في قرية "ود النعيم" التي تبعد 20 كلم جنوب غرب مدينة "ود مدني" بولاية الجزيرة، ولد الموسيقار السوداني الكبير محمد الأمين عام 1940، حيث تعلق بالفن منذ نعومة أظافره لاسيما أنه ينتمي لعائلة فنية، حيث أجاد العزف على آلة المزمار ثم آلة العود التي تمكن منها وهو لم يتعد الاثنى عشر عامًا، مُتأثرًا بخاله "بله يوسف الأزيرق"، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فحسب، فحينما دخل المدرسة لمس مدرسوه تعلقه الكبير بالموسيقى فساعدوه على إتقان العزف على آلة العود، ولكن ظروفه الصحية ومعاناته مع ضعف حاسة البصر تسببت في عدم إكماله مسيرته حينها.
شعبية كبيرة
"الأمين" الذي رحل عن عالمنا اليوم بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية، عن عمر ناهز 80 عامًا، بعدما لزم المستشفى خلال الفترة الأخيرة لمعاناته من مضاعفات صحية متكررة، كان حريصًا خلال مشواره الفني أن يعبر بقوة عن وجدان المواطن السوداني، فحينما التحق عام 1960 بموسيقى شرطة النيل الأزرق، إذ ألتقى هناك بعدد من العازفين، وقرر الغناء بدلًا من العزف وبدأ في ترديد كلمات لـ عبدالكريم الكابلي ومحمد وردي، ومن هنا جاءت شعبيته الكبيرة في ود مدني، والتحق بالإذاعة السودانية وعبر لكثير من المستمعين.
السهل الممتنع
"السهل الممتنع" هكذا كان يصف كبار الملحنين والمغنين صوت "الأمين"، إذ كان قادرًا على إيصال فكرته بكل سلاسة باللحن والكلمات، لذا كان لا يقبل أن يلحن له أحد، ورغم تلك السهولة فإن جيل الشباب لم يستطع أن يقلد صوته، لأن بصمته لا تشبه أحدًا، كما تأثر بمدرسة الموسيقار المصري الكبير محمد عبدالوهاب، ويتغنى بكل ما يقدمه الأخير سواء مع السيدة أم كلثوم وغيرها، وكان "الأمين" حريصًا على تقديم كل ألوان الغناء الوطني والعاطفي والتراثي.
بصمة عاطفية
للراحل بصمة مهمة في الأغاني العاطفية السودانية ويضرب به المثل في الأغاني المليئة بالشجن، ومن أبرزها "قلنا ما ممكن تسافر" للشاعر فضل الله محمد، "أسمر يا ساحر المنظر" للشاعر الراحل خليفة الصادق، و"خمسة سنين" للشاعر عمر محمود خالد.
نقل الثقافة السودانية
كان الأمين حريصًا على نقل الثقافة السودانية خارج حدود البلاد، وأحيا العديد من الحفلات الغنائية في بلاد مختلفة، منها مهرجان الشباب العالمي بموسكو، المهرجان الفني الموسيقي بهولندا إلى جانب عدة مهرجانات بألمانيا، والمهرجان الثقافي الأول بالجزائر، كما قد حفلًا في الصين بمصاحبة عازفين صينيين سجلها التلفزيون الصيني.
وكان من اللافت للنظر أن الجمهور السوداني يرفض أن يلعب أحد من المطربين في أغانيهم التراثية، ماعدا الأمين، فالأمر كان مختلفًا معه، حيث قرر أن يعيد عددًا من الأغاني التراثية واستقبلها الجمهور بكل حب واستمتعوا بها وأشادوا بأدائه.
نعي مؤثر لنجوم السودان
حرص عدد من نجوم الفن السوداني على نعي الراحل من خلال موقع "القاهرة الإخبارية"، إذ قال الفنان محمود السراج: "فقدت الموسيقى السودانية اليوم أحد أكبر أهراماتها الفنية، وأحد أكبر مغامريها كذلك، فالموسيقار محمد الأمين كان واحدًا من المتمردين العظام، أو قد يكون أعظمهم، المتمردون على كلاسيكيات المقام الخماسي، إذ استطاع بتجريبه المستمر وبسبب موهبته وعبقريته تحرير المقام الخماسي أو ما يسمى بـ"السلم الخماسي" من عنصرية الأصوات الخمسة، التي لطالما أمسكت بخناقه.
وتابع: "كشف محمد الأمين عن الإمكانيات الضخمة التي يحتويها المقام الخماسي، إذ استطاع صياغة أعذب الألحان في مقامات خماسية يتجاوز عدد أصواتها في بعض الأحيان التسعة أصوات، فعل ذلك دون الإخلال بالأبعاد الموسيقية والسيكولوجية لبنيوية المقام الخماسي، فكان يتنقل كالفراشة، ويحلّق بحرية بين أصوات التخت الموسيقي، مضيفًا ألوانًا جديدة إلى اللوحة، ومذاقًا فريدًا إلى المقطوعة الموسيقية، ويعود كل مرة ليحط بسلام في المقام ذاته، وهذه أحد أهم إنجازات الموسيقار الراحل عوضًا عن أنه كان مغنيًا لا يشق له غبار امتاز بطبقة باريتون مميزة جدًا، كما كان ملحنًا من طراز الملائكة.
فيما أكد المخرج سليمان إبراهيم أن الراحل هو أحد القامات الفنية السودانية وأعمدة الغناء بالسودان، حيث قال: "أنا من مستمعيه وأحبه جدًا، وله جمهور ضخم واشتهر بأغنياته العاطفية والوطنية، وبرحيله تتوالى علينا الأحزان".
أما المخرج محمد كردفاني، فأكد أن فقدان الراحل محمد الأمين حدث جلل في السودان، لأنه قامة موسيقية وفنية كبيرة.