نلحظ منذ مطلع العام 2023، تزايد في معدل العمليات والهجمات الإرهابية في بوركينا فاسو الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، وهو ما دفع الرئاسة البوركينية في أبريل 2023 إلى إصدار مرسوم يقضي بـ "إعلان التعبئة" من أجل مواجهة تلك الأعمال الإرهابية، وتكثيف العمليات الأمنية لاستعادة الأراضي الواقعة تحت سيطرة الجماعات الإرهابية وخاصة تنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين، إضافة لجماعة "نصرة الإسلام والمسلمين " الإرهابية في الدولة الإفريقية التي احتلت المركز الأول كأكثر بلد إفريقي متضرر ر من الإرهاب، طبقًا للإصدار الأخير من مؤشر الإرهاب العالمي 2023، الذي أعده معهد الاقتصاد والسلام ومقره مدينة سيدني الأسترالية.
وتجدر الإشارة إلى أن بوركينا فاسو قد احتلت المرتبة الثانية على الصعيد العالمي بعد أفغانستان في مؤشر الإرهاب العالمي للعام 2023، إذ سجلت 310 عمليات إرهابية نجم عنها مقتل 1135 شخصًا، وهو ما يعني زيادة 50% مقارنة بعام 2021، وإصابة 496 آخرين في العام 2022، وتسببت هجمات جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" (الموالية لتنظيم "القاعدة" الإرهابي) في 48% من إجمالي عدد القتلى في بوركينا فاسو عام 2022، وشكلت الوفيات الناجمة عن الإرهاب في بوركينا فاسو 17% من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب على مستوى العالم.
هجمات متصاعدة
ومن أبرز الهجمات الإرهابية التي استهدفت الدولة الواقعة في غرب إفريقيا خلال العام 2023، ما يلي:
(*) هجومان منفصلان في يناير 2023: كانت البداية في 29 يناير الماضي، وذلك بإعلان هيئة الأركان في بيان عن تعرض عناصر من الجيش، خاصة المتمركزين في منطقة "فالانجوتو" قرب الحدود مع النيجر شمال البلاد، لهجوم إرهابي، ما نجم عنه مقتل 12 عسكريًا ومدني واحد، ثم وقع هجوم آخر في 30 يناير الماضي، ونجم عنه مقتل عشرة من عناصر الشرطة العسكرية وعنصران من قوة رديفة تدعم الجيش بالقرب من قرية لينجيكورو شمال البلاد، وأفادت مصادر مطلعة أن موالين لتنظيمي "القاعدة " و"داعش" وراء هذه الهجمات، وبشكل خاص جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم القاعدة، التي تستغل هذه المناطق الحدودية لتنفيذ أعمالها الإرهابية.
(*) هجوم فبراير 2023 الأكثر فتكًا: في 20 فبراير الماضي، نصب إرهابيون كمين مسلح في ولاية أودالان شمال بوركينا فاسو، ونجم عنه قتل ما لا يقل عن 51 جنديًا، ووصف هذا الهجوم بـ "الأكثر فتكًا" منذ وصول الرئيس "إبراهيم تراوري" إلى السلطة نهاية سبتمبر الماضي، وفي الوقت ذاته، هاجم مسلحون، القوات المسلحة في بلدة "تين-أكوف" شمال بوركينا فاسو قرب الحدود مع مالي، ونجم عنه مقتل 15 جنديًا من القوات البوركينية، وكشفت بعض المصادر أن العدد أكبر من المعلن وأنه تم مقتل 19 عسكريًا إضافة لعشرات المفقودين، كما كشف الجيش في بيان أنه رد على هذا الهجوم وقتل عشرات الإرهابيين.
(*) هجوم مارس 2023: هاجم مجموعة من الإرهابيين في 2 مارس الماضي، قرية "أوريما" التابعة لـ"واهيجويا"، عاصمة المنطقة الشمالية شمال بوركينا فاسو، ونجم عنه مقتل ما بين 12 و14 شخصًا من المدنيين وإصابة آخرين، وفقًا لما أعلنته مصادر أمنية، وهو ما دفع السلطات البوركينية لفرض حظر تجول غداة الهجوم، في جميع أنحاء المنطقة الشمالية من بوركينا فاسو، في فترة ما بين شهر و3 أشهر.
(*) هجمات أبريل 2023 الأكثر دموية: شهد أبريل الماضي عدد هائل من الهجمات الإرهابية التي شنها عناصر تابعة لتنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين في بوركينا فاسو وتحديدًا في الشمال حيث تنشط تلك العناصر، إذ شن مجموعة من المتشددين هجومًا على الوحدة العسكرية في أوجارو بالمنطقة الشرقية في البلاد، في 28 أبريل الماضي، نجم عنه مقتل 33 جنديًا وإصابة 12 آخرين، ولكن قوات الجيش نجحت في الرد على هذا الهجوم وقتلت ما لا يقل عن 40 إرهابيًا، ووقع هجوم آخر في 24 أبريل الماضي، وذلك باستهداف إرهابيين مرتبطين بتنظيم "القاعدة" الإرهابي كانوا يرتدون زي القوات المسلحة البوركينية، لقرية الكرمة في إقليم "ياتنجا" بالمناطق الحدودية، شمال البلاد، وهو ما نجم عنه مقتل 60 مدنيًا، أما في 16 أبريل الماضي، فقد هاجم مسلحين نقطة "كونجوسي" العسكرية شمال البلاد، ونجم عنه مقتل جنديين، ورد الجيش على هذا الهجوم وقتل 20 إرهابيًا، وأخيرًا، فقد هاجم مجهولون في 15 أبريل الماضي، قوات بالجيش وقوات دفاعية متطوعة في بلدة "أوهيجويا" شمال البلاد، ونجم عنه مقتل 40 شخصًا وإصابة 33 آخرين.
محفزات هيكلية
يطرح ما تقدم، تساؤلًا حول الأسباب الكامنة وراء تزايد الهجمات الإرهابية التي يشنها عناصر إرهابية تابعة لـ"جماعة أنصار الإسلام"، أو جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين"، أو تنظيم "داعش" في الصحراء الكبرى ببوركينا فاسو منذ 2015 وحتى الآن، وهو ما يمكن إبرازه على النحو التالي:
(&) ضعف القدرات الأمنية للجيش البوركينابي: إن تنامي الهجمات الإرهابية بشكل مستمر يكشف معاناة الأجهزة العسكرية في الدولة الواقعة غرب إفريقيا من "هشاشة أمنية" للدولة الواقعة غرب إفريقيا، وهذا الضعف الأمني تستغله الجماعات الإرهابية للانتشار في المناطق الحدودية تحديدًا التي تخلو من وجود مكثف لعناصر القوات المسلحة، إذ يأتي جيش بوركينا فاسو في مرتبة متأخرة نسبيًا بترتيب الجيوش، فهو يحتل المرتبة 129 من بين أقوى 140 جيش في العالم، كما تبلغ ميزانية الدفاع 434 مليونًا و250 ألف دولار، وفقًا لموقع "جلوبال فاير بور" الأمريكي لعام 2022. وإضافة لذلك، فقد ضعفت القدرات الأمنية لجيش بوركينا فاسو بشكل كبير بعد إقالة الرئيس السابق "روش مارك كابوري" (بانقلاب عسكري في 24 يناير 2022) في نوفمبر 2021، لقائد الجيش وعدد من كبار القادة العسكريين، وهو ما أدى إلى تمرد بين صفوف الجيش، وهو ما انعكس بشكل سلبي على أداء القوات المسلحة بشكل استغلته التنظيمات الإرهابية وشنت المزيد من هجماتها المسلحة مركزة بشكل خاص على استهداف الجنود والضباط، وأي مدني يقدم الدعم للجيش.
(&) تفاقم المشكلات الاجتماعية في بوركينا فاسو: إن نقص الخدمات الضرورية للمواطنين في بوركينا فاسو، خاصة من المياه، والغذاء، والوظائف، بجانب ضعف البنية الأساسية لعدد من البلديات الواقعة بالمناطق الشمالية، خلق مساحة للتنظيمات الإرهابية للتغلغل والانتشار بهذه المناطق، مستغلة احتياجات المواطنين الإنسانية، لإجبارهم على الانضمام إليها تحت مزاعم توفير هذه الاحتياجات، وبجانب ذلك، فقد استغل الإرهابيون حالة "التشرذم الإثني" الذي تشهده الدولة الواقعة في غرب إفريقيا، وتضم 26 مجموعة عرقية، خاصة بالمناطق الشمالية، لإثارة التوترات العرقية والدينية وتحديدًا بين المجتمعات المسلمة والمسيحية هناك، وهو ما ساهم في تزايد الإرهاب بشمال البلاد.
(&) سيطرة الجماعات الإرهابية على معظم الأقاليم الداخلية: إن تزايد الهجمات الإرهابية يرجع إلى سيطرة الإرهابيين على ما يقرب من 40% من أراضي بوركينا فاسو غالبيتها في شمال البلاد بالقرب من الحدود مع دول الجوار وتحديدًا مالي، وهو ما يعطي تلك التنظيمات الفرصة للتغلغل والانتشار والتحرك في مساحة أوسع وسرعة التخفي، ومن ثم شن هجمات إرهابية على القوات البوركينابية، والسبب في تمكن تلك الجماعات من السيطرة على مساحة واسعة، هو "الطبيعة الجيوسياسية" لبوركينا فاسو التي تقع بين إقليمي الساحل وغرب إفريقيا، كما تجمعها حدود مشتركة مع دولة مالي والنيجر، سهلت من اختراق تلك التنظيمات لأراضيها، ولذلك أعلنت الحكومة الانتقالية في بوركينا فاسو مطلع فبراير الماضي، خطة مكونة من 4 مراحل، تهدف في المقام الأول إلى محاربة الإرهاب، وذلك بالتركيز على تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات الإرهابية.
(&) الاستيلاء على الثروات الاقتصادية: إن من ضمن المحفزات وراء تفاقم الأعمال الإرهابية، هو رغبة تلك التنظيمات في نهب الثروات والموارد الطبيعة والمعدنية التي تتمتع بها واجادوجو، مثل الذهب والنحاس والحديد والرخام وغيرها، هذا بجانب امتلاكها لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية وعدد من المحاصيل كالقطن والذرة، وهو ما يجعلها "بيئة خصبة" لتزايد أطماع تلك التنظيمات، للاستفادة منها بأقصى قدر ممكن، إذ يعد "المال" الدافع الرئيسي لاستمرار جرائمها وتفاقم أنشطتها الإرهابية من جهة، والحفاظ على وجودها من جهة أخرى.
(&) ضعف المؤسسات الديمقراطية: إن ضعف المؤسسة الحاكمة وعدم وجود ديمقراطية، فضلًا عن الفجوة بين الحاكم والمحكوم، وعدم ثقة النظام الحاكم في بعض مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، هو الأمر الذي ينجم عنه حالة من الاضطرابات، تسهم في وقوع انقلابات عسكرية بشكل مستمر، ففي خلال العام 2022، وقع انقلابان عسكريان، الأول في 24 يناير 2022 بقيادة "بول هنري داميبا" وأطاح بحكومة "روش كابوري"، والانقلاب الثاني في 30 سبتمبر 2022، بقيادة "إبراهيم تراوري" وأطاح بحكومة "هنري داميبا"، هذا بجانب احتجاجات المواطنين بشكل مستمر أحيانًا أخرى، ولذلك فإن هذه البيئة السياسية الهشة تصبح ملاذًا لتغلغل الإرهاب خاصة في المناطق الأكثر تهميشًا سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا من جانب الحكومة.
(&) أزمة التغير المناخي: إن هذه الأزمة استغلتها عدة تنظيمات إرهابية للتغلغل ليس فقط في بوركينا فاسو ولكن في غالبية الدول الواقعة بمنطقة الساحل والصحراء، إذ إن أزمات الفيضانات، والجفاف، والاحتباس الحراري، والتصحر وغيرها، تنعكس سلبا على الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية أيضًا بهذا البلد، إذ تؤدى بدورها بانخفاض معدلات الأمن الغذائي والمائي أيضًا، الأمر الذي ينجم عنه ارتفاع حدة الصراعات خاصة بين الجماعات العرقية بالمناطق التي تعاني بشكل كبير من هذه الأزمات، ولعل "المناطق الشمالية" في بوركينا فاسو ، هي الأكثر عرضة لهذه الأزمات، وهو ما تستغله الجماعات الإرهابية للتمدد والهيمنة في هذه البيئة القاتمة.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول، إن الهجمات الإرهابية لن تتوقف في بوركينا فاسو ما لم يضع النظام الحاكم، حدًا لتلك الجماعات التي يتزايد نشاطها عامًا بعد عام، وعليه، يقع على الدولة الإفريقية عبء إعادة هيكلة جميع قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية وإمدادها بوسائل الدعم اللازمة كي تتمكن من صد الفيروس الإرهابي المستشري في جسد جميع بلدان الساحل والصحراء، وأن تعزز علاقاتها مع مختلف البلدان المجاورة لها، كي تتمكن من وقف هذه الأعمال المتطرفة.