تصاعد ظاهرة تنحية الرؤساء التي شهدتها القارة الإفريقية خلال الأشهر القليلة الماضية، وتزايد الدعوات الرافضة للوجود الفرنسي داخل إفريقيا، بجانب تنامي النشاط الإرهابي في القارة السمراء؛ دفع كل من (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) للإعلان في 17 سبتمبر 2023، عن تدشين تحالف أمني ثلاثي يركز في المقام الأول على توفير الحماية اللازمة للدول الثلاث والتصدي لأية تهديدات خارجية لمؤسساتهم ومصالح شعوبهم، ما أثار تساؤلات جمة حول ماهية هذا التحالف ولماذا تم الإعلان عنه في هذا التوقيت، وهل يتم تفعيله بشكل ميداني أم سيكون عبارة عن "مناورة سياسية" كمحاولة لمواجهة أية تحركات فرنسا داخل القارة من ناحية، ومنح "الضوء الأخضر" لروسيا لتعزيز نفوذها داخل إفريقيا من ناحية أخرى.
ملامح رئيسية
في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن هناك عناصر رئيسية تحدد ملامح التحالف الثلاثي الجديد، يمكن إبرازها كما يلي:
(*) "ميثاق ليبتاكو - غورما ": جاء الإعلان عن هذا التحالف من خلال رئيس مالي الانتقالي "أسيمي غويتا" مشيرًا في تغريده على حسابه بموقع "إكس" في 17 سبتمبر، أنه وقع مع كل من رئيس المرحلة الانتقالية في بوركينا فاسو "إبراهيم تراوري" والرئيس الانتقالي بالنيجر "عبد الرحمن تشياني"، على ميثاق أطلق عليه اسم "ليبتاكو-غورما" الذي يقضي بتأسيس "تحالف دول الساحل" (AES) l’Alliance des États du Sahel، ويشير اسم هذا الميثاق المكون من (17 مادة) إلى منطقة التماس الحدودي بين الدول الثلاث Liptako-Gourma، ويشكل هذا المثلث الحدودي خطورة جمة بالنسبة للدول الثلاث نظرًا لاستغلاله من قبل بعض التنظيمات الإرهابية.
(*) هدف أمني واقتصادي: يهدف التحالف الثلاثي إلى إنشاء بنية دفاعية جماعية، وتبادل المساعدة بين الدول الثلاث لتوفير الحماية اللازمة لشعوبهم، ويعد بمثابة "اتفاقية للدفاع المشترك"، كما أن هذا التحالف وفقًا لوزير الدفاع المالي "عبد الله ديوب" "سيكون مزيجًا من الجهود العسكرية والاقتصادية بين الدول الثلاث"، ومع ذلك نلحظ أن بنود الميثاق لم توضح موعد انطلاق هذا التحالف الجديد على الأرض وعدد القوات التي يضمها، وهو ما يعني وجود "رغبة ملحة" لدى الدول الثلاث لإثبات وجودها على الأرض ولتثبيت قبضتهم على السلطة.
(*) سيطرة العسكريين على التحالف الثلاثي: تجدر الإشارة إن الدول الثلاث الموقعة على ميثاق لتدشين التحالف الأمني، يحكمها عسكريون بعد قيامهم بعمليات الإطاحة بالرؤساء في بلدانهم، وكانت البداية بمالي، حيث سيطر العقيد "أسيمي غويتا" على السلطة في بامكو بعد الإطاحة برئيسين في أقل من عام، كانت الأولى في أغسطس 2020، حينما أطاح بالرئيس "إبراهيم أبو بكر كيتا" جراء تردى الأوضاع الاقتصادية والأمنية بالبلاد، وبموجبها عين المجلس العسكري الجنرال المتقاعد "باه نداو ورتبوا" و"غويتا" نائب للرئيس وبعد حدوث اختلافات بينهم، أطاح به "غويتا" في مايو 2021، ونصب نفسه رئيسًا للبلاد ووعد بإجراء انتخابات في 2024.
أما بوركينا فاسو، فقد أطاح القائد العسكري "بول هنري دوميبا" بالرئيس "روك كابوري" في يناير 2022، وبعد تزايد الهجمات الإرهابية، أطاح "إبراهيم تراوري" في سبتمبر 2022 بـ"دوميبا" وسيطر على الحكم، وصولا إلى النيجر، حيث قام مجموعة من الحرس الرئاسي باحتجاز الرئيس "محمد بازوم" أواخر يوليو 2023، وسيطروا على السلطة وتم تنصيب قائد قوات الحرس الرئاسي اللواء "عبد الرحمن تشياني" رئيسًا جديدًا للبلاد.
ورغم أن عمليات الإطاحة بالرؤساء التي شهدتها الدول الثلاث، قد قوبلت بإدانات إفريقية وأوروبية وعربية، إلا أن القادة الثلاث ضربوا بهذه الإدانات عرض الحائط، واتجهوا لتعزيز تعاونهم المشترك بتدشين تحالف سيسهم في تغيير "موازين القوى" بمنطقة الساحل.
دوافع التشكيل
في ضوء الملامح سالفة الذكر، يمكن القول إن الإعلان عن تحالف يضم واجادوجو وبامكو ونيامي، يهدف إلى رغبة الدول الثلاث في تحقيق جملة من الأهداف، يمكن إبرازها على النحو التالي:
(&) مواجهة أعمال تمرد الجماعات الانفصالية في مالي: من أبرز الأسباب الرامية وراء تدشين هذا التحالف هو تزايد أعمال التمرد الجهادي من قبل الجماعات الانفصالية التي تهدد ولا تزال الدول الثلاث وبعد خروجها من النيجر وبوركينا فاسو اتجهت إلى مالي في 2015، وأعلن تحالف يضم جماعات مسلحة (يهيمن عليها قبليون من "الطوارق") أطلق على نفسه اسم "إطار العمل الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية" في 11 سبتمبر الجاري، العمل على مواجهة المجلس العسكري الحاكم في البلاد، لرؤيتهم أن هذا المجلس تسبب في إضعاف الاتفاق الذي وُقّع بين المتمردين والحكومة المالية عام 2015 وذلك بانتهاكه للالتزامات الأمنية الموقعة بين الطرفين، ولذلك فإن هذا التحالف يعد هاما بالنسبة لمالي أو بالأحرى للمجلس العسكري الحاكم بقيادة "غويتا"، ولذلك فإن نقطة "محاربة التمردات" كانت من أبرز بنود ميثاق التحالف الثلاث.
(&) التصدي للجماعات الإرهابية في دول وسط وغرب إفريقيا: إن اختيار دول التحالف الثلاث للمثلث الحدودي "يبتاكو-غورما" لإطلاقه على اسم وثيقة التحالف، يبعث برسالة إلى الجماعات الإرهابية مفاداها أن الفترة المقبلة ستشهد تحركات جديدة للقضاء على أنشطته بهذه المنطقة الحدودية التي تعرف منذ سنوات بكونها "بؤرة تمركز " لأنشطة هذه الجماعات، أبرزها، "تنظيم داعش في الصحراء الكبرى" وجماعات جهادية موالية لـ"تنظيم القاعدة"، ويرجع ذلك لكون " يبتاكو-غورما" منطقة وعرة لانتشار الغابات والأنهار بها مما يصعب على الجيوش النظامية اقتحامها، مما جعلها هدف للتنظيمات الإرهابية لاتخاذها موطئ قدم، وتجدر الإشارة أن نشاط الإرهابيين بهذه المنطقة الحدودية عاد بقوة على الوجهة بعد سيطرة المجلس العسكري على السلطة في النيجر أواخر يوليو الماضي، في محاولة منهم لإحداث حالة من الخلل الأمني بهذا البلد الغني بالثروات المعدنية.
(&) القضاء على الوجود الفرنسي في إفريقيا: تسعى دول التحالف الثلاثي لإيصال رسالة خاصة لفرنسا مفاداها أنهم جادين في القضاء على الوجود الفرنسي في بلدانهم، بل والخروج من أية تحالفات أبرمتها الدولة الأوروبية معهم تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، ولذلك جاء الإعلان عن التحالف الثلاثي بالتزامن مع احتجاز السفير الفرنسي بالنيجر، ورفض عارم داخل أراضي النيجر لوجود فرنسا التي لها 1500 جندي في النيجر، وفي ضوء ذلك، فإن هذا التحالف، تم تدشينه لإضعاف هيكل مجموعة دول الساحل الخمس "G5 Sahel" وكانت تضم (مالي، تشاد، موريتانيا، النيجر، بوركينا فاسو) وأسستها فرنسا في العاصمة نواكشوط عام 2014، بهدف مكافحة الإرهاب بمنطقة غرب إفريقيا، وكانت هذه المجموعة توصف بكونها من أدوات النفوذ الفرنسي بهذه المنطقة، ولكن توتر العلاقة بين دول غرب إفريقيا وفرنسا، دفع الأخيرة لسحب قواتها من بوركينا فاسو ومالي، كما انسحبت الأخيرة من G5 في مايو 2022، وهو ما أدى لضعف التنسيق بين الدول الخمس، وفي ضوء ذلك مع تزايد الرفض الفرنسي بالساحل، جاء التحالف الثلاثي كوسيلة لإعادة التنسيق العسكري بين دول الساحل، وهناك توقعات بأن يضم التحالف الجديد مزيد من الدول الإفريقية خلال الفترة المقبلة خاصة الساعية للقضاء على النفوذ الفرنسي في القارة السمراء.
(&) الرد على تهديدات "الإيكواس" بالتدخل العسكري في النيجر: جاء تحالف دول الساحل الثلاثي (AES) للرد على التهديدات التي أطلقتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "الإيكواس" بالتدخل العسكري في النيجر في حال لم يتم إعادة الرئيس "محمد بازوم" إلى السلطة، وهي التهديدات التي دعمتها فرنسا ورفضها المجلس العسكري الحاكم بالنيجر، إضافة إلى رئيسي مالي وبوركينا فاسو (العضوتان في الإيكواس)، اللذان حذرا في بيان مشترك من استخدام القوة بالنيجر، وقالا "أي تدخل عسكري في النيجر بمثابة "إعلان حرب" عليهما"، وعليه، فإن التحالف الجديد، يأتي استعدادًا للتصدي لأية تدخلات عسكرية ضد النيجر قد تشنها "الإيكواس" التي لا زالت تلوح بأن "الخيار العسكري" مطروحًا على الطاولة.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن إعلان كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عن تحالف دول الساحل" (AES)، هو محاولة من قبل هذا الدول لإثبات أنها ستمضي في مساعيها للقضاء على الحركات المتمردة والتنظيمات الإرهابية والتدخلات الخارجية خاصة الفرنسية بالقارة، وستعمل على تعزيز التعاون العسكري بين الدول الثلاث، وفي الوقت ذاته، فإن هذا التحالف يبعث برسالة لباقي دول القارة الإفريقية لدفعهم للانضمام إلى التحالف كوسيلة لإضعاف "الإيكواس" الذي فشلا حتى الآن في معالجة الأزمة في النيجر والجابون (التي تم الإطاحة برئيسها "علي بونجو" على يد مجموعة من العسكريين في 30 أغسطس الماضي).