شهدت القارة الإفريقية منذ عام 2020 العديد من الأزمات التي أدت إلى الإطاحة بثمانية حكام في ست دول هي: مالي (2020،2021)، تشاد (2021)، غينيا (2021)، بوركينافاسو (يناير 2022، سبتمبر 2022)، والنيجر (2023)، والجابون (2023). وقد كان القاسم المشترك في تلك الأزمات وما أعقبها من إزاحة للحكام بأن دولها تنتمي إلى منطقة غرب ووسط إفريقيا، كما أن توجهات القادة الجدد لهذه الدول أضحت ذات ميول معادية لفرنسا التى ظلت علاقاتها بمستعمراتها السابقة فى إفريقيا قائمة على ركائز من الروابط الاقتصادية العميقة، والتغلغل الثقافي في إطار الفرانكفونية. وهو الأمر الذي أدى إلى إثارة التساؤل المحوري حول أسباب تراجع النفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية، على وجه العموم، وفي منطقة الغرب الإفريقي تحديدًا.
عوامل متعددة
هناك العديد من العوامل التى أسهمت فى تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا لعل أبرزها يتمثل فى التالي:
(*) الاستغلال الاقتصادي: تقوم علاقة فرنسا بمستعمراتها السابقة على الاستغلال الاقتصادي لموارد تلك الدول. وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح فى سياسة فرنسا إزاء النيجر حيث تستورد فرنسا من النيجر 35 % من الاحتياجات الفرنسية من اليورانيوم، الذي يستخدم فى تشغيل محطات الطاقة النووية لتوليد 70% من الكهرباء. وللمفارقة فإن النيجر تحصل على ما يقرب من 70% من احتياجات الكهرباء من جارتها نيجيريا. وفى الجابون التى تعد ثامن أكبر منتج للنفط فى إفريقيا جنوب الصحراء، وهي عضو في منظمة أوبك إلا أنها تعاني من الفقر والبطالة، حيث يعاني 40% من الشباب من البطالة وفقًا لإحصاءات البنك الدولي لعام 2020.
(*) الإخفاق فى مواجهة التنظيمات الارهابية: مثل خروج القوات الفرنسية من مالي عام 2021 ذروة الأفول الفرنسي من القارة الإفريقية ومن غربها تحديدًا، لاسيما وأن فرنسا كانت تعتبر تواجد قواتها في مالي بمثابة رأس الحربة في مواجهة التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في غرب إفريقيا. وقد قامت الاستراتيجية الفرنسية لمواجهة تلك التنظيمات على المواجهات الأمنية والعسكرية بعد أن تزايدت أنشطتها وتحول الكثير من أفرع تلك التنظيمات إلى إفريقيا بعد أن اعتبرتها الملاذ البديل بعد هزيمتها فى معاقلها التقليدية، غير أن الاستراتيجية الفرنسية ثبت إخفاقها وعدم قدرتها على القضاء على تغلغل تلك التنظيمات وتهديدها للمصالح الفرنسية ولمصالح الدول الإفريقية. لذلك فإن ثمة اتجاه إفريقى يرى ضرورة أن تكون مواجهة تلك التنظيمات عن طريق تنمية المناطق المرشحة لأن تكون بيئات حاضنة لتلك التنظيمات. وهو الأمر الذي لم تتبناه فرنسا فمواجهة التهديدات الإرهابية بالتنمية يحول دون انخراط أبناء تلك المناطق كمقاتلين للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة.
(*) الركود الاقتصادي: ثمة اتجاه إفريقي يرى أن الركود الاقتصادي الذي يواجه الدول الإفريقية ومنها دول الغرب يعود فى جانب منه إلى الارتباط الاقتصادي بفرنسا، والذي يتجلى في وجود منطقة الفرنك الإفريقي، حيث أجبرت فرنسا عددًا من الدول الإفريقية التي نالت استقلالها على استخدامه كعملة موحدة. وينقسم الفرنك الفرنسي إلى مجموعتين مختلفتين جغرافيًا: الفرنك الوسط إفريقي ويستخدم فى دول الكاميرون والكونغو وغينيا الاستوائية والجابون وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد. والفرنك الغرب إفريقي ويستخدم في بنين وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتودو. ويؤدى ربط العملة الاستعمارية المتمثلة فى الفرنك الإفريقي بالفرنك الفرنسي إلى استغلال فرنسا للفوائض المالية من معاملاتها التجارية مع تلك الدول، وهو ما يحرمها من التنمية الشاملة، ويؤدى إلى نوع من الركود الاقتصادي، حيث أعطت تلك الوضعية مزايا تفضيلية للشركات الفرنسية العاملة فى الدول الإفريقية.
(*) توجهات الأجيال الجديدة: ارتبطت توجهات الأجيال الجديدة من الشباب الإفريقي بالرغبة فى بناء مجتمعاتهم على أسس من التقدم والحداثة، لا سيما وأن القارة الإفريقية تعد قارة شابة يمثل الشباب ما يقرب من 60% من حجم سكانها، وفى محاولة لاستيعاب المشاعر المتنامية للكراهية بين الشباب الإفريقي والذى استخدم وسائل التواصل الاجتماعي للحشد وتنظيم المظاهرات الرافضة للهيمنة الفرنسية، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون لحوار مع الشباب والمجتمع المدني الإفريقي خلال قمة عقدت لهذا الغرض فى مدينة مونبيليه الفرنسية أكتوبر 2021، حيث تمت دعوة 3000 شاب إفريقي لهذا الحدث، وطالب الشباب الإفريقي باعتذار فرنسا عن الحقبة الاستعمارية لها في القارة الإفريقية، إلا أن ماكرون لم يفعل وشدد خلال كلمته أمام الشباب على "أنه لا يمكن لفرنسا أن تبني روايتها الخاصة إذا لم تأخذ دورها في إفريقيا، وإذا لم تنظر في هذه الصفحات المظلمة أو السعيدة".
(*) نمط الوصاية الفرنسية: تتسم علاقات فرنسا بالدول الإفريقية بأنها قائمة على نمط الوصاية الأبوية، وقد كان لذلك النمط من العلاقة سببًا في تزايد الكراهية لفرنسا سواء على مستوى النخب السياسية أو شعوب القارة بشكل عام، التي يرى معظمها أن ذلك يمثل استهانة بأبناء القارة. وهو الأمر الذى يتجلى في كتابات العديد من المثقفين والصحفيين الفرنسيين وفي مقارباتهم للأزمات التي شهدتها الدول الإفريقية عقب الإطاحة بعدد من الحكام، ومحاولة الفكاك من الهيمنة الفرنسية، حيث يرى اتجاه من هؤلاء المثقفين أن الدور الحضاري لفرنسا هو السبب الرئيسي في علاقاتها بإفريقيا، وهي نظرية تقوم على فكرة الرجل الأبيض ودوره التاريخي في النهوض بالمجتمعات المتخلفة. هذه النظرة الاستعلائية القائمة على الوصاية مثلت لدى قطاع من المثقفين الأفارقة رفضًا لهذه العلاقة التي يجب أن تقوم قائمة على الندية، لا سيما وأن الحضارة الغربية ما كانت لتقوم لولا مساهمات موارد تلك الدول التى توصف بالمتخلفة.
(*) تنامى النفوذين الروسي والصيني: يشكل تنامى النفوذ الصيني والفرنسي فى القارة الإفريقية خصمًا من الوجود الفرنسي لا سيما وأن النفوذ الفرنسي قام على استغلال المجتمعات الإفريقية لصالح المصالح الفرنسية والغربية بالأساس، فى حين تسعى الصين إلى إقامة علاقات مع الدول الإفريقية، من خلال دعم جهود التنمية داخلها، وذلك من خلال المساعدة فى تشييد البنية التحتية ومد الطرق وإنشاء الكباري، والمسهمة فى بناء المستشفيات، وصولًا لتوسيع استثمارات الشركات الصينية في إفريقيا فى مختلف المجالات، الأمر الذى دفع بالتعاون الصيني الإفريقي إلى آفاق واعدة، فوفقًا لإحصائيات عام 2021، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإفريقيا نحو 282 مليار دولار، لتحتل المرتبة الأولى كأكبر شريك تجاري مع إفريقيا. كما تزايد النفوذ الفرنسي فى القارة الإفريقية سواء من خلال أنشطة مجموعة فاجنر أو من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي عقب الأزمة الروسية الأوكرانية لاسيما، وأن روسيا تسعى إلى تعزيز وجودها في إفريقيا لتخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من الدول الغربية، وقد وصل حجم التبادل التجاري الروسي مع إفريقيا ما يقرب من 18 مليار دولار عام 2022، وبرغم انخفاضه مقارنة بالتبادل التجارى مع القوى الكبرى الأخرى إلا أن موسكو ليس لديها إرث استعماري فى إفريقيا، بما يجعل منها شريكًا استراتيجيًا وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع دول القارة.
مساران محتملان
فى إطار الحقائق السابقة فإن تراجع النفوذ الفرنسي سيتزايد خلال الفترة القادمة داخل القارة الإفريقية وربما سيعطى ذلك التراجع فرصة لمسارين متوازيين: الأول مسار محتمل في أن تنجح الدول التى قامت بالإطاحة بحكامها فى أن تؤسس لمسار انتخابي يأتى بقادة جدد لديهم القدرة على فك الارتباط بالنفوذ الخارجي، وفى مقدمتهم النفوذ الفرنسي، وعدم استبدال نفوذ بآخر. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال نجاح هؤلاء القادة فى بناء الدولة على أسس من الهوية والانتماء للوطن، وبعيدًا عن تجاذبات الخارج. أما المسار الثاني وهو الأكثر احتمالاً، فإنه سيرتبط بتوجه رئيسي يقوم على أن تراجع النفوذ الفرنسي فى القارة الإفريقية سيكون لصالح نفوذ محتمل للقوى الكبرى، وفى مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وهي القوى التي كان لها مواقف ربما محايدة من الناحية الواقعية إزاء أزمتى النيجر والجابون. فالموقف الأمريكي غالبًا يبدأ بإدانة ما يحدث ثم سرعان ما يتحول للتعامل مع سياسة الأمر الواقع. وهو ماتجلى فى الموقف من أزمة النيجر، والدعوة إلى إيجاد حل سلمي، ووصول السفيرة الأمريكية الجديدة كاثلين فينزجيبونس إلى نيامي عاصمة النيجر لمباشرة مهامها، كما دعت الصين إلى ضرورة إيجاد حل سياسي للوضع الراهن فى النيجر.
مجمل القول إن تراجع النفوذ الفرنسي فى القارة الإفريقية بعد الإطاحة بعدد من الحكام فى الدول التى تمتعت فيها بنفوذ لعقود ممتدة يعكس معضلة الماكرونية التي سعت، لاستعادة المكانة الفرنسية على المستويين الدولي والإفريقي، وربما تعطى تلك الأزمات وتعاقبها مؤشرًا لكيفية أن تكون شراكة القوى الكبرى مع دول القارة الإفريقية، التى يجب أن تكون قائمة على الشراكة المتبادلة ورعاية المصالح والمنافع المتبادلة بدلًا من توظيف آليات الهيمنة والنفوذ الخارجي الذى يضر بمصالح الشعوب ونهضتها.