أعلنت وزارة الخارجية اليابانية، يوم الجمعة 21 يونيو 2024، فرض عقوبات على 41 شركة و11 شخصية روسية، بينهم موظفون في لجنة الانتخابات المركزية الروسية، وأعلنت وزارة الخارجية الروسية أن موسكو أبلغت السلطات اليابانية بالطبيعة الضارة للعقوبات الجديدة التي فرضتها طوكيو على العلاقات الثنائية بين البلدين، متوعدة بالرد الصارم للغاية عليها، فقد جاء في بيان الخارجية الروسية في إشارة لهذه العقوبات "خطوة أخرى نحو التدمير الكامل للعلاقات تمثلت في فرض الحكومة اليابانية بتاريخ 21 يونيو الحزمة الرابعة والعشرين من العقوبات الأحادية الجانب غير المشروعة ضد بلدنا".
وفي هذا السياق، يُثار تساؤل حول مدى قدرة روسيا الاتحادية على الرد الصارم على العقوبات اليابانية الأخيرة بحقها؛ فما أوراق الضغط الروسية لتشكيل هذا الرد بما يردع اليابان مستقبلًا عن فرض مثل هذه العقوبات؟
أوراق ضغط روسية
تمتلك روسيا عدة أوراق يمكن أن تستخدمها للضغط على اليابان حاليًا للرد على عقوباتها الأخيرة عليها أو لردعها عن فرض مثل هذه العقوبات مستقبلًا، وتشمل هذه الأوراق مجموعة من المجالات العسكرية والاستراتيجية والاقتصادية، وذلك على النحو التالي:
(*) دعم وتعزيز التحركات الروسية العسكرية في جزر "كوريل" المتنازع عليها: تؤكد اليابان تمسكها بجزر "كوريل"، التي تخضع لسيطرة روسيا، وتصفها طوكيو بـ"المناطق الشمالية"، في إطار نزاع يعود تاريخه إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعد الجزر الأربع جزءًا من أرخبيل بحري كبير وغني بالموارد والمعادن النادرة، فقد ورد في "الكتاب الأزرق الدبلوماسي لعام 2022" الذي أصدرته وزارة الخارجية اليابانية أن: "الأراضي الشمالية هي جزر تخضع لسيادة اليابان، وجزء لا يتجزأ من أراضينا، وتخضع الآن لاحتلال غير قانوني من روسيا". وترد موسكو على ذلك بالقول إن كل الجزر الأربع على الحدود مع اليابان ستبقى جزءًا لا يتجزأ من أراضي روسيا.
وقامت روسيا في مارس 2023 بنشر صواريخ دفاعية ساحلية في جزر الكوريل المتنازع عليها مع اليابان وإجراء مناورات بمشاركة أكثر من 3000 جندي روسي. وقد يقود التصعيد المتبادل بين الطرفين حول تلك الجزر إلى تفجير أزمة خطيرة أخرى على هامش الحرب الروسية الأوكرانية، في وقت يزداد التلويح فيه بحرب عالمية ثالثة، ففي ظل العقوبات الأخيرة قد تتجه روسيا إلى إجراء المزيد من المناورات العسكرية في محيط جزر الكوريل، وهو ما يمثل بالطبع عقابًا لطوكيو على اصطفافها مع الغرب والانضمام لركب فرض العقوبات الصارمة على موسكو، ورفض اليابان بشدة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.
ويعزّز ذلك الوضع العسكري في المنطقة، حيث توجد قوات عسكرية روسية في الشرق الأقصى الروسي، وتقوم روسيا بإجراء تدريبات عسكرية بشكل دوري في هذه المنطقة. ويمكن لهذا الوجود العسكري أن يتزايد ليشكّل تهديدًا محتملًا أكبر لليابان ويزيد من الضغوط العسكرية الروسية عليها مستقبلًا.
(*) إمدادات الطاقة الروسية لليابان: تعتبر روسيا من أكبر مصدّري النفط والغاز في العالم، وتعتمد اليابان بشكل كبير على واردات الطاقة الروسية، ويمكن لروسيا استخدام مواردها الطاقية كورقة ضغط من خلال تغيير شروط التصدير أو تقليل الكميات المصدرة لليابان.
ورغم العقوبات السابقة، بلغت الواردات اليابانية من الغاز الروسي أعلى مستوياتها خلال ديسمبر 2023، فقد ارتفعت صادرات الغاز الطبيعي المسال من روسيا إلى اليابان خلال هذا الشهر بنسبة 43% عن حجم هذه الصادرات في نهاية عام 2022 ووصلت إلى 833 ألف طن، وهو أعلى مستوى شهري لواردات اليابان من الغاز خلال سبع سنوات. وزادت اليابان احتياطياتها من الغاز الطبيعي المسال في شتاء 2023 بنسبة أعلى عن العام 2022 بنسبة 7% لترتفع بنسبة 31% عن متوسط وارداتها من الغاز في السنوات الخمس الماضية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه البيانات بعد الكشف عن قيام الاتحاد الأوروبي باستيراد كميات قياسية من الغاز الطبيعي المسال من روسيا، رغم عقوباته الواسعة على موسكو ومساعي تخليه عن موارد الطاقة الروسية من النفط والغاز بعد بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
ويرى البعض أن مشروع "أركتيك للغاز المسال-2" في منطقة القطب الشمالي الروسية مهم لأمن الطاقة في اليابان، وأن الولايات المتحدة لم تأخذ في الحسبان مصالح اليابان عندما فرضت عقوبات على روسيا.
وتعوّل روسيا على مشروع "أركتيك للغاز المسال-2" لزيادة إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال، وفي سبتمبر 2023، صرّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن هذا المشروع لا مثيل له بالعالم. وتبلغ قيمة المشروع الاستثمارية قرابة 20 مليار دولار، ويقع في شبه جزيرة جيدان في شمال روسيا.
(*) التعاون الاقتصادي والاستثمارات اليابانية في روسيا: تستثمر الشركات اليابانية في تطوير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية في روسيا، وخاصة في منطقة الشرق الأقصى الروسية، ويمكن لروسيا التأثير على هذه الاستثمارات من خلال تغيير سياساتها أو فرض قيود جديدة على أعمال هذه الشركات. فقد أكد السفير الروسي نيكولاي نوزدريف الذي تم تعيينه في مارس 2024 لدى اليابان، أن الشركات اليابانية لا ترغب في مغادرة روسيا في ظل ما أظهره الاقتصاد الروسي من قدرة على الاستقرار والنمو. وأشار في أول مقابلة له مع وسائل إعلام بعد وصوله إلى طوكيو، إلى أن الشركات اليابانية، التي حافظت على أنشطتها في روسيا، مهتمة بمواصلة العمل، حيث يرسل مجتمع الأعمال الياباني مثل هذه الإشارات، كما أن لدى الشركات اليابانية في روسيا خططًا لتوسيع الأعمال، وتنطلق هذه الخطط من حقيقة أن الاقتصاد الروسي في السنوات الأخيرة أظهر درجة عالية من الاستقرار وحقق نموًا رغم العقوبات، وهي مسألة تعود في جانب منها للاستثمارات المتدفقة للدولة الروسية، الأمر الذي يتأكد في ظل تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مطلع هذا الشهر من أن روسيا سبقت بالفعل اليابان وألمانيا من حيث حجم الاقتصاد بناء على معيار تعادل القوة الشرائية، وأنه يجب العمل لضمان نمو الاقتصاد الروسي بشكل مستدام.
وأقدم البنك الدولي على تحديث بيانات تعادل القوة الشرائية، التي يتبين منها أن روسيا منذ عام 2021 تحتل المركز الرابع عالميًا وبعدها تأتي اليابان وألمانيا، فوفقًا لبيانات البنك الدولي، في هذا العام، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الروسي على أساس تعادل القوة الشرائية 5.7 تريليون دولار، يليها اليابان 5.6 تريليون دولار، وألمانيا 5.2 تريليون دولار.
(*) التحالفات الاستراتيجية لروسيا الاتحادية مع أعداء اليابان: تستفيد روسيا من العلاقات القوية مع الصين وكوريا الشمالية، مما يمكنها من ممارسة ضغوط سياسية على اليابان في إطار توازنات القوى في المنطقة، فقد تدخل الصين على خط الأزمة حول جزر الكوريل لدعم روسيا في صراعها مع اليابان حول هذه الجزر حال اشتعاله مجددًا، فالصين منحازة لروسيا بطبيعة الحال في سياق صراعات النفوذ والسيطرة المشتعلة في مناطق شرق وجنوب شرق آسيا وعموم منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويدعم ذلك العداوة التقليدية بين الصين واليابان في إطار علاقات متوترة أحيانًا بين البلدين.
تهدئة يابانية
أدى تشابك المصالح الاستراتيجية والاقتصادية بين روسيا واليابان، إلى سعى الأخيرة إلى التهدئة الدبلوماسية مع روسيا. فقد أعربت طوكيو في 24 يونيو الجاري عن ترحيبها باجتماع ممثلي وزارتي الخارجية اليابانية والروسية في موسكو بطلب من الجانب الياباني يوم الجمعة الماضي ووصفته طوكيو بـ"المهم"، لتبادل وجهات النظر مع روسيا حتى في ظل الصعوبات التي تواجهها العلاقات بين البلدين.
وقال سكرتير مجلس الوزراء الياباني يوشيماسا هاياشي: "نقل الجانب الياباني موقف الحكومة اليابانية إزاء الوضع في أوكرانيا، وأعرب عن قلقه للتعاون العسكري المستمر بين روسيا وكوريا الشمالية، والزيارة الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية".
وأكد هاياشي أن العلاقات اليابانية الروسية معقدة بسبب الوضع في أوكرانيا، إلا أنه ومع ذلك، وفي مثل هذه الظروف "من المهم أن تتاح الفرصة لليابان وروسيا لتبادل وجهات النظر، ولذا نعتبر أن هذا الاجتماع كان مهمًا انطلاقًا من ذلك".
وفي المقابل أشارت وزارة الخارجية الروسية إلى أضرار العقوبات اليابانية الجديدة ضد روسيا على العلاقات الثنائية، وحذّرت من أن ذلك "سيؤدي إلى إجراءات وتدابير صارمة وحساسة للغاية ستتخذها روسيا ضد اليابان".
وفي النهاية، يمكن القول إن العقوبات اليابانية مرتبطة بالأساس باستمرار الأزمة الروسية الأوكرانية في إطار تحالف اليابان مع الغرب لإضعاف القدرات الروسية لتخرج خاسرة من هذه الأزمة، وبالنسبة لروسيا تتمسك بتحقيق نصر استراتيجي يدعم مصالحها وأهدافها الأمنية والاستراتيجية المرتبطة بهذه الأزمة، التي تؤثر مثل هذه العقوبات سلبًا في تحقيقها، الأمر الذي يُتوقع معه تزايد حدة الصراع بين روسيا الاتحادية واليابان مستقبلًا عبر المجالين الاقتصادي والعسكري، ويتجسد ذلك في التحذير الروسي لليابان بعد فرض الحزمة الأخيرة من العقوبات اليابانية، فقد حذّرت الخارجية الروسية بشأن هذه الحزمة وأن موسكو ستواصل الرد "بأقسى التدابير المضادة وأكثرها حساسية بالنسبة لطوكيو، مسترشدين فقط بمصالحنا الوطنية الخاصة".