الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

انعكاسات إقبال الصين على شراء الذهب في الربع الأول لعام 2024

  • مشاركة :
post-title
سوق الذهب العالمي

القاهرة الإخبارية - رضوى محمد

خلال الأشهر الثلاث الأولى من عام 2024، ارتفعت مُشتريات الصين من الذهب بشكل كبير للغاية، إذ أعلن بنك الشعب الصيني عن مشتريات بقيمة 27 طنًا، بحسب تقرير مجلس الذهب العالمي، وبذلك تمتد المدة التي أقبلت فيها الصين على شراء الذهب إلى 18 شهرًا على التوالي، وهو ما جعل بنك الشعب الصيني من أكبر البنوك المركزية شراءً للذهب خلال هذه الفترة، مما استدعى البحث وراء هذا التصرف من قبل الدولة الصينية.

وتأسيسًا على ما سبق؛ يسعى هذا التحليل إلى الإجابة عن سؤالين أساسيين هما: لماذا تقبل الصين على شراء الذهب؟ وما انعكاسات الزخم الشرائي الصيني للذهب على الاقتصاد العالمي؟

ومن الجدير بالذكر هنا أن بنك الشعب الصيني أوقف سلسلة مُشتريات الذهب الشهرية، التي كانت تهدف إلى تعزيز الاحتياطي من الذهب في مايو 2024، إذ لم يقم البنك بأي عملية شراء خلال الشهر الماضي.

اتجاه تصاعدي

يُمكن الاستدلال على اتجاه الصين نحو زيادة مشترياتها من الذهب على النحو الآتي:

(*) ارتفاع الاحتياطي من الذهب: نتج عن سلسلة مشتريات الذهب التي نفذتها الصين، ارتفاع احتياطيها من الذهب بشكل ملحوظ خلال الربع الأول من عام 2024، إذ ارتفعت احتياطيات الصين بمقدار 5 أطنان في مارس 2024، ومن هنا أصبح الإجمالي كما يوضح شكل (1) 2.26 ألف طن، وهي زيادة ملحوظة عن السنوات السابقة، إذ بلغ حجم الاحتياطي 1.95 ألف طن في الربع الأول من عام 2022، واتخذ مسارًا تصاعديًا بعد الربع الثالث من نفس العام، حتى ارتفعت احتياطيات البلاد من الذهب بمقدار 314 طنًا منذ نوفمبر 2022، إذ بلغت نسبة المخزونات الرسمية من الذهب 44%.

شكل (1) يوضح احتياطي الصين من الذهب من الربع الأول 2022 إلى الربع الأول 2024

(*) ارتفاع واردات الذهب: يتضح الارتفاع الكبير في شراء الصين للذهب من ارتفاع حجم وارداتها من المعدن الأصفر، إذ كما يوضح شكل (2) أن صافي واردات الصين من الذهب عن طريق هونج كونج ارتفع إلى 55.836 طن متري في مارس 2024، وبشكل إجمالي استوردت الصين 160 طنًا من الذهب في يناير 2024 على أساس صافي، وفقًا لأحدث البيانات الصادرة عن الجمارك الصينية، وكان هذا الأمر مدفوعًا بالطلب الكبير على الذهب بالجملة داخل الصين في شهر يناير.

شكل (2) يوضح صافي واردات الصين من الذهب عبر هونج كونج في مارس 2024
أسباب مُتعددة

تقبل الصين على شراء احتياطي كبير من الذهب، نتيجة مجموعة من الأسباب المهمة التي يمكن توضيحها في ما يلي:

(-) انخفاض احتياطي الذهب: بمُقارنة احتياطي الصين من الذهب مع الدول المختلفة الأخرى، يتضح أنها في وضع أقل منها بكثير من حيث نسبة احتياطي الذهب من إجمالي الاحتياطي، فكما يوضح شكل (3) أن الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الرصيد الأكبر من احتياطي الذهب إلى إجمالي الاحتياطي الأجنبي، إذ تمتلك نحو 71.33%، وتليها ألمانيا بنسبة احتياطي ذهب 70.56%، ثم إيطاليا بنسبة 67.55%، وفرنسا بنسبة 68.61%، وروسيا الاتحادية بنسبة 28.14%، وتأتي في آخر هذه المجموعة الصين التي تمتلك 4.6% فقط احتياطي ذهب، وهو ما يدل على أن إدراك الصين لهذا الوضع جعلها تتجه إلى زيادة احتياطها من الذهب.

شكل (3) يوضح نسبة احتياطيات الذهب في الدول المختلفة - مجلس الذهب العالمي

وفي ضوء ذلك يتضح أن لتحقيق هدف الصين في نظام عالمي متوازن ومُتعدد الأقطاب، لابد أن تُنافس الدول الكبرى في نسبة الاحتياطي من الذهب، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تُهيمن على الاقتصاد العالمي وتتحكم في قرارته الاقتصادية.

(-) ارتفاع الطلب المحلي: تذهب النظرية الاقتصادية إلى أن الطلب على منتج معين يتأثر طرديًا مع أسعار المنتجات البديلة، ويُمكن تطبيق ذلك على سوق الذهب في الصين، فعدم ثقة المُستهلكين الصينيين في الاستثمارات التقليدية مثل العقارات والأسهم، هو ما جعلهم يقبلون بشكل كبير على شراء الذهب بالجملة، إذ قاموا بشراء السبائك والمجوهرات؛ بسبب انخفاض قيمة عملة اليوان وسوق الأوراق المالية في البلاد وقيمة استثماراتهم العقارية، فكما يوضح شكل (4) انخفضت الاستثمارات العقارية في الصين بنسبة 9.5% في مارس 2024، بالمُقارنة بانخفاض قدره 9% في فبراير 2024، ويُمكن القول إنه عندما ينخفض الاستثمار العقاري، يكون الاستثمار الذي يليه هو الاستثمار في المعدن الأصفر "الذهب".

شكل (4) يوضح نسب الانخفاض في الاستثمار العقاري في الصين

ومن هنا، أوضح جون ريد، كبير استراتيجي السوق في مجلس الذهب العالمي، أنه في بداية عام 2024، كان هناك عمليات شراء هائلة للبيع بالتجزئة في الصين، بالإضافة إلى كميات قياسية من الشراء في بورصة شنجهاي للذهب؛ نتيجة شراهة المُضاربين على المعدن الأصفر.

(-) التحوط من تضخم العملات: يتجه الفكر الاقتصادي إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على تضخيم قيمة عملتها؛ لمواجهة الحجم الكبير من الديون التي تمتلكها، فزيادة قيمة الدولار الأمريكي يُقلل من القيمة النقدية لهذه الديون التي بلغت 34.59 تريليون دولار في الربع الأول من عام 2024، بحسب وزارة الخزانة الأمريكية، وبالتالي سيصبح الاحتياطي الأجنبي للصين من العملات، خاصة الدولار الأمريكي، لا قيمة له، وهو الأمر الذي جعلها تحتفظ باحتياطي يُعد مخزنًا لقيمته مهما حدث، وبالتالي يُعد اتجاه الصين لزيادة احتياطيها من الذهب، وسيلة للتحوط ضد تضخم العملات الأجنبية.

(-) حسابات مُستقبلية: تمتلك الصين مجموعة من الحسابات المُستقبلية التي جعلتها تتجه لشراء الذهب بهذه الكميات الكبيرة، ومنها طموحاتها بأن يتغير ترتيب عملتها بين سلة عملات حقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي، إذ ظل اليوان في المرتبة الثالثة في مراجعة الصندوق عام 2022، وهو ما يجعل الصين تطمح أن يتغير ترتيبها في المراجعة القادمة في عام 2027، ومن ناحية أخرى تتحسب الصين لتخفيض متوقع لقيمة عملتها "اليوان"، حتى تُحقق مزايا تنافسية أكبر لتجارتها، بتوفير سلع رخيصة تُغرق الأسواق العالمية.

(-) توترات جيوسياسية: إن النزاعات المُنتشرة في معظم مناطق العالم، تجعل البنوك المركزية المختلفة تتجه إلى زيادة احتياطها من الذهب، وفي حالة الصين نجد أن النزاعات مع الولايات المتحدة الأمريكية في بحر الصين الجنوبي، والوضع في تايوان، يجعل الاتجاه العام للدولة الصينية هو زيادة درجة الأمان لديها باحتياطي من الذهب لا تتغير قيمته، حتى تُحافظ على وضعها الاقتصادي المُنافس للعديد من الدول الكبرى.

انعكاسات استراتيجية

ترتب وسيترتب على اتجاه الصين لزيادة مشترياتها من الذهب مجموعة من الانعكاسات، على النحو الآتي:

(&) ارتفاع السعر العالمي للذهب: شهد السوق العالمي للذهب ارتفاعًا كبيرًا في متوسط أسعاره خلال موجة الشراء الصينية، فكما يوضح شكل (5) ارتفع سعر أونصة الذهب من 1866.74$ في سبتمبر 2023 إلى 2359.89$ في مايو 2024، أي ارتفع سعر الذهب عالميًا بنسبة 26.42%، وهو الأمر الذي ينسبه خبراء سوق الذهب إلى المشتريات الكبيرة للصين، إذ إنها رفعت من شهية المُضاربة على الذهب كمخزن للقيمة، ويُمكن التأكد من هذا التحليل من خلال الشكل المُقابل، إذ يوضح أنه عندما توقفت الصين عن شراء الذهب في مايو 2024، انخفض سعر الأونصة عالميًا إلى 2306.97 دولار، أي انخفض سعر أونصة الذهب بنسبة 2.24%، وهو الأمر الذي يوضح التأثير الملحوظ لمُشتريات بنك الشعب الصيني من الذهب على سعره العالمي.

شكل (5) يوضح أسعار أونصة الذهب عالميًا خلال الفترة من 28 سبتمبر 2023 إلى 11 يونيو 2024

(&) زعزعة هيمنة الدولار: يحتل الدولار الهيمنة العالمية من كونه العملة الاحتياطية الدولية في العالم، التي تحاول معظم الدول زيادة الاحتياطي الأجنبي منها، ولكن عندما تقوم الدول المختلفة بزيادة شراء الذهب كاحتياطي لدى بنوكها المركزية، خاصة بنك الشعب الصيني، الذي يُعد في مقدمة هذه الدول، سيتأثر الدولار بشكل كبير في المُستقبل، إذ يكتسب الدولار قوته من طلب الدول المختلفة عليه؛ لتكوين احتياطيها من العملات الأجنبية، وفي حين أن النائبة الأولى للمدير العام لصندوق النقد الدولي جيتا جوبيناث، أوضحت أن بعض الدول تُعيد النظر في الاعتماد الكبير على الدولار الأمريكي في المعاملات والاحتياطيات الدولية، انخفضت حصة الدولار في المدفوعات المختلفة منذ بداية عام 2022، وهو الأمر الذي يدل على ضبابية مُستقبل الدولار كعملة أساسية في النظام الاقتصادي العالمي.

(&) التأثير على التجارة العالمية: إن ارتفاع الاحتياطي الصيني من الذهب يُحقق هدف بكين في زيادة تنافسية تجارتها في الأسواق العالمية، إذ يُمكنها من تخفيض قيمة عملتها "اليوان"، الأمر الذي سيؤثر على التجارة العالمية بشكل كبير، فسهولة تدفُق المُنتجات الصينية رخيصة الثمن إلى الدول المختلفة، سيستثير دافع الدول الأخرى لتنمية تجارتها، وهو ما ينعكس بالإيجاب أخيرًا على وضع التجارة العالمية في المُستقبل.

وعليه يُمكن القول إن مشتريات الصين من الذهب تأتي نتيجة العديد من العوامل، والتي يُعد أهمها التنافس الصيني الأمريكي، الذي يدفعها إلى تقليل الاعتماد على الدولار كاحتياطي أجنبي استراتيجي، ومن المُرجح أن الصين أوقفت شراء الذهب في مايو 2024 نتيجة موجة الارتفاع التي شهدها السوق العالمي الفترة الأخيرة، وأنها ستُعاود الشراء مرة أخرى بعد هبوط الأسعار العالمية لأونصة الذهب، وهو الأمر الذي سيؤثر على الاقتصاد العالمي في المُستقبل بشكل كبير.