سيتوجه الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع في شهر نوفمبر 2024، لانتخاب الرئيس الأمريكي المقبل للبلاد، وتحظى هذه الانتخابات بأهمية خاصة بين انتخابات الرئاسة في دول العالم، نظرًا للتأثير الكبير للرئيس الأمريكي في إدارة الشؤون الدولية، حيث التأثير الممتد على حياة الناس داخل وخارج الولايات المتحدة، الذي يشمل الكثير من دول العالم، في مقدمتها روسيا الاتحادية بحكم عوامل عديدة في مقدمتها الجغرافيا.
فالولايات المتحدة الأمريكية تتكون من 50 ولاية من بينها 48 ولاية فقط في قارة أمريكا الشمالية وعن حدود تلك الولايات ويحدها المحيط الهادئ من الجهة الغربية والمحيط الأطلسي من الشرق، وتتشارك الولايات الـ48 من الشمال مع دولة كندا ومن الجنوب مع دولة المكسيك، وعن ولايتي أمريكا غير المتقاربتين فهما ألاسكا وهاواي فتقع ولاية ألاسكا شمال غرب القارة الأمريكية الشمالية وتشارك الحدود الخاصة بها مع روسيا من الغرب وكندا شرقًا.
فالمسافة بين كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية لا تزيد على 4 كيلومترات، فعندما ينظر المرء إلى موقع الدولتين على خريطة العالم، يتبادر إلى الذهن أن المسافة التي تفصل بينهما في أقرب الأحوال تمتد لآلاف الكيلومترات، في حين أن المسافة الفعلية بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا صغيرة، فالكرة الأرضية دائرية وتتقابل كل من الدولتين في الجزء الخلفي لخريطة العالم خاصة من خلال جزر ديوميد، وهي عبارة عن جزيرتين متجاورتين إحداهما روسية والأخرى أمريكية، وهي جزر في وسط بحر بيرنج وتتكون من جزيرة ديوميد الكبرى التابعة لروسيا وجزيرة ديوميد الصغرى التابعة للولايات المتحدة الأمريكية، وتقع الجزر الصخرية الصغيرة في وسط المسافة بين قارتي آسيا وأمريكا الشمالية. كما يفصل بين الجزيرتين خط حدودي، وأيضًا خط الوقت العالمي، فيما تعدان أقرب نقطتين بين الولايات المتحدة وروسيا حيث تبعدان عن بعضهما 4 كيلومترات فقط (2.5 ميل)، وديوميد الكبرى هي أبعد نقطة إلى الشرق في روسيا.
في هذا السياق، تُثار عدة تساؤلات؛ ما موقع روسيا الاتحادية في الأجندة الانتخابية لمرشحي الانتخابات الأمريكية 2024؟، ما أهم العوامل التي تشكل وجدان الناخب الأمريكي تجاه روسيا الاتحادية، التي من شأنها التأثير في قراره الانتخابي لصالح مرشح رئاسي دون غيره؟، ما أهمية الانتخابات الرئاسية الأمريكية لروسيا الاتحادية؟، وما أهم أدوات روسيا الاتحادية للتأثير في هذه الانتخابات؟
روسيا في وجدان الناخب الأمريكي:
تحدد نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية عدة عوامل أساسية، في العادة لا تكون السياسة الخارجية جزءًا منها، إذ لا تمثل السياسة الخارجية للولايات المتحدة عاملًا حاسمًا في نتائج الانتخابات الرئاسية، لكن في ظل الظروف الراهنة، فقد تنكسر هذه القاعدة مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، ومع اتباع كل من المرشحين لاتجاه سياسي مختلف تمامًا عن الآخر، فإن نتيجة الانتخابات هذه المرة يمكن أن تتوقف على كيفية تعامل كل منهما مع تحديات السياسة الخارجية التي تواجهها الولايات المتحدة حاليًا، فضلًا عن آرائهم فيما يتعلق بالقضايا والأوضاع الاقتصادية ذات الأهمية التقليدية.
وفي الوقت الراهن، يتأثر موقع روسيا في وجدان الناخب الأمريكي - وبالتالي في سلوكه الانتخابي خلال الانتخابات المقبلة - بالعوامل التالية:
(*) إدراك مدى تأثير الحرب الروسية الأوكرانية على المكانة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية: يُنظر لهذه الحرب في إطار المنافسة المستمرة بين الولايات المتحدة وروسيا، التي ينظر إليها البعض بأنها تتجاوز الحرب الباردة، ويمكن أن تهدد تداعياتها بإحداث مواجهة مباشرة. فهذه الحرب تشكل أزمة عالمية خطيرة ومستمرة منذ أكثر من عامين ويمكن أن تؤثر تداعياتها على مكانة الولايات المتحدة على الساحة العالمية لصالح روسيا الاتحادية، وهو الأمر الذي يفسر الدعم المستمر من جانب الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين بتقديم التمويل والأسلحة لأوكرانيا في الحرب التي أثرت تداعياتها على العالم ككل من مختلف الجوانب الاقتصادية، والمالية، والأمنية.
(*) إدراك مدى أهمية دور الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة العالمية: من أهم القضايا التي تشغل أذهان المجتمع الأمريكي، هي تلك المتعلقة بدور الولايات المتحدة على الساحة العالمية، فهناك رغبة سائدة في دعم الهيمنة الأمريكية والغربية على العالم، إذ يدعو البعض إلى تبني دول أخرى قيم النظام الأمريكي على المستويين الدولي والمحلى. وتنتقد هذه الفئة سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وجه الخصوص، وتشعر بقلق عميق إزاء النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين باعتباره تهديدًا محتملًا.
ومع ذلك، يوجد تباين كبير بين رغبة المجتمع الأمريكي في الهيمنة ورغبته في تحمل المسؤوليات المرتبطة بأدواره الأمنية والسياسية العالمية. فعلى الجانب الآخر، هناك قطاع من المجتمع الأمريكي أكثر برجماتية، يفضل اتباع نهج أكثر تعاونًا ونفعيًا مع الشؤون الدولية، إذ يعطي الأولوية للمصالح والعلاقات الوطنية القائمة على المنفعة المتبادلة مع منح استثناءات أقل، ويرى الولايات المتحدة كقوة اقتصادية كبرى قادرة على ردع التحديات العسكرية أو الاستجابة لها، دون تحمل مسؤوليات واسعة النطاق تجاه الآخرين، أو محاولة فرض نظامها الخاص على الدول الأجنبية. ويعكس التحول المتكرر في الانتخابات الرئاسية الأمريكية على مدى العقود الثلاثة الماضية - إذ صوّت الناخبون لشخصيات شديدة الاختلاف، بل ومتناقضة في بعض الأحيان - هذا الخلاف داخل المجتمع.
(*) إدراك ثقل روسيا الاتحادية في النظام الدولي الراهن: يرتبط ذلك بدورها المتنامي والملحوظ في إعادة تشكيل النظام الدولي، خاصة في ضوء المخاوف التي أثيرت مؤخرًا بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، إما بين الولايات المتحدة وروسيا، أو بين الولايات المتحدة والصين. فتتبادل كل من روسيا والولايات المتحدة تصريحات تصادمية وحادة، إلى جانب تجدد التحذيرات من احتمال العودة إلى ديناميكيات الحرب الباردة.
أهمية الانتخابات الأمريكية 2024 لروسيا:
يشعر كبار المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين بالقلق من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يأخذ الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، بعين الاعتبار في تخطيطه للحرب بأوكرانيا. ويأتي ذلك على أمل أن خسارة الرئيس الأمريكي الانتخابات المقبلة ستؤدي إلى تقليص دعم أمريكا لأوكرانيا وتحسين الموقف التفاوضي لروسيا.
فليس لدى الولايات المتحدة حتى الآن معلومات استخباراتية واضحة حول ما يدور في عقل بوتين، أو ما إذا كان يتعمد إطالة أمد الحرب، على أمل فوز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. لكن الانتخابات الرئاسية المقبلة لا تزال عاملًا رئيسيًا يعتقد كبار مسؤولي الأمن القومي والاستخبارات والدبلوماسيين في الغرب أنه سيؤثر على قرارات بوتين في أوكرانيا، ما يقلل من احتمال إنهاء الحرب، قبل نهاية 2024. وقال أحد المسؤولين الأمريكيين إنه "ليس لديه شك" في أن بوتين "يحاول الصمود" حتى انتخابات عام 2024.
من ناحية أخرى، تفرض الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة مزيدًا من الضغط على الهجوم المضاد الأوكراني، إذ يأمل الأوروبيون والأمريكيون والأوكرانيون في تحقيق مكاسب أوكرانية كبيرة للتأثير المحتمل على حسابات بوتين قبل نهاية عام 2024. وقال أحد المسؤولين الأوروبيين إنه دون هذه المكاسب يمكن توقع محاولة بوتين عدم إنهاء الصراع حتى يتم معرفة نتائج المنافسة الانتخابية الأمريكية، ما يحبط أي محاولة للتفاوض على إنهاء القتال. وأدى هذا الاحتمال إلى إصرار أوروبا على شحن أسلحة أكثر قوة إلى أوكرانيا، على أمل تغيير ساحة المعركة قبل العام المقبل.
وعليه، يمكن القول إن بوتين يتطلع إلى فوز الرئيس السابق ترامب، ليكون حافزًا للولايات المتحدة لسحب دعمها لأوكرانيا. فعين بوتين على الانتخابات تجعل الأمر أكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة للحفاظ على دعم طويل الأجل لأوكرانيا، وهو التزام تواصل إدارة بايدن تأكيده.
موقع روسيا الاتحادية في الأجندة الانتخابية:
لا يمكن إغفال تأثير حالة الشد والجذب التي تتسم بها الأوضاع الداخلية الأمريكية في توجهات السياسة الخارجية، ومع هذا من المهم عدم المبالغة في تقدير عمق مثل هذا التأثير، ومن الأرجح أن يظل الاختلاف بين مرشحي الحزبين في سياق التوجه الاستراتيجي العام للسياسة الأمريكية وليس على حسابه. والتباين الأوضح يتعلق بروسيا، على النحو الذي يعكس موقف مرشحي الانتخابات المقبلة منها، على النحو التالي:
يتبنى ترامب موقفًا أكثر ميلًا للتفاهم مع روسيا الاتحادية عن بايدن، على غرار ما قام به نيكسون في السبعينيات من القرن الماضي عندما تبنى سياسة الانفتاح على الصين بغرض زيادة الهوة بينها وبين الاتحاد السوفيتي. كما يشكك أعضاء الكونجرس المنتمون لليمين المتشدد في جدوى استمرار المساعدات الكبيرة لأوكرانيا.
فلم يلتزم ترامب - المرشح الجمهوري - بدعم أوكرانيا في الحرب. وادعى أنه لو فاز يمكنه تسوية الحرب في غضون 24 ساعة، ويرى أن دعم أوكرانيا يجب أن يكون مشروطًا بتحقيقات الكونجرس مع بايدن وعائلته. وقال دان فريد، السفير الأمريكي السابق في بولندا، إن "الدعم السياسي لأوكرانيا سيتعرض للخطر إذا فاز ترامب".
وفي حين أنه من المستحيل التنبؤ بالموقف الذي قد يتبناه ترامب في حالة وصوله الحكم، فإن تأثير أي تفاهم مع روسيا لن يقتصر على التهدئة على النطاق الأوروبي، وإنما قد تمتد آثاره إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، خاصة فيما يتعلق بالصراع الخفي الدائر بين الولايات المتحدة وروسيا من ليبيا شمالًا إلى موزمبيق جنوبًا، ومن السودان شرقًا إلى مالي غربًا، والمرشح للانتشار إلى مناطق أخرى، فضلًا عن تأثير مثل هذه التهدئة في الساحات الإيرانية والعراقية والسورية وغيرها.
ونظرًا لكونه أقل التزامًا بنظام التحالف وغير مقيد بالعقيدة الأيديولوجية، فيمكن لترامب اتباع نهج أكثر واقعية تجاه القوى العظمى الأخرى وفي مقدمتها روسيا الاتحادية، كما يستطيع عقد صفقات سياسية مع المعارضين. وهو الأمر الذي يفسر استخدامه لغة ودّيّة ودبلوماسية عند الحديث عن فلاديمير بوتين وشي جين بينج، وحتى القيام بزيارات دبلوماسية إلى كوريا الشمالية. وفي حين أن تقسيم بايدن للعالم إلى ديمقراطيات ليبرالية ودول استبدادية، يجعل من روسيا خصمًا، فإن رؤية ترامب للعالم تجعل من روسيا حليفًا محتملًا.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكاتب الروسي جلين ديسين يرى في تقريره الذي جاء تحت عنوان "مقارنة بين سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب وتأثيرهما في الحوكمة العالمية"، أنه على الرغم من أن بايدن وترامب يتبع كل منهما وجهات نظر تختلف عن الآخر حول كيفية إدارة النظام العالمي، لكنهما يشتركان في الهدف، وهو عكس اتجاه التراجع الأمريكي النسبي في العالم، والحفاظ على موقع أمريكا كقطب أعظم وحيد فيه. فالاختلاف في النهج بين بايدن وترامب سيكون له تأثير عميق في الحوكمة العالمية، ويحدث فرقًا كبيرًا في العالم. فبينما يسعى بايدن إلى استعادة "عظمة" الولايات المتحدة، من خلال أنظمة التحالفات "الأيديولوجية" التي تعمل على تفتيت العالم إلى كتل إقليمية، يسعى ترامب إلى الانسحاب من مؤسسات الحكم العالمية، كونها تستنزف موارد الولايات المتحدة، وتعرقل السياسات العملية. فبايدن يسعى للحفاظ على الأحادية القطبية بكتل إيديولوجية اقتصادية وعسكرية، وتعزيز ولاء الحلفاء وتهميش الخصوم، ويتبع ترامب نهجًا أكثر واقعية كونه يعتقد أن نظام التحالف مكلف للغاية ويحدّ من حرية المناورة الدبلوماسية.
أدوات التأثير الروسية:
أكدت شركة مايكروسوفت منتصف هذا الشهر أن الحملات الروسية للتأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة، عبر الإنترنت، بدأت نشاطها خلال الأيام الـ45 الماضية، بوتيرة أبطا مما كانت عليه في الانتخابات السابقة.
وذكر باحثون في مايكروسوفت حسبما أفادت قناة الحرة الأمريكية، الخميس قبل الماضي، أن الحسابات المرتبطة بروسيا تنشر محتوى مثيرًا للانقسام يستهدف الجماهير الأمريكية بما في ذلك انتقاد الدعم الأمريكي لأوكرانيا لحربها مع روسيا. وأشار الباحثون إلى أنه على الرغم من أن النشاط الروسي الذي لاحظته مايكروسوفت لم يكن بنفس الكثافة التي كان عليها في الانتخابات السابقة، إلا أنه قد يزداد في الأشهر المقبلة. ولا تعتمد تلك الحملات على نشر المعلومات المضللة فسحب، وإنما تقوم كذلك بعمليات قرصنة إلكترونية تركز على استهداف مؤسسات الفكر والرأي الغربية.
إجمالًا، يمكن القول إن هناك تأثيرًا وتأثرًا بين كل من الانتخابات الأمريكية 2024، ومواقف روسيا الاتحادية إزاء عدد من الأزمات والقضايا الدولية المهمة للولايات المتحدة الأمريكية، ويتجسد ذلك فعليًا في الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة، وموقف مرشحي هذه الانتخابات اتجاهها، ومدى إدراك الناخب الأمريكي لمدى تأثيرها على المكانة العالمية للولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عما ستسفر عن نتائج هذه الانتخابات من احتمال تسوية هذه الأزمة من عدمه.
فقد يميل الناخب الأمريكي قي الانتخابات المقبلة إلى موقف ترامب المتمثل في نهج الانعزالي "أمريكا أولاً"، بسبب قلق هذا الناخب بشأن الميزانية والمخاوف المتعلقة بمالية الدولة، خاصة مع تصاعد الدعوات التي تطالب دول الناتو بالوفاء بالتزاماتها المتعلقة بالمزيد من الإنفاق العسكري. وهو نفس المطلب الذي كان يطلبه ترامب خلال فترة رئاسته السابقة، إذ ساد التوتر في العلاقات بينه وبين معظم قادة دول الناتو.
وفي المقابل، فإن بايدن والديمقراطيين يواصلون تبني سياسة خارجية يقودها التحالف الغربي بدعم أوكرانيا، فهم يرون أن الأزمة الأوكرانية هي ما أعادت إحياء حلف شمال الأطلسي، ولأن الولايات المتحدة تواجه العديد من الصعوبات بسبب دعمها لأوكرانيا، خاصة خلال العام الحالي، على النحو الذي يوضحه تصويت الكونجرس الأخير للمساعدات الأمريكية لأوكرانيا، فإنه من المرجح أن تسود المبادرات الدبلوماسية في النصف الثاني من العام الحالي، أو في أوائل عام 2025، لإنهاء الأزمة الروسية الأمريكية. ويزايد احتمال حدوث ذلك إذا ما تم انتخاب ترامب، ولا سيما أن الحرب في أوكرانيا يدعمها بايدن ما أدى إلى استمرارها وطول أمدها، ومع فوز بوتين وإعادة انتخابه في مارس الماضي، فإن علاقة ترامب الإيجابية معه يمكن أن تدعم الحلول الدبلوماسية في أوكرانيا، وبالتالي إعادة العلاقات الشاملة مع روسيا الاتحادية.