة فيلنيوس الأخيرة للحلف خطة عمل منهجية لمواجهة التهديد الروسي والتحدي الصيني، بالتركيز على دعم قدرات الحلفاء على مستوى الجاهزية العملياتية ورفع كفاءة التشغيل البيني، ودعم الاستثمارات الدفاعية لتقوية القاعدة الصناعية لدول الحلف في تلبية احتياجات دول الحلف وكذلك الطلب الأوكراني المتسارع على وقع الحرب الدائرة مع روسيا، وإيجاد مسار واضح لمستقبل علاقة كييف بالحلف، كما تضمنت التحضيرات للقمة تعزيز ودعم روابط الناتو بالحلفاء الآسيويين الأربعة اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا بإقامة مكتب اتصال في طوكيو، إلا أن حجم الاستجابة لا يزال دون المطلوب، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
(*) القصور الهيكلي: على الرغم من مواصلة الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا في مواجهة روسيا، إلا أن مخرجات القمة كانت دون مطالب كييف التي عانت تذمر الحلفاء من مطالب وانتقادات الرئيس فولودومير زيلينسكي، إذ لم تحدد القمة مسارًا زمنيًا واضحًا لعضوية أوكرانيا للحلف، كما تركت إعطاء الضمانات الأمنية طويلة الأمد على عاتق دول مجموعة السبع باتفاقات ثنائية، وهو ما لم يتحقق لكييف سوى مع المملكة المتحدة في 12 يناير الجاري، ليتضمن الاتفاق الأمني بينهما والقائم لمدة 10 سنوات، زيادة المساعدات العسكرية وإنتاج آلاف المسيرات الاستطلاعية والهجومية، العاملة بالمجالين الجوي والبحري.
وتتطلب الضمانات الأمنية دورًا أكثر فاعلية في تأمين المخزون الكافي من ذخائر المدفعية وصواريخ الدفاع الجوي من طراز باتريوت، وهو ما لم تتمكن القاعدة الصناعية للحلفاء من استيعابه في ظل الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي على الدعم العسكري لكييف، خاصة من قبل المجر، التي أعاقت في منتصف ديسمبر الماضي حزمة مساعدات أوروبية بقيمة 50 مليار يورو.
وينطبق ذلك الأمر على تقلبات السياسة الأمريكية التي باتت حائلًا دون تمرير حزم مساعدات جديدة إلى كييف، في ظل تصاعد المخاوف بشأن العودة المحتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض مطلع العام المقبل، رغم كونها الضامن الأهم لبقاء واستمرار كييف كدولة، نتيجة للدعم العسكري والاقتصادي الأمريكي الحيوي، وهي المعضلة التي عززت المخاوف بشأن مستقبل أوكرانيا بدون ضمانات أمريكية طويلة الأمد، إذ رفض مجلس الشيوخ الأمريكي في 6 ديسمبر 2023 حزمة مساعدات أمنية تتضمن دعم أوكرانيا بقيمة 50 مليار دولار، نتيجة للخلافات الداخلية بشأن مخصصات أمن الحدود.
وفي ظل تعثر التوافق الأوروبي على دعم أوكرانيا نتيجة التكلفة الباهظة لدعم الدفاع الجوي، اتفق الحلف مطلع العام الجاري على دعم مشتريات بعض الدول الأعضاء لنحو 1000 صاروخ دفاع جوي من طراز "باتريوت"، وهو ما لا يفي باحتياجات أوكرانيا في ظل الاستنزاف الروسي المتعمد للدفاعات الأوكرانية.
وعلى صعيد الخلافات بشأن تقاسم الأعباء، يبرز تحدي الانتخابات الرئاسية الأمريكية وتصدر الرئيس السابق دونالد ترامب للمشهد من جديد ليلقي بظلال من الشك على مستقبل الخطط الدفاعية للحلف، ففي ظل التقرير الألماني المسرب والذي يتوقع نشوب مواجهة هجينة بين روسيا ودول بحر البلطيق الثلاث تنتهي بابتلاع تلك الدول وخوض مواجهة شاملة بين روسيا وحلف الناتو، يظهر السيناريو تفوقًا عدديًا ملحوظًا للجانب الروسي، عند الأخذ في الاعتبار للإرباك المحتمل للقوات الأمريكية في أوروبا نتيجة تزامن تلك المناوشات بداية من سبتمبر المقبل باستغلال الأقليات الروسية في تلك الدول، تزامنًا مع اقتراب الانتخابات في الداخل الأمريكي، وذلك على غرار ما جرى في شبه جزيرة القرم 2014، حسب توصيف الوثيقة الألمانية.
(*) تآكل الردع: تزامنًا مع جهود روسيا لامتلاك 50 غواصة جديدة بحلول 20230، تتسارع خطى الجيوش الأوروبية في بناء أسطول غواصات متقدمة، إذ تخطط السويد لإدخال غواصتين هجوميتين تعملان بالكهرباء ووقود الديزل عامي 2027 و2028، كما طلبت النرويج من مجموعة تيسين كروب للأنظمة البحرية بناء 4 غواصات، إلى جانب دخول 6 غواصات فرنسية جديدة من طراز "باراكودا"، ونحو غواصتين من طراز 212 للأسطول الألماني المكون من 6 غواصات، وسيرتفع أسطول بريطانيا من غواصات "تودارو" إلى سبعة غواصات بنهاية العقد الجاري، إلى جانب 8 غواصات "أستوت" إيطالية، علاوة على العروض المقدمة للقوات البحرية في هولندا، وتوجه الدنمارك لإعادة بناء الأسطول البحري بعدما تخلت عن قوتها البحرية في 2004، وفق تقرير لمجلة بوليتيكو.
وفي ظل الانكشاف الواضح للجبهة الشرقية للحلف في دول البلطيق، تنطلق تدريبات "المدافع الصامد" بمشاركة 31 دولة عضو إلى جانب السويد بعدد 50 قطعة بحرية منها مدمرات وحاملات طائرات، وأكثر من 80 مقاتلة ومروحية وطائرة مسيرة، إلى جانب نحو 1100 مركبة قتالية تضم على الأقل 133 دبابة ونحو 533 مركبة مشاة، ضمن خطة الدفاع الإقليمية الأولى عن الجبهة الشمالية الشرقية، والتي تعد أضعف حلقات الدفاع الغربي في مواجهة روسيا، نتيجة لعدة عوامل؛ أولها: صغر حجم جيوش دول البلطيق وعمقها الاستراتيجي في ظل إحاطتها من جانب روسيا بيلاروسيا شرقًا، وجيب كالينينجراد غربًا، وإمكانية إطباق قوات الاتحاد الروسي عليها في مدى زمني قصير عبر قطع ممر سوالكي مع بولندا، بمساعدة نحو 70 ألف جندي تجهز روسيا للدفع بهم من جهة بيلاروسيا، علاوة على الردع الصاروخي الذي تحتمي به كالينينجراد.
وثانيها؛ ضعف البنية التحتية العسكرية للناتو في الشرق وعدم قدرة قاعدة الصناعات الدفاعية على سد الاحتياجات في أوقات الأزمات خاصة باستمرار الحرب في أوكرانيا، وهو ما يدفع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية للبحث عن ذخائر للجيش الأوكراني من مخزونات الشركاء من خارج الحلف خاصة في اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا.
وثالثها؛ تقاسم الأعباء الدفاعية، خاصة مع تفضيل الحلفاء على الجبهة الشرقية للوجود العسكري الأمريكي الدائم في المجموعات القتالية بدول البلطيق إلى جانب بولندا، لصد أي هجوم روسي محتمل، فضلًا عن تحويل بولندا إلى خط دفاع متقدم ونقطة تجميع القوات بديلًا عن ألمانيا، مما يختصر زمن الاستجابة لتلك التهديدات المحتملة.
(*) مخاطر الانكشاف في آسيا: لا تزال الخلافات حول تمدد الحلف أو توسيع مظلته لمجابهة "الإكراه الاقتصادي للصين" وتعزيز سلاسل الإمداد المدنية والعسكرية للحلفاء، تغلب على الموقف الأوروبي، في ظل الاهتمام المُركّز على روسيا باعتبارها التهديد الأبرز، ورغم الجهود الأمريكية الحثيثة في دفع الحلفاء الغربيين والآسيويين لاتخاذ موقف متشدد تجاه الصين، إلا أن التغير المحتمل في القيادة الأمريكية وغياب اليقين بشأن التوجهات الأمريكية المستقبلية للنظام العالمي قد تضعف ثقة الحلفاء الآسيويين في مظلة الناتو، كما تدفع لسباق تسلح أكثر شراسة بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جهة والصين إلى جانب روسيا وكوريا الشمالية من جهة أخرى.
ومن شأن تضاؤل قدرة الردع الأمريكي منفردًا في مواجهة التحديث المستمر في جيش التحرير الشعبي الصيني وقواته البحرية التي تتفوق في عدد القطع البحرية بعدد 370 سفينة وغواصة، وقدرة إضافة قطع جديدة سنوية بنحو 232 ضعف قدرة الولايات المتحدة التي تمتلك 291 قطعة فقط، أن يؤثر على موازين القوى في منطقة الإندوباسيفيك، حسب تقرير "التطورات الأمنية والعسكرية لجمهورية الصين الشعبية 2023"، الذي تقدمه وزارة الدفاع الأمريكية إلى الكونجرس سنويًا.
ختامًا؛ رسخت قمم حلف الناتو منذ قمة ويلز 2014، حتى قمة فيلنيوس 2023، مفهوم المواجهة الاستراتيجية بين أعضاء الحلف من جهة وروسيا من جهة أخرى، وصولًا للقطيعة الكاملة بإغلاق مكتب الحلف لدى موسكو وتعليق عمل بعثة روسيا لدى الحلف في بروكسل 2021، بعد فشلت جهود خفض التصعيد حول أوكرانيا. ومع تصاعد المخاوف بشأن التحولات السياسية التي قد تسفر عنها الانتخابات الأمريكية والأوروبية هذا العام يواجه حلف الناتو تحديات ضخمة على صعيد تأمين الاحتياجات الدفاعية والحفاظ على التوازن في مواجهة روسيا، فيما تلقي المخاوف بشأن استمرار وحجم الدعم الأمريكي للحلفاء داخل الناتو بظلالها على مستقبل التوازن الاستراتيجي في القارة الأوروبية وإعادة النظر في توسع الحلف شرقًا، ومن الممكن أن يؤدي سوء الإدراك لتصعيد على جبهة البلطيق في ضوء تعزيز الترسانات البحرية للدول المشاطئة مثل روسيا من جهة والسويد وباقي الحلفاء من جهة أخرى.