بعد مرور 246 يومًا من الحرب بين الجيش السوداني، بقيادة الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، وبين ميليشيا "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، التي اندلعت في 15 أبريل الماضي؛ بسبب وجود خطة لدمج ميليشيا "الدعم" في الجيش السوداني بعد أربع سنوات من الإطاحة بعُمر البشير خلال الانتفاضة الشعبية في ديسمبر 2019، استمرت المواجهات بين الطرفين وبوتيرة أعلى مما كانت عليه، وهو الأمر الذي تسبب في خسائر اقتصادية كبيرة على الدولة، بالإضافة إلى الخسائر العسكرية التي يتحملها الجانبان.
جدير بالذكر أن الخبراء الاقتصاديين قدروا التكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة في الاقتصاد السوداني بأكثر من 100 مليار دولار، إذ توقف 70% من النشاط الاقتصادي في السودان.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتطرق هذا التحليل إلى التداعيات الاقتصادية للحرب في السودان، بالإضافة إلى توضيح الخسائر العسكرية للجانبين، مع إبراز انعكاسات هذا الوضع الراهن.
الوضع الاقتصادي
إن الحرب في السودان أحدثت ضعفًا في مستوى المؤشرات الاقتصادية للدولة، وهو ما يُمكن توضيحه على النحو التالي:
انخفاض حجم الناتج المحلي الإجمالي: يتضح من شكل (1) انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير في السودان خلال الفترة من 2017 إلى 2022، إذ انخفض من 129.72 مليار دولار إلى 51.66 مليار دولار، بمعدل انخفاض 151.1%، وهو ما يوضح التدهور الكبير الذي كان عليه الاقتصاد قبل اندلاع الحرب في السودان، الأمر الذي جعل التوقعات تتجه نحو انخفاض الناتج إلى 43.91 مليار دولار في 2023، إذ توقعت "فيتش سوليوشنز" أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 3.1 % في عام 2023، بعكس توقعاتها السابقة بحدوث نمو بنسبة 2.5% في السودان، حيث ذهبت فيتش إلى أن ارتفاع مستوى انعدام الأمن في المدن الرئيسية، سيؤدي إلى تعطيل النشاط الاستهلاكي، وإجبار الشركات على الإغلاق، ومن الناحية الأخرى توقع صندوق النقد الدولي حدوث انكماش في الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 18% في عام 2023. وهو ما يدعم حدوث الركود في السودان بنسبة كبيرة.
(*) انهيار سعر الصرف: نتج عن الحرب في السودان، خسارة الجنيه السوداني 50% من قيمته منذ أبريل الماضي، بالإضافة إلى تدهور قيمة الجنيه السوداني في السوق السوداء بشكل كبير، حيث يتم تداول الدولار بأكثر من 1000 جنيه سوداني بعد الحرب، بالمُقارنة بـ 600 جنيه قبل الحرب، كما ارتفع سعر الصرف الرسمي للدولار أمام الجنيه السوداني من 580 جنيها في منتصف أبريل الماضي إلى 900 جنيه في سبتمبر 2023.
(*) انخفاض الصادرات: شهدت الصادرات السودانية انخفاضًا كبيرًا في السنوات الأخيرة؛ بسبب التوترات المستمرة والتظاهرات التي أثرت على المنافذ التصديرية، إذ قامت الدولة بتصدير ما قيمته 43.5 مليون دولار في يناير 2023، بالمُقارنة بـ 293 مليون دولار في ديسمبر 2022، بحسب بيانات البنك المركزي السوداني، وهو الأمر الذي جعل مؤسسة "فيتش سوليوشنز" تتوقع انخفاضًا في الصادرات بنسبة 4.4% في عام 2023 وانخفاضًا في الواردات بنسبة 4.2%، كما يوضح الشكل رقم (2) الذي يُظهر انحدار منحنى الصادرات والواردات لأسفل في عام 2023، حيث يرجع انخفاض الصادرات إلى تعطُل الخدمات اللوجستية والبنية التحتية للمصدرين؛ لأن معظمها يقع في مناطق الصراع (الخرطوم والمناطق الغربية)، بالإضافة إلى اضطرابات سلاسل التوريد الناتجة عن الحرب، وفي الناحية الأخرى ستنخفض الواردات؛ بسبب انهيار العرض داخل السوق السوداني وتوقف الأعمال الجديدة.
ومن الجدير بالذكر أن المؤسسة توقعت أن تضيف الصادرات 0.3% إلى النمو الرئيسي في عام 2023، ويرجع السبب الرئيسي في هذا الانهيار، إلى توقف مطار الخرطوم عن العمل مع بداية الصراع، وهو ما أفقد السودان نسبة تُقدر بحوالي 5% من إجمالي صادراته.
(-) ارتفاع معدلات التضخم: يتضح من شكل (3) أن معدلات التضخم في السودان تتسم بالارتفاع الشديد، إذ إنها تخطت حاجز الثلاثمائة في عام 2021، حيث سجلت 359.09% ولكن بدأ المعدل في الانخفاض خلال عام 2022، إذ بلغ 138.81%، ومع اندلاع الحرب في السودان، ارتفع معدل التضخم مجددًا بحسب بيانات صندوق النقد الدولي إلى 256.17%، وهو ما يعني ارتفاعها بنسبة 117.4%، الأمر الذي يعني انخفاض القوة الشرائية للمواطنين داخل السوق السوداني بشكل كبير.
(*) ارتفاع معدل البطالة: إن الحرب الدائرة في السودان، أثرت بشكل كبير على معدلات التشغيل داخل الدولة، فكما يوضح شكل (4) ارتفع معدل البطالة في السودان من 32.14% في عام 2022 إلى 45.96 % في عام 2023، ويُشير أيضًا إلى أن تأثير هذه الحرب على معدل البطالة يفوق تأثير الأحداث السابقة في السنوات الماضية إذ ارتفعت بنسبة 14%، بينما ارتفع المعدل إلى 32.14 % فقط في عام 2022، من 28.33% في عام 2021، أي ارتفع بنسبة 4.2%، ويرجع هذا الأمر إلى الحالات المتعددة من إغلاق الشركات والمصانع؛ بسبب تعرضها للنهب والتدمير، والتي نتج عنها تسريح عدد كبير من العمالة.
أسباب دافعة
إن التدهور الذي لحق بالمؤشرات الاقتصادية المختلفة في السودان، يرجع إلى تدهور عدد من القطاعات الاقتصادية، والتي يُمكن توضيحها فيما يلي:
(&) تدهور القطاع الزراعي: يُعتبر القطاع الزراعي أهم القطاعات الاقتصادية في السودان، إذ يُمثل 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد نتج عن الحرب، تدهور القطاع الزراعي بشكل كبير، إذ إن المساحة المزروعة في البلاد انخفضت بنسبة 60% عن السنوات السابقة؛ بسبب عدم قدرة البنك الزراعي على تمويل المزارعين؛ بسبب أزمة عدم توافر السيولة الكافية التي تُعاني منها البنوك المختلفة، كما أن انخفاض اليوريا في البلاد عن الكمية التي يطلبها المزارعون، تسبب في ابتعاد المزارعين عن الزراعة، ومن هنا انخفض الإنتاج الزراعي بشكل كبير.
(&) تدهور البنية التحتية: تعرضت البنية التحتية في أنحاء السودان، خاصة في الخرطوم إلى تدمير واسع، طال أخيرًا جسر شمبات الرابط بين الخرطوم وأم درمان، بالإضافة إلى تدمير القصر الجمهوري، ومعظم أجزاء مطار الخرطوم الدولي، ومبنى القيادة العامة للجيش السوداني وسط المدينة، كما تدمرت 120 منشأة حيوية في الخرطوم منذ منتصف أبريل، بالإضافة إلى تعرض 20 مبنى تاريخيًا في الخرطوم للدمار، فضلًا عن تدمير العشرات من الأبراج الحديثة التي تُستخدم كفنادق ومقرات إدارية، خاصة برج شركة النيل الكبرى لتشغيل البترول المكون من 18 طابقًا، وكان آخر مظاهر الدمار، تدمير أكبر مصفاة للنفط في السودان التي تقع شمال مدينة الخرطوم بحري في ولاية الخرطوم.
وعلى مستوى البنية التحتية الصناعية في مدينة الخرطوم، فقد شهدت دمارًا كبيرًا، إذ تعرضت المناطق الصناعية للنهب، وتمت سرقة الماكينات والمواد الخام والمخزون الإنتاجي، فضلًا عن تعرض العديد من شبكات الكهرباء والمياه للتدمير، الأمر الذي جعل العاصمة الخرطوم تعيش في ظلام، ونقص في إمدادات المياه.
(&) انهيار القطاع المصرفي: ترتب على الحرب في السودان تعرُض 100 فرع من أفرع البنوك السودانية إلى النهب والسرقة والتدمير، ولم يسلم البنك المركزي السوداني من هذه العمليات التخريبية، وهو ما جعله يُعاني من نقص شديد في السيولة، فكثير من البنوك بدأت تُعاني من مشكلة إدارة ديونها، بعدما تعرضت الشركات الكبرى التي اقترضت منها مبالغ كبيرة للتدمير والنهب، وهو ما جعل البنوك السودانية تواجه مشكلة في تحصيل هذه الديون، الأمر الذي يتسبب في وقوف القطاع المصرفي السوداني على حافة الانهيار.
التكلفة العسكرية
استخدم خلال المناوشات بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، كمية كبيرة من الأسلحة، التي تسببت في خسائر عسكرية كبيرة على الطرفين، وهو ما يُمكن توضيحه على النحو التالي:
(#) خسائر الجيش السوداني: يستخدم الجيش السوداني الطائرات الحربية في معاركه الدائرة مع ميليشيا "الدعم السريع"، إذ يستخدم أنظمة (CH-3، CH-4)، وهي أنظمة لطائرات مسيرات حديثة، ظهرت بكثرة في هذه الحرب؛ لمراقبة التحركات والمتابعة الدقيقة، وتستطيع هذه الطائرات حمل صواريخ أرض جو موجهة بالليزر وصواريخAR-1 وقنابل TG100، بالإضافة إلى ذلك صواريخ مضادة للمدرعات والدبابات، كما يستخدم الجيش مسيرات من النوع الصيني أو الإيراني في الحرب الحالية.
وقد أعلنت ميليشيا "الدعم السريع" من جانبها، أنها ومنذ شهر أبريل الماضي، استولت على نحو 200 دبابة وأسقطت 3 طائرات مقاتلة، بالإضافة إلى الاستيلاء على برج وزارة الدفاع، وعلى عدة مقار للجيش السوداني، على حد زعمه.
(#) خسائر ميليشيا "الدعم السريع": أعلن الجيش السوداني أنه تم إسقاط عدد من المسيرات من نوع (VTOL) وهي مسيرة تجارية صناعية، عُدلت لتستخدم قذائف الهاون من عيار (120) ملم، وقد أوضح الجيش السوداني أن ما تبقى من تلك المسيرات قليل جدًا، وأشار الجيش في يونيو إلى تدمير العشرات من الآليات العسكرية لميليشيا "الدعم السريع"، كما تم الإعلان في أغسطس 2023، أن الجيش السوداني كبد الميليشيا خسائر كبيرة في منطقة الشجرة العسكرية، حيث تم تدمير 5 مدرعات ودبابةT55 وعدد كبير من العربات القتالية.
وتأسيسًا على سبق؛ قدرت تكلفة الحرب في السودان بحوالي 900 مليون دولار يوميًا، وهو ما يعني أن تكلفتها في الـ 246 يومًا تُقدر بحوالي 221.4 مليار دولار، ويرجع هذا التقدير الكبير في التكلفة إلى الخسائر العسكرية التي تكبدها السودان من أسلحة ومدرعات تُساوي مليارات الدولارات، بالإضافة إلى التكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة.
انعكاسات مهمة
يترتب على الوضع القائم في السودان، وما يُشهده من تدهور كبير على المستويات كافة، مجموعة من الانعكاسات التي تحققت وأخرى محتمل تحققها، كما سيتم التوضيح فيما يلي:
(-) خروج الاستثمارات من الدولة: إن عدم الاستقرار الأمني داخل الدول يعتبر من العوامل الطاردة للاستثمارات الأجنبية والمحلية فيها، إذ من المتوقع مع طول أمد الحرب في السودان، أن يترتب عليها هروب معظم الاستثمارات منها، بسبب ارتفاع المخاطر التشغيلية التي تُحيط بإقامة المشروعات المختلفة، وهو الأمر الذي يعمل على انخفاض الاحتياطيات الأجنبية بشكل كبير داخل السودان.
(-) ارتفاع عجز الموازنة: إن استمرار الحرب في السودان، يعمل على فقد الدولة جزءًا كبيرًا من موارد خزينتها؛ بسبب التـأثير السلبي الكبير على حصيلة الدولة من صادرات الذهب، في ظل توقف علاقتها التجارية بشكل نسبي، بالإضافة إلى تراجع إنتاج البلاد من الذهب، حيث وصل إلى 2 طن فقط في سبتمبر عام 2023 بالمُقارنة بـ 18 طنًا في 2022، ففي ظل أن صادرات الذهب تُمثل حوالي 50 % من إجمالي الصادرات، فمن المتوقع أن يرتفع عجز الموازنة في السودان بشكل كبير، بسبب انخفاض إيرادات الدولة.
(-) تدهور الوضع الإنساني: ترتب على ارتفاع أسعار الغذاء في السودان، من جراء الحرب الدائرة حاليًا، إلى إن 17.7 مليون شخص في السودان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، إذ يُعاني 4.9 مليون شخص من مستويات مرتفعة من الجوع، وذلك بحسب آخر تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" في 15 ديسمبر، وبالإضافة إلى ذلك يوجد ما يقرب من 25 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، وهو الأمر الذي يدل على انهيار الوضع الإنساني في السودان.
(-) زيادة النزوح الداخلي والخارجي: ارتفع عدد النازحين في السودان منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل، إذ بلغ عدد النازحين إلى الولايات الداخلية في السودان أكثر من 5.3 مليون شخص حتى ديسمبر 2023 بحسب أحدث تقرير لـ"أوتشا"، ونزح 1.3 مليون شخص إلى الدول المجاورة للهروب من ويلات الحرب الدائرة، وهو الأمر الذي جعل مدنًا كاملة في السودان تشبه الأشباح، مما يؤثر بدوره على معدلات الإنتاج داخل السودان بشكل كبير.
وعليه؛يُمكن القول إن استمرار الحرب في السودان، بدون وجود مؤشرات توحي بانتهائها قريبًا، يضع الدولة أمام سيناريوهين كلاهما سيئ، الأول: احتمالية دخولها في حرب أهلية طويلة الأمد في ظل فشل المفاوضات بين الجانبين، والثاني: احتمالية تقسيم السودان بين الطرفين، وفي الحالتين سيتأثر الاقتصاد السوداني بشكل سلبي، وتتراجع المؤشرات الاقتصادية بشكل أكثر سوءًا من الوضع الحالي، وهو الأمر الذي يجعل السودان من الدول الضعيفة اقتصاديًا، ويُحتم على كل الأطراف اتخاذ جميع السُبل لإنهاء هذه الحرب في أسرع وقت.