تشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ نزوعًا متزايدًا لعسكرة التفاعلات الإقليمية، على ضوء المخاوف التي أثارتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميين من تزايد القوة العسكرية للصين، لكن التحول التاريخي الأبرز يتمثل في انخراط اليابان تدريجيًا بخطط تحديث جيشها وتطوير صناعاتها الدفاعية واعتزامها لعب دور أمني إقليمي لردع الطموحات الصينية بدعم وتعاون مع أستراليا وأمريكا، في إطار استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي والتي أعلنتهارسميًا في 16 ديسمبر 2022.
وتكمن أهمية قياس هذا التحول، في ظل تغير العقيدة الدفاعية لليابان، خلافًا لما التزمت به عقب الحرب العالمية الثانية في دستور 1946 والذي نصت المادة التاسعة منه على نبذ استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، بعد تغييرات خجولة قادها رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي.
مؤشرات هامة:
بدا التحول حتميًا في سياسات اليابان الإقليمية والدولية باتجاه مزيد من الحزم وإكسابها دورًا في ميزان القوى العسكرية الإقليمية من خلال التحولات التالية:
(*) تغيير استراتيجية الأمن القومي: أعلنت اليابان استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي يوم الجمعة 16 ديسمبر 2022، بجانب وثيقة الخطوط العريضة لسياسة اليابان طويلة الأمد وتشمل امتلاك قدرات الهجوم المضاد وعدم الاكتفاء بالقدرات الاعتراضية، والحصول على صواريخ توماهوك الأمريكية بمدى 1600 كم لمواجهة "التحدي الاستراتيجي الأكبر" ممثلًا في الصين والتهديد الكوري الشمالي الخطير، بحسب وكالة "كيودو" اليابانية.
ويأتي ذلك في ظل خطط طوكيو لإنفاق قرابة 43 تريليون ين خلال الأعوام الخمس القادمة، بما يعادل 315 مليار دولار، وأشارت وكالة رويترز في 9 ديسمبر الجاري إلى خطة حكومية لزيادة الإنفاق العسكري في موازنة العام المالي الذي يبدأ في أبريل 2023 بنحو تريليون ين (7,34 مليار دولار) ليبلغ مستوى 6,5 تريليون ين. وتلتزم الحكومة اليابانية بالوصول إلى مستوى 2% من إنفاقها الدفاعي ليبلغ 8,9 تريليون ين بحلول العام المالي 2027-2028.
(*) الصناعات العسكرية الثقيلة: في بيان مشترك، أعلن رؤساء وزراء اليابان (فوميو كيشيدا) وإيطاليا (جورجيا ميلوني) والمملكة المتحدة (ريشي سوناك) 9 ديسمبر 2022عن برنامج مشترك لتصنيع مقاتلة من الجيل الجديد بحلول 2035، لدعم قدرات الدول الثلاث في مجال القتال الجوي إلى جوار حلفائهم في الناتو ومنطقة الإندوباسيفيك. وذكرت صحيفة فايننشال تايمز في 15 ديسمبر أن طوكيو تسعى لتطوير صواريخ كروز بعيدة المدى، بجانب طلبها صواريخ توماهوك الأمريكية، لمواجهة العدائيات الإقليمية.
(*) التحالفات الأمنية: وقعت اليابان وأستراليا في 22 أكتوبر 2022، اتفاق تعاون أمني وُصف بالتاريخي، لموازنة القوة العسكرية المتصاعدة للصين، في تجديد لاتفاق سابق بين الجانبين في مارس 2007، وأكد الإعلان المشترك على التزام البلدين بالحفاظ على انفتاح منطقة الإندوباسيفيك عبر ضمان النظام الدولي القائم على القواعد وحل الخلافات بالوسائل الدبلوماسية. وتضمن الاتفاق تعميق التعاون بين قوات الدفاع الذاتي اليابانية وقوات الدفاع الأسترالية عبر المناورات والتدريبات المشتركة بجوار الحلفاء، والاستخدام المتبادل للبنية التحتية العسكرية.
وتدعم واشنطن التحالف بين طوكيو وكانبيرا المشاورات الدورية بين قادة البلدين ووزراء الدفاع والخارجية، وهما عضوان رئيسيان في التحالف الأمني الرباعي "كواد" الذي أعادت إدراة الرئيس الأمريكي جو بايدن إحياءه في 2021.
تحولات كبرى:
بدأ التحول في سياسات اليابان بعهد رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي الذي وضع استراتيجية أمن قومي هي الأولى من نوعها منذ عقود في 17 ديسمبر 2013، وصياغة مصطلح "الإندو باسيفيك" لأول مرة ساعيًا لبناء هيكل أمني إقليمي يوجه طموح الصين وقوتها العسكرية المتنامية، لكن التحولات الجارية في المشهدين الإقليمي والدولي حفزا تسريع وتيرة هذا التحول للاقتراب من مستوى إنفاق دفاعي 2% من إجمالي الناتج المحلي لليابان، وعلى رأس تلك التحولات الحرب الروسية الأوكرانية وتشكل بيئة إقليمية عدائية، ويمكن رصد ذلك على النحو التالي:
(&) التوتر مع روسيا: تسبب انضمام اليابان لحزم عقوبات مجموعة السبع الصناعية على موسكو جراء الحرب الروسية الأوكرانية في اشتعال التوتر بين الجانبين، مما تسبب في إيقاف موسكو لمحادثات السلام وإشعال التوتر في جزر الكوريل المتنازع عليها بين روسيا واليابان، وارتفعت وتيرة تسليح الجزر من الجانب الروسي.
وبحسب المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية دشنت روسيا في الفترة من 2017 حتى العام الجاري ثكنات وقواعد عسكرية شملت نشر صواريخ باستيون للدفاع الساحلي على جزيرة إيتوروب (إيتوروفو بالتسمية اليابانية)، بما يمكنها من إغلاق معظم المجال البحري لجزيرة أوكيناوا.
(&) صواريخ بيونج يانج: تعززت مخاوف اليابان من خطورة الصواريخ الباليستية الكورية الشمالية مع سقوط بعض الصواريخ في المياه الإقليمية اليابانية، إلا أن التهديد الأخطر لطوكيو تمثل في 4 أكتوبر الماضي حينما حلق صاروخ باليستي لمسافة 4600 كم باتجاه المحيط الهادئ مخترقًا أجواء شمال اليابان.
(&) التوترات مع الصين: تتخوف اليابان وحلفاؤها من سيناريو سيطرة الصين على مضيق تايوان باعتباره تهديدًا محدقًا لمكانة اليابان الاقتصادية، فضلًا عن تهديد أرخبيل أوكيناوا شرقي الجزيرة حيث تدعي الصين ملكيتها جزر سينكاكو شرقي جزيرة تايوان (تطلق عليها الصين دياويو)، مما يجعل تايوان خط دفاع أمامي في الفكر الاستراتيجي الياباني.
حدود التغير:
عززت تلك التحولات مساعي امتلاك قوات الدفاع الذاتي قدرات هجومية قادرة على رد الهجمات والوصول إلى القواعد والمنشآت العسكرية لكوريا الشمالية والبر الرئيسي الصيني، وهو ما يعني امتلاك قدرات الهجوم المضاد، بعدما كانت تعتمد على القدرات الدفاعية المدعومة بالدعم العسكري الأمريكي.
ويدعم ذلك تحول اليابان، تدريجيًا، إلى فاعل أمني إقليمي بقدرات هجومية، وهو ما يؤشر عليه مساعي امتلاك مقالات الجيل الجديد، إلى جانب المقاتلات الأمريكية المتطورة التي تمتلكها اليابان ففي 6 ديسمبر الجاري حطت مقاتلتان يابانيتان من طراز إف 15 في قاعدة كلارك الجوية في الفلبين لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. وفي ذات اليوم، دعا وزراء دفاع وخارجية أستراليا والولايات المتحدة، اليابان لنشر قوات في أستراليا، في إطار التعاون العسكري الثلاثي لمواجهة التحدي العسكري الصيني.
التزمت توصيفات الاستراتيجية الجديدة الحذر تجاه الصين باعتبارها الشريك التجاري الأكبر لليابان والتحدي الاستراتيجي الأكبر، واعتبرت روسيا مصدر قلق أمني في إطار تعاونها الاستراتيجي مع الصين، فيما وضعت كوريا الشمالية على رأس القائمة كتهديد آنٍ ووشيك، لكنها ألمحت إلى احتمالات استخدام القوة ليس فقط في حالة الدفاع عن النفس، وإنما لصد هجوم على "دولة صديقة"، يهدد "بقاء اليابان"، في إشارة ربما لتدخل ياباني محتمل في أي صراع مصيري حول مستقبل تايوان.
إجمالًا؛ تؤشر الوثائق اليابانية الجديدة وتحالفات طوكيو وواشنطن الإقليمية إلى نهج أكثر صرامة في مواجهة طموحات الصين يعزز عسكرة السياسة الخارجية لليابان التي ستعتمد على توثيق التحالفات وتعزيز الصناعات الدفاعية ورفع القيود على تصدير الأسلحة، ضمن إسهامات الحزب الديمقراطي الليبرالي وائتلافه الحاكم للتعامل مع تحديات تلك البيئة الإقليمية منذ عهد رئيس الوزراء الراحل شينزو آبي وصولًا إلى خليفته فوميو كيشيدا، وعلى رأسها مخاوف الحليفين من سيطرة الصين على تايوان وتطوير التعاون العسكري بين الأخيرة وروسيا وكوريا الشمالية.