أعلن مجلس الأمن الدولي مساء 30 يونيو 2023، إنهاء مهمة بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جمهورية مالي "مينوسما" MINUSMA، على أن تبدأ البعثة سحب قواتها ووقف أنشطتها بشكل منظم وآمن في 1 يوليو الجاري حتى 31 ديسمبر المقبل، وجاء القرار رقم 2690 الصادر بإجماع أعضاء المجلس استجابة لطلب الحكومة الانتقالية في مالي، بعدما وصف وزير الخارجية المالي "عبد الله ديوب" خلال جلسة لمجلس الأمن منتصف يونيو الماضي، البعثة بأنها "فاشلة" وطالبها بالانسحاب بشكل عاجل بعد نحو 10 سنوات من بدء مهامها في الدولة الواقعة غرب إفريقيا.
ووفقًا للقانون الدولي، فإن البعثة كي تواصل مهامها فهي بحاجة لموافقة الدولة المضيفة، وعليه، فإن الموافقة الأممية على سحب بعثة "مينوسما" في هذا التوقيت الذي تشهد فيه منطقة الساحل الإفريقي تصاعدًا لأعمال الإرهاب من قِبل جماعات موالية لتنظيمي "القاعدة" و"داعش" الإرهابيين في الصحراء الكبرى؛ يثير جملة من التساؤلات، منها، ما أسباب سحب البعثة لقواتها؟.. وما أبرز الهجمات الإرهابية التي تعرضت لها البعثة على مدار السنوات الماضية؟.. وهل يؤثر خروج البعثة الأممية على مستوى التهديد الإرهابي في مالي خاصة ؟.. وهل تحل "فاجنر" الروسية مكان "مينوسما"؟.. تساؤلات يجيب عنها هذا التحليل، كما يلي:
دوافع الانسحاب
إن موافقة مجلس الأمن الدولي على سحب البعثة الأممية "مينوسما" من أراضي جمهورية مالي ورفض الحكومة المالية التجديد لها، يحمل جملة من الأسباب بناءً على وجهة نظر الطرفين الأممي والمالي، يمكن إبرازها على النحو التالي:
(*) الفشل في إعادة بناء قطاع الأمن بمالي: إن إصدار القرار الأممي (رقم 2100) الذي قضى بتشكيل "مينوسما" بالعاصمة باماكو، في 25 أبريل 2013، كان بهدف رئيسي دعم الاستقرار والعمليات السياسية والمساهمة في حفظ الأمن والاستقرار في البلد الواقع غرب إفريقيا، وذلك من خلال قوة وصل قوامها وفقًا للإحصائيات الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة ما يزيد على 15 ألفًا ما بين عناصر عسكرية وشرطية ومدنية، فضلًا عن متطوعين وموظفين محليين وآخرين من الأمم المتحدة، ورغم ذلك، لم تنجح تلك البعثة في المهمة الموكلة إليها خاصة المتعلقة بإعادة بناء قطاع الأمن الذي يشهد تدهورًا جراء تفشي الإرهاب وانتشار حركات مسلحة ومتمردة في مالي والدول الإفريقية المجاورة لها، وهو السبب ذاته الذي عرقل قيام قوات البعثة بالمهام الأمنية المطلوبة منها، وهذا كان من ضمن الدوافع الرئيسية التي دفعت وزير خارجية مالي "ديوب" لمطالبة البعثة بالانسحاب، معللًا السبب بفشل البعثة في إعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد بل واتهامها بتأجيج "التوترات الطائفية"، على حد قوله.
(*) تراجع دعم القوات الأجنبية للبعثة الأممية: تجدر الإشارة إلى أن 41 دولة من مختلف أنحاء العالم تشارك بقوات عسكرية وعناصر شرطية للبعثة الأممية منذ تدشينها، وأبرز عشر دول مساهمة بقوات عسكرية على الترتيب هي "تشاد، وبنجلاديش، ومصر، والسنغال، والنيجر، وكوت ديفوار، وتوجو، وغينيا، وبوركينا فاسو، وألمانيا"، أما أبرز عشر دولة مساهمة بقوات شرطية في هذه البعثة الأممية فهي "السنغال، وتوجو، وبنجلاديش، وبوركينا فاسو، ومصر، ونيجيريا، وبنين، وتونس، والأردن، وكوت ديفوار".
وكشفت بعض التقارير الغربية في الفترة الأخيرة تراجع دعم بعض الدول خاصة الأوروبية لـ"مينوسما"، وبالتحديد فرنسا التي سحبت قواتها من مالي في أغسطس 2022، كما أنهت بريطانيا وألمانيا منتصف العام الماضي لعمليات التدريب الأمني بمالي، ما أثر سلبًا على وضع البعثة الأممية وعلى قيامها بالمهام الأمنية بالبلد الإفريقي، وفق ما أكد الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش" في يناير الماضي، قائلًا إن "البعثة التي باتت محرومة من دعم عمليات أطراف دولية خصوصًا بعد انسحاب القوات الفرنسية؛ قامت بما في وسعها القيام به؛ لكنها بلغت حدود قدراتها".
(*) استهداف الجماعات الإرهابية لـعناصر "مينوسما": لطالما كانت البعثة الأممية منذ تدشينها محل استهداف من قِبل الجماعات الإرهابية المنتشرة في مالي، وخاصة "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" (الموالية لتنظيم القاعدة الإرهابي) لدرجة أنها صُنّفت من أكثر البعثات الأممية التي تتعرض لهجمات إرهابية نجم عنها مقتل نحو 303 من جنودها ومسؤوليها (وفقًا للمنظمة الأممية) ومن أبرز تلك الهجمات التي أودت بحياة مسؤول في مينوسما، انفجار لغم بمدينة كيدال شمالي مالي أواخر ديسمبر الماضي، وقد وجهت البعثة في بيان على حسابها الرسمي بموقع "تويتر" الاتهام وقتها إلى جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" الإرهابية، قائلة إن المسؤول قُتل جراء عبوة ناسفة صدمت دراجته النارية.
(*) تصاعد التوتر بين السلطات المالية والبعثة الأممية بسبب "فاجنر": ومن أبرز الأسباب وراء مطالبة السلطات الانتقالية في مالي بخروج البعثة الأممية من البلاد، كان اتهامًا لطالما وجهته الأمم المتحدة في تقاريرها الأممية للسلطات في مالي بالتعاون مع مجموعة "فاجنر" الروسية الخاصة.
ولعل التقرير الأممي الذي أصدره مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 12 مايو الماضي، كان بمثابة "الضربة القاصمة" التي دفعت السلطة الحاكمة في باماكو لمطالبة البعثة الأممية بسحب قواتها، لأنه هذا التقرير وجه اتهامًا للجيش المالي بالتعاون مع "فاجنر" في إعدام ما لا يقل عن 500 شخص مدني من خلال عملية استمرت خمسة أيام (27- 31 مارس 2022)، وقال الجيش المالي إنها ضد المتشددين في منطقة مورا وسط البلاد، إلا أن المنظمة الأممية وصفتها بـ"مذبحة مورا"، بعد حصولها على معلومات من خلال صور للأقمار الصناعية ومقابلات مع بعض المصابين وبعض الشهود على الواقعة تكشف تعاون جنود ماليين مع "مرتزقة روس" في استهداف المدنيين وسط مالي، وهو ما أغضب السلطات الانتقالية، التي وصفت هذا التقرير بـ"المتحيز " المستند على "رواية وهمية" ومخالف للمعايير الدولية، وفقًا لبيان المتحدث باسم الحكومة المالية "عبد الله مايجا" الذي أضاف قائلًا، إن "القتلى كانوا مسلحين من الجماعات الإرهابية، لا من المدنيين".
(*) الضغط على واشنطن للخروج من الساحل الإفريقي: هناك رؤية أخرى مفاداها أن إصرار السلطة الانتقالية في مالي التي وصلت إلى حكم البلاد إثر انقلابين عسكريين في 2020، و2021، تسعى لتوطيد التعاون مع روسيا، وخاصة مجموعة "فاجنر"، ومن ثم تريد الضغط على واشنطن لسحب أي قوات لها، ليس بمالي فقط بل من منطقة الساحل الإفريقي، خاصة أن أمريكا هي الأخرى قد سبق واتهمت القوات العسكرية بمالي بالتعاون مع "فاجنر".
وأكد المتحدث باسم الأمن القومي بالبيت الأبيض "جون كيربي" في تصريحات صحفية له مساء 30 يونيو الماضي، أن "فاجنر" وزعيمها "يفجيني بريجوجين" هي السبب الرئيسي في رحيل "مينوسما" وإبلاغ الأمم المتحدة برفض الدولة الإفريقية لاستمرار البعثة الأممية، وأن واشنطن لديها معلومات عن دفع الحكومة بمالي لمبلغ يقدر بأكثر من 200 مليون دولار للمجموعة شبه العسكرية الروسية أواخر العام 2021، للتعاون معها.
وأواخر أكتوبر الماضي، قيّمت نائبة وزير الخارجية الأمريكي "فيكتوريا نولاند" في مؤتمر عبر الفيديو، بعد اختتام جولة إفريقية لها بمنطقة الساحل شملت (مالي، بوركينا فاسو، وموريتانيا) أن المجلس العسكري الحاكم في مالي استقدم عناصر من "فاجنر" للحد من نشاط أمريكا في مكافحة الإرهابيين بالساحل، مشيرة إلى أن المجموعة الروسية ضغطت على سلطة مالي للحد من عمليات بعثة "مينوسما".
انعكاسات محتملة:
وفي ضوء الدوافع سالفة الذكر، يمكن القول إن هناك جملة من الانعكاسات المحتملة التي يمكن أن تتمخض عن سحب الأمم المتحدة للبعثة الأممية "مينوسما" من جمهورية مالي، التي يمكن عرضها على النحو التالي:
(&) زيادة انتشار عناصر "فاجنر" في مالي: على الرغم من نفي السلطات في مالي تعاونها مع عناصر من "فاجنر العسكرية الروسية " إلا أنه من المتوقع أن تعمل الأخيرة على استغلال انسحاب البعثة الأممية من البلد الإفريقي، وستعمل على إعادة نشر قواتها لملء فراغ القوات الأممية، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" في تصريحات إعلامية في 26 يونيو الماضي أي قبل أربعة أيام من إعلان الأمم المتحدة بدء سحب عناصر "مينوسما"، وبعد ساعات قليلة أيضًا من تمرد قائد فاجنر على قيادة الجيش الروسي، إذ قال "لافروف"، إن "عناصر فاجنر يعملون بمالي وجمهورية إفريقيا الوسطي بصفة مدربين، بالطبع سيتواصل هذا العمل"، ومؤكدًا أن التمرد "لن يؤثر على علاقات روسيا مع شركائها وأصدقائها"، وفي ضوء ذلك، فقد كشف بعض المراقبين أن "فاجنر" قد تستعين بأفراد من جنسيات مختلفة، مستغلة أوضاع بلادهم المأزومة على الصعد الاقتصادية والمعيشية والأمنية، للقتال في مالي.
(&) تصاعد محتمل للعمليات الإرهابية في إفريقيا: إن خروج البعثة الأممية من مالي، هو ما تريده الجماعات الموالية لتنظيمي "القاعدة و"داعش" الإرهابيين والمنتشرة خاصة بوسط مالي، كي تستطيع زيادة نفوذها وانتشارها بهذا البلد الغني بالثروات النفطية والمعدنية الهائلة، وعليه، فمن المتوقع أن يتصاعد نشاط تلك الجماعات خلال الفترة المقبلة ليس فقط بمالي ولكن بمختلف دول الساحل الإفريقي، وهو ما قد ينجم عنه انفلات الوضع الأمني في مالي بل وتحولها إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية، وتصاعد أعمال العنف بشكل كبير بالدولة الواقعة غرب إفريقيا.
(&) زيادة أعداد النازحين من أراضي مالي: إن تزايد الإرهاب سيؤدي بدوره إلى هشاشة أمنية ومن ثم استهداف المدنيين ومنازلهم، الأمر الذي سيؤدي إلى تصاعد موجة النزوح من هذا البلد، التي تفاقمت بالفعل خلال السنوات الماضية حتى بلغت أكثر من 442 ألف نازح فضلًا عن إغلاق نحو 1950 مدرسة بوسط وشمال مالي، وفقًا لما أعلنه الأمين العام للأمم المتحدة "جوتيريش" مطلع يناير الماضي، وفي ضوء ذلك، فإن خروج "مينوسما" من مالي، سينعكس سلبًا على المواطنين وهو ما قد يؤدي لنزوحهم للدول الإفريقية المجاورة وبالتالي التأثير سلبًا على البلدان التي يعاني غالبيتها من تدهور للأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن أعضاء مجلس الأمن الدولي بعد تأكيدهم استحالة استمرار بعثة "مينوسما" في مالي، فقد اقترح الأمين العام للأمم المتحدة "جوتيريش" خيار تحويل عمل البعثة كي يكون "سياسيًا وليس عسكريًا"، وهو ما رفضه وزير الخارجية المالي "عبدالله ديوب" بشدة، مشيرًا إلى أن البعثة الأممية لا تأخذ في اعتبارها تطلعات الشعب المالي في تقرير مصيره، وفي ضوء ذلك، تجدر الإشارة إلى أن أية قوات إقليمية أو دولية بحاجة إلى وضع رؤية واستراتيجية فعالة كي تستطيع الصمود وتحقيق أهداف السلام والاستقرار بمناطق النزاعات المسلحة.