تتجه أنظار الكثيرين يوميًا للبورصات العالمية للذهب، وترتبط أسعار الذهب ارتباطًا وثيقًا بمؤشر الدولار الأمريكي، إذ تسجل أسعار الذهب مكاسب عظيمة، حال تراجع الدولار، حيث تصبح السبائك أقل تكلفة لحائزي العملات الأخرى، وفي ظل غياب أي مؤشرات حقيقية لحلحلة الأزمة الأوكرانية، فقد ارتفعت أسعار الذهب، خلال الأيام الماضية، على الرغم من أن التوقعات تشير إلى أنها ستشهد تهاويًا كبيرًا خلال الفترة المقبل، لا سيما مع التوقع باستمرار ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، حتى 2023.
انطلاقًا من هذه الأهمية العظيمة للذهب، عالميًا ومحليًا، سيحاول هذا التحليل الإجابة عن تساؤل بشأن التداعيات المحتملة للأزمة الراهنة للذهب، متطرقًا في البداية لأهم الأبعاد المحيطة بتلك الأزمة.
أبعاد متعددة:
ترتبط الأزمة الراهنة للذهب عالميًا، بالعديد من الأبعاد، التي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:
(*) معدلات قياسية، حققت أسعار الذهب العالمية مكاسب كبيرة في الآونة الأخيرة، فقد ارتفعت أسعاره خلال المعاملات الفورية ليوم 6 ديسمبر 2022، بنسبة 0.19% أو ما يعادل 3.31 دولار ليسجل 70 دولارًا للأوقية، فيما ارتفعت أسعار العقود الآجلة له عالميًا، لأعلى مستوياتها منذ 5 أشهر ليسجل 1800 دولار للأوقية، وارتفعت العقود الآجلة تسليم شهر فبراير 2023، بنسبة 0.08% بما يعادل 1.45 دولار ليسجل 1782.8 دولار للأونصة.
(*) ارتفاع مشتريات البنوك المركزية، تتجه البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم لرفع حيازتها للذهب، فقد أعلن مجلس الذهب العالمي، في تقريره الشهري، الصادر في 4 ديسمبر 2022، أن البنوك المركزية العالمية أضافت 31 طنًا من الذهب إلى احتياطاتها الدولية في أكتوبر الماضي، لتسجل إجمالي نحو 36.782 ألف طن، وترتفع إلى أعلى مستوياتها منذ نوفمبر 1974، وفي الربع الثالث من عام 2022 وحده ارتفعت احتياطاتهم بنحو 400 طن، وأدى ذلك إلى أن الإجمالي خلال الفترة "يناير - سبتمبر 2022"، سجل 670 طنًا، وأرجعت صحيفة الإكونومست The Economist، هذا الارتفاع إلى أن الأسواق الصاعدة ترى في شراء سبائك الذهب حلًا للتخلي عن بعض الدولارات؛ التي يريدونها لسداد قيمة الواردات والالتزامات الخارجية المستحقة، فيما ترى البنوك المركزية الأصغر أن اقتناء الذهب حل لترويض التضخم، فضلًا عن أن الذهب يقدم حلًا للالتفاف على العقوبات الغربية على روسيا، التي تم تجميد الكثير من احتياطاتها منذ مارس 2022، وانفصلت بنوكها إلى حد كبير عن نظام المدفوعات الدولية القائم على الدولار، فبالنسبة للدول الحليفة لروسيا -مثل تركيا وتركمانستان- يوفر الذهب أسلوبًا آخر للتجارة مع موسكو.
(*) ارتفاع معدلات الطلب، ساعدت معدلات الطلب على الذهب خلال الربع الثالث 2022، مدفوعة بقوة شراء المستهلكين والبنوك المركزية، على تعافي اتجاهات الطلب خلال 2022 إلى مستويات ما قبل جائحة كوفيد-19، فقد ارتفع الطلب على الذهب في الربع الثالث بنسبة 28٪ على أساس سنوي ليسجل 1.181 طن، فيما ارتفع الطلب منذ بداية العام حتى 1 نوفمبر 2022 بنسبة 18٪ مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021، في الوقت ذاته، ارتفع إجمالي المعروض من الذهب بنسبة 1٪ على أساس سنوي لتسجل 1215 طنًا.
(*) تخفيف قيود كوفيد في الصين، ترتبط عائدات الذهب بتخفيف الصين لسياسات "صفر كوفيد"، فقد أرجعت وكالة بلومبرج، الارتفاع في أسعار الذهب، 5 ديسمبر 2022، إلى ارتفاع إعادة الاقتصاد الصيني وتخفيف قيود كوفيد، لا سيما وسط بدء الحكومة الصينية في تخفيف القيود المفروضة بالعديد من المدن، فقد رأى 9 من الاقتصاديين الـ16 الذين شملهم استطلاع "بلومبرج"، الأسبوع الماضي، أن الصين ستعيد فتح البلاد بشكل أسرع مما كان متوقعًا في السابق.
(*) ارتفاع التوظيف في الولايات المتحدة، تتزامن أزمة الذهب الراهنة، مع ارتفاع معدلات التوظيف في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أظهرت البيانات أن أرباب العمل في واشنطن قد وظفوا عاملين أكثر من المتوقع، في نوفمبر 2022، كما رفعوا الأجور على الرغم من المخاوف المتزايدة من الركود، والتي يرى ديفيد ميجر، مدير تداول المعادن في مؤسسة هاي ريدج فيوتشر، أنها ذات تأثير مباشر على أسعار الذهب، ففي أعقاب صدور البيانات الأمريكية بشأن التوظيف، صعد مؤشر الدولار بنسبة 0.6% مقابل العملات الرئيسة المنافسة؛ مما يجعل الذهب أكثر كلفة لحائزي العملات الأخرى.
تداعيات غاية في الخطورة:
تؤول مجريات الأحداث الاقتصادية حول العالم لتداعيات غاية في الخطورة، مع استمرار الأزمة العالمية للذهب، وتتمثل أبرز تلك التداعيات، فيما يلي:
(&) توقعات بالهبوط، يحيط بالذهب مستقبل غاية في الصعوبة، حسب ما وصفه البنك الدولي في توقعاته، مؤكدًا أن أسعار الذهب ستكون صعبة خلال العام المقبل، ويؤكد ذلك تحليلات معظم الخبراء الذين يرون أن مسار الذهب خلال 2023 سيكون هبوطيًا، فشركة الأبحاث البريطانية Metals Focus تتوقع انخفاض متوسط أسعار الذهب بنسبة 10% في 2023، لتصل في وقت ما خلال العام المقبل، نحو 1500 دولار للأوقية، أما الفئة الأكثر تشاؤمًا بين الخبراء فتذهب في توقعاتها بأن يشهد الذهب سقوطًا سريعًا خلال العام المقبل.
(&) استمراره ملاذ آمن، بالرغم من التوقعات التي تؤكد انخفاض الذهب خلال الفترة المقبلة وحتى العام المقبل، بيد أن ذلك لا يزال يمثل أمرًا طبيعيًا، ولا يعني أبدًا أنه لن يمثل ملاذًا آمنًا، فلطالما شهدت أسعار الذهب -في الأوضاع المشابهة وعلى مر التاريخ- برد فعل هبوطي، ثم لم تلبس أن تعود وتكمل مسارها التصاعدي، فخلال فرض عمليات الإغلاق بسبب جائحة كوفيد-19، في شهر مارس 2020، انخفض الذهب من 1700 دولار إلى 1453 دولارًا للأوقية خلال 3 أسابيع فقط، ثم عاد ليرتفع منذ بداية أبريل 2020، مسجلًا نحو 2075 دولارًا للأوقية في شهر أغسطس 2020.
(&) بوادر أزمة ركود عالمية، لطالما ارتفعت أسعار الذهب في أوقات الركود، فحال انخفاض قيمة الاستثمارات الأخرى يعتبر المستثمرون الذهب استثمارًا آمنًا، حيث يرتفع الطلب من قبل المستثمرين الحريصين على تنويع محافظهم وتوزيع مخاطرهم، لذلك فقد تشير أسعار الذهب المرتفعة الراهنة، لبوادر أزمة ركود عالمية، لا سيما مع ارتفاع معدلات التضخم العالمية، وارتفاع معدلات التوظيف وانخفاض البطالة.
(&) إضعاف مؤشر الدولار، في ضوء العلاقة العكسية بين أسعار الذهب وقوة الدولار الأمريكي، فقد يؤدي هبوط مؤشر الدولار؛ التي ستنجم عن عدم قدرة البنك الفدرالي الأمريكي عن رفع أسعار الفائدة عن مستوى 5.5%، في حال أن التضخم لم يصل المستوى المستهدف وهو 2%، الأمر الذي قد يتمخض عنه انتعاش غير مسبوق في أسواق الذهب، مما قد يؤدي لإضعاف مؤشر الدولار، بحسب بعض الخبراء، لا سيما وسط تعزيز الصين لمشترياتها من الذهب بنحو 100 طن منذ نشوب حربها التجارية مع الولايات المتحدة، وحتى مطلع العام الجاري، فيما عززت أيضًا البنوك المركزية الحليفة لروسيا احتياطاتها من الذهب أكثر من أي وقت مضى منذ اندلاع الحرب الأوكرانية.
في الختام، فإنه من المرجح أن تشهد أسعار الذهب عالميًا انخفاضًا خلال الفترة المقبلة، في أعقاب اجتماع الفيدرالي الأمريكي في منتصف ديسمبر 2022، الأمر الذي سيؤدي لارتفاع جاذبية الدولار وانخفاض الإقبال على الذهب عالميًا، لكن ذلك قد لا يستمر طويلًا، فهناك العديد من الأمور التاريخية التي قد تشير إلى تعافي سريع لأسواق الذهب واستعادة أسعارها المرتفعة، لذلك ينصح الكثير من الخبراء باتباع نهج حذر فيما يخص أسواق الذهب حتى عام 2023 مع ربط ذلك النهج -بصورة أعلى-بالمعادن الثمينة الأخرى وأسعار صرف العملات العالمية الرئيسة وعلى رأسهم الدولار الأمريكي.