الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

معضلة الهيمنة.. مرتكزات التنافس الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية

  • مشاركة :
post-title
التنافس الأمريكي الصيني

القاهرة الإخبارية - رضوى محمد

تشهد الفترة الراهنة تنافسًا اقتصاديًا ملحوظًا بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، إذ تسعى الأخيرة إلى فرض هيمنتها الاقتصادية على العالم، في ظل تمدد اقتصادي كبير لبكين خلال الفترة الحالية، ونظرًا لأن الاقتصاد الصيني ينمو بشكل كبير على جميع المستويات، خاصة في التأثير التكنولوجي والتجاري، حدث التصادم التنافسي بين الدولتين، إذ تُريد الولايات المتحدة الأمريكية إبطاء التطور التكنولوجي والاقتصادي للصين؛ حماية لمصالحها، الأمر الذي يُطلق عليه "حرب باردة جديدة".

وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى أبعاد التمدد الاقتصادي للصين، ومحاور التنافس الأمريكي الصيني، بالإضافة إلى توضيح انعكاسات ذلك على الاقتصاد العالمي والدول المختلفة.

أبعاد مهمة

إن الاقتصاد الصيني يتطور على مستوى العديد من الأبعاد، التي يمكن توضيحها فيما يلي:

(*) نمو اقتصادي كبير: بدأت الصين خطاها نحو النمو الاقتصادي الكبير منذ بداية الانفتاح والإصلاح الاقتصادي في عام 1978، فالسياسات الاقتصادية منذ ذلك الوقت كانت تعمل على تحفيز تحقيق معدلات مرتفعة من النمو الاقتصادي، إذ يوضح شكل (1) أن معدلات النمو في الصين بلغت 8.3% في الربع الثاني من 2021، على الرغم من تأثيرات فيروس كورونا، ويرجع التباطؤ الكبير في الربع الثاني من عام 2022 إلى القيود الصحية التي اتخذتها الصين وأزمة العقارات، لكن تعافى الاقتصاد بعد ذلك حتى حقق 5.3 % في الربع الأول من عام 2024، مُتجاوزًا توقعات السوق بنمو 5 %، بالمُقارنة بمعدل نمو 1.3% في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي يؤكد أن الصين بمعدلات نموها المرتفعة تُشكل خطرًا على الولايات المتحدة الأمريكية كقوة اقتصادية تفرض هيمنتها على النظام الاقتصاد العالمي.

شكل (1) يوضح معدل النمو الاقتصادي في الصين من الربع الثاني 2021 إلى الربع الأول 2024

(*) ارتفاع نصيب الصين من الناتج العالمي: نتج عن التطور الاقتصادي الكبير للصين خلال عام 2023، ارتفاع نصيبها من الناتج الإجمالي العالمي، إذ تفوقت على نصيب الولايات المتحدة الأمريكية كما يوضح شكل (2)، فقد سجلت 18.7 %، في حين سجلت الولايات المتحدة الأمريكية 15.4 %، ومن المتوقع أن يرتفع نصيب الصين من الناتج الإجمالي العالمي إلى 19.44% في عام 2028، في حين من المُحتمل أن تُسجل الولايات المتحدة الأمريكية 14.57%، بحسب توقعات "ستاتيستا"، وهو الأمر الذي يُشير إلى التمدد الصيني الكبير في نظام الاقتصاد العالمي، إذ أصبحت تنافس أكبر اقتصاد في العالم "الاقتصاد الأمريكي".

شكل (2) يوضح نصيب الصين والولايات المتحدة الأمريكية من الناتج الإجمالي العالمي من 2018 إلى 2028- ستاتيستا

(*) زيادة الاستثمار التكنولوجي: اتجهت الصين بشكل كبير إلى توطين التكنولوجيا في اقتصادها، إذ أصبحت تعتمد على ذاتها في إنتاج التكنولوجيا المتطورة بعد أن كانت مستوردة لها، خاصة صناعة الدوائر المُتكاملة، إذ يتسم سوق هذه الصناعة بالنمو الكبير في الصين، مدفوعًا بكون الصين مركز تصنيع رئيسي، في ظل تطور صناعة السيارات، خاصة قطاع مركبات الطاقة الجديدة، التي تُعتبر مُحركًا أساسيًا للطلب على الدوائر المُتكاملة، التي تدخل بشكل أساسي في مختلف الصناعات التكنولوجية، كما أن تقنية الـ5G التي أطلقتها الصين ستؤدي إلى زيادة هذا الطلب؛ لأنها تدعم رقمنة مختلف الصناعات، ولمواجهة هذا الطلب زودت الصين إنتاجها من هذه الدوائر كما يوضح شكل (3)، إذ ارتفعت من 101.55 مليار وحدة في عام 2014 إلى 351.44 مليار وحدة في عام 2023، أي بلغ معدل نمو إنتاج 2.46%، وهو الأمر الذي ينعكس بشكل كبير على نمو أكبر للاقتصاد الصيني.

شكل (3) يوضح إنتاج الصين من الدوائر المتكاملة من 2014 إلى 2023 (بالمليار وحدة)
محاور التنافس

يُمكن الاستدلال على أوجه التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على النحو التالي:

(&) التنافس التكنولوجي: يُعد التنافس على التفوق التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية محل نقاش كبير في الوقت الحالي، إذ يُدرك كلا الطرفين أن تحقيق التفوق في التقنيات المُتقدمة والإلكترونيات الدقيقة سيُحدد التفوق الاقتصادي في المُستقبل، ويظهر التنافس في هذا الصدد أن الولايات المتحدة الأمريكية فرضت قيودًا كبيرة على الجانب الصيني من الوصول إلى تقنيات التكنولوجيا المُتقدمة في مختلف المجالات، ففي الـ8 من أغسطس 2023، أمر الرئيس الأمريكي جو بايدن، بفحص جميع الاستثمارات الصادرة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الصين، خاصة التي تتضمن تقنيات حساسة تتعلق بـ"أشباه الموصلات والإلكترونيات الدقيقة، والذكاء الاصطناعي".

وعلى الجانب الآخر تسعى الصين إلى تحقيق الريادة العالمية في التكنولوجيات التي تعتمد على أشباه الموصلات، ووفقًا لجمعية صناعة أشباه الموصلات (SIA)، من المُقرر أن تنتج الصين 28% من الرقائق تحت مستوى 10 نانومتر، بالإضافة إلى إنتاج 2% من الرقائق الأكثر تقدمًا، وهو الأمر الذي ترتب عليه ارتفاع إجمالي الإنتاج من الرقائق في الربع الأول من عام 2024 بنسبة 40%، أي نحو 98.1 مليار وحدة، إذ أظهرت البيانات الصادرة عن مكتب الإحصاء الوطني في الصين أن إنتاج الرقائق ارتفع بنسبة 28.4%، مارس 2024، ليصل إلى مستوى قياسي يُقدر بـ36.2 مليار وحدة، بالإضافة إلى ذلك ارتفعت مبيعات الصين من أشباه الموصلات كما يوضح شكل (4)، إذ ارتفعت من 10.97 مليار دولار في فبراير 2023 إلى 14.76 مليار دولار في يناير 2024، أي سجلت معدل نمو يبلغ 35.13%، وهو الأمر الذي يُشكل مصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية، ويخدم هدف الصين الأكبر نحو تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب يتحقق فيه التوازن.

شكل (4) يوضح مبيعات الصين من أشباه الموصلات خلال عام 2023 ويناير 2024

(&) التنافس التجاري: بدأ التنافس التجاري الأمريكي الصيني في عام 2018، عندما فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، رسومًا جمركية وحواجز تجارية على العديد من السلع الصينية، فكما يوضح شكل (5) أن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة في هذا العام سجلت 479 مليار دولار، بينما بلغت صادرات الولايات المتحدة للصين 120 مليار دولار، إذ بلغ عجز الميزان التجاري 419.2 مليار دولار ، ويُشير الشكل إلى استمرار عجز الميزان التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، خلال السنوات التالية لعام 2018، ففي عام 2023 بلغت صادرات الصين للولايات المتحدة الأمريكية 501 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات الأمريكية للصين 148 مليار دولار.

شكل (5) يوضح صادرات الصين والولايات المتحدة الأمريكية من 2019 إلى 2023 - منظمة التجارة العالمية

كما استمر هذا العجز خلال الربع الأول من عام 2024 كما يوضح جدول (1)، إذ سجل إجمالي العجز في أول ثلاثة شهور من العام 60.77 مليار دولار، حيث بلغت الواردات الأمريكية من الصين 97.63 مليار دولار، بينما بلغت الصادرات إلى الصين 36,86 مليار دولار، وهو الأمر الذي يوضح القيود التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على العلاقات التجارية مع الصين، إذ تُخطط واشنطن لزيادة الرسوم الجمركية على الصادرات الصينية بـ18 مليار دولار، خاصة على السيارات الكهربائية المستوردة، ما يدل على أن الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية ستزداد خلال الفترات المقبلة؛ ويرجع السبب في ذلك إلى رغبة الولايات المتحدة الأمريكية في تحجيم نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى الصين.

جدول (1) يوضح تجارة الولايات المتحدة مع الصين (بالمليون دولار) - الموقع الرسمي لحكومة الولايات المتحدة
انعكاسات مُستقبلية

إن التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين يُحقق العديد من الانعكاسات على النظام العالمي، على النحو التالي:

(-) توازن النظام العالمي: شهد النظام العالمي خلال السنوات الماضية، هيمنة كبيرة للولايات المتحدة الأمريكية على العلاقات الدولية؛ نتيجة امتلاكها للقوة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، وهو الأمر الذي جعل القرارات الاقتصادية والمالية، التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية تؤثر على العالم أجمع، لكن مع التنامي الصيني في النظام العالمي بتحقيق نمو اقتصادي وتكنولوجي كبير سيحدث التوازن الكبير في النظام العالمي بأن يتجه إلى نظام مُتعدد الأقطاب.

(-) توافر الفرص استراتيجية: يعمل التنافس الكبير بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، على توفير العديد من الفرص الاستراتيجية للدول المختلفة، خاصة الدول النامية، التي تتضرر بشدة من النظام العالمي أحادي القطب، فالتواجد في الشرق الأوسط بالاستثمارات المباشرة المتعددة المجالات يُعتبر توجهًا كبيرًا للصين في الفترات المقبلة، وهو ما أكده الرئيس الصيني شي جين بينج، في الدورة العاشرة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون العربي الصيني في بكين، فالصين مع القيود التجارية التي تُفرض عليها من الولايات المتحدة الأمريكية ستعمل على فتح أسواق جديدة في الدول العربية، ما يعمل على توسيع الطاقة الإنتاجية لهذه الاقتصاديات.

(-) تعزيز تكتل البريكس: تُعتبر الصين من أهم الدول المؤسسة لتكتل البريكس، فمع تنامي اقتصادها سينمو هذا التكتل بشكل كبير، فهذا التكتل سيُحقق قلة ارتباط عملات الدول المُشتركة فيه بالدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي سيُحسن موازين مدفوعات هذه الدول، كما أن التطور الآسيوي الكبير سيزيد من رغبة الدول المختلفة للانضمام لهذا التكتل، إذ قدمت سبع دول بطلب الانضمام للمنظمة خلال عام 2025، وهو الأمر الذي سيزيد من قوة هذا التكتل وتأثيره على النظام العالمي.

وفي النهاية يمكن القول إن التنافس التجاري والتكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية سيرتفع بشكل أكبر في السنوات المقبلة، نتيجة تزايد التطور والنمو الصيني بشكل ملحوظ على مستوى كل المجالات، فالتقدم الصيني في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات، سيُحقق لها ميزة استراتيجية كبرى في النظام العالمي، وهو ما تُدركه الولايات المتحدة الأمريكية، ومن هنا يتضح أن التطور والسبق التكنولوجي هو الذي سيحكم شكل النظام العالمي في المستقبل، الذي من المتوقع أن يتجه بشكل كبير إلى النظام المتعدد الأقطاب.