الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تهديد جيوسياسي: انعكاسات انضمام فنلندا للناتو على النفوذ الروسي في بحر البلطيق

  • مشاركة :
post-title
رئيس فنلندا، ساولي نينيستو، خلال توقيعه أوراق انضمام بلاده لحلف الناتو

القاهرة الإخبارية - محمود جمال

أدى رفع العلم الفنلندي في ساحة حلف الناتو ببروكسل في 4 أبريل 2023، وتوقيع الرئيس الفنلندي، ساولي نينيستو، لانضمام بلاده إلى حلف الناتو في 23 مارس 2023، إلى تحدٍ جديد لروسيا، لا سيَّما أن انضمام "هلسنكي" للحلف يعني تحول بحر البلطيق، باعتباره نفوذًا سابقًا لروسيا، إلى ما يُشبه بحيرة للناتو. وبهذا الانضمام، امتدت حدود الاتحاد الروسي مع الدول الأعضاء في الحلف إلى أكثر من 1340 كيلو مترًا. وباتت فنلندا العضو رقم (31) في حلف الناتو، وفق ما أعلن عنه الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرج.

تأسيسًا على ما سبق، يحاول هذا التحليل الإجابة عن تساؤل متعلق بانعكاسات انضمام فنلندا إلى الناتو، على النفوذ الدولي في بحر البلطيق، وما يعنيه هذا بالنسبة لروسيا، وعواقبه المُحتملة.

مؤشرات كاشفة:

أعقبت العملية العسكرية التي بدأتها موسكو في أوكرانيا في 24 فبراير 2022 حالة من الفزع لدى بعض الدول الأوروبية، وفي مقدمتها فنلندا والسويد، وقد عملت هذه الدول من حينها على البحث عن مظلات حماية أمنية؛ خوفًا من السيناريو الأوكراني، وذلك على النحو التالي:

(*) توافق فنلندي مع تركيا والمجر: رفضت تركيا والمجر انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو بشكلٍ قاطع، في بدايات تقديم البلدين طلبات رسمية للحلف للانضمام، وذلك بالمخالفة لحالة الإجماع الغربي التي ترغب في محاصرة روسيا. وعزت التحليلات الموقف التركي المبدئي من انضمام البلدين؛ لرغبة أنقرة في ممارسة ضغوطات على الغرب لتحقيق مكاسب سياسية، خاصة فيما يتعلق بملف حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية. أما المجر، فتعتبر أن السويد، وفنلندا بدرجةٍ أقل لا تحترمان ديمقراطيتها وقوانينها الداخلية. وعليه يمكن القول إن التوافق بين فنلندا وأنقرة وبودابست، أدى في الأخير بتركيا والمجر إلى الموافقة على انضمام "هلسنكي" وتعليق ملف انضمام السويد، لحين تصفية الخلافات فيما بينها. وقد زار الرئيس الفنلندي أنقرة أواخر مارس 2023 لإزالة اعتراضات الجانب التركي، ممثلة في اعتراف "هلسنكي" بالمنظمات الكردية كمنظمات غير شرعية، وفقًا لإعلان قمة الناتو في مدريد التي عقدت في يوليو 2022.

ما هو حلف شمال الأطلسي؟

(*)أهمية انضمام فنلندا للحلف: يُمثل انضمام فنلندا لحلف شمال الأطلسي، إضافة للقوات العسكرية للحلف، ومكسبًا جيوسياسيًا كبيرًا؛ إذ استفادت "هلسنكي" من الحرب الباردة في تعظيم قوتها العسكرية، وخصصت ما يقرب من 4% من ناتجها المحلي الإجمالي لتعزيز نفوذ قواتها العسكرية، وتمتلك فنلندا جيشًا يقترب قوامه من 280 ألف جندي مدرب على آخر الأسلحة، وعلى استعداد لخوض الحرب في وقتٍ قياسي إضافة إلى 600 ألف جندي في الاحتياط، وهو الأمر الذي يُشكل استثناء في القارة الأوروبية، لا سيَّما عند النظر إلى عدد سكان الدولة البالغ 5.601 مليون نسمة وفق موقع جلوبال فاير 2023. ويُمثل انضمام فنلندا الرسمي للحلف تفعيل سياسة الدفاع الجماعي الذي تقره الفقرة الخامسة في معاهدة الحلف، وهو ما يعني أن الاعتداء على أحد أعضاء الحلف، يُمثل اعتداءً على الجميع، الأمر الذي سيمنح فنلندا حصانة من أي اعتداء خارجي.

(*) ردود الفعل الروسية: ألكسندر جروشكو، أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، أن موسكو ستتخذ مجموعة من التدابير لوقف التهديدات المحتملة على الأمن القومي الروسي، بعد انضمام فنلندا إلى حلف الناتو. وتختلف التفسيرات حول ردود الفعل الروسية على طلب السويد، وانضمام فنلندا بشكلٍ نهائي لحلف شمال الأطلسي؛ فهناك تفسيرات تُهون من الخطوة باعتبار أنها تُمثل أضرارًا جانبية؛ إذ تمتلك السويد ضمانات أمنية غير رسمية من الولايات المتحدة، وتتعاون فنلندا مع حلف الناتو لفترات طويلة، والقوات المسلحة لكلٍ من السويد وفنلندا تلتزم بمعايير الناتو في إطار برنامج الشراكة من أجل السلام منذ عام 1994.

(*) تغير في استراتيجية الأمن القومي الفنلندي: كان يعتقد الفنلنديون أن انضمامهم إلى الاتحاد الأوروبي كفيل بضمان أمنهم، ولكنهم في الوقت نفسه لم يغفلوا ما أطلقوا عليه "خيار الناتو"، الذي أُضيف إلى عقيدة الأمن القومي الفنلندي في عام 2004. وكان يخشى الفنلنديون من الانضمام للناتو حتى لا تنفصل عنهم روسيا، وبالتالي حاولوا تجنب هذا السيناريو بكل الأشكال، وقد دفعت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا النقاش الفنلندي حول الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي؛ خوفًا من تكرار سيناريو حرب الشتاء عام 1939عندما أنكر الرئيس السوفيتي وقتها، جوزيف ستالين، حق فنلندا في الوجود.

انعكاسات محتملة:

تبرز العديد من الانعكاسات المحتملة بعد انضمام فنلندا رسميًا لحلف شمال الأطلسي، سواءً على المستويات الجيوسياسية أو العسكرية أو الأمنية، ونبرز ذلك فيما يلي:

مراسم رفع علم فنلندا أمام مقر حلف الناتو في بروكسل في 4 أبريل 2023

(*) مزيد من عسكرة الحدود الفنلندية الروسية: لم تعد موسكو تتعاطى في الوقت الحالي مع كل من السويد وفنلندا كدول محايدة أو مستقلة، باعتبار أن الأولى ما زالت تدق أبواب تركيا والمجر للانضمام للحلف العسكري، والثانية قد أصبحت بالفعل عضوًا في الحلف. ومن المحتمل أن يصل عدد قوات حلف الناتو على حدوده مع روسيا إلى 300 ألف، بدلًا من 50 ألف جندي، وذلك وفق تقرير نشره موقع "نيوز ري" الروسي. وسيفرض هذا التطور على موسكو ضرورة تعزيز قوتها العسكرية في الاتجاه الشمالي الغربي، مثل نشر مزيد من الفرق العسكرية، وأنظمة للدفاع الجوي، وبعض أنواع الأسلحة الصاروخية. ويبلغ طول الحدود الروسية الفنلندية في هذا الاتجاه 1340 كيلو مترًا. يُذكر أن فنلندا قد بدأت في مطلع مارس من العام الجاري، بناء سياج على حدودها مع الأراضي الروسية؛ لتعزيز أمنها من أي محاولات للاختراق.

(*) تجاوز حقبة الحياد في أوروبا: قد يُمثل انضمام فنلندا لحلف شمال الأطلسي بشكلٍ نهائي، وتقديم السويد لطلب الانضمام للحلف، نهاية لحقبة الحياد التي كانت تتبناها بعض الدول الأوروبية؛ فدولة فنلندا كسرت حيادها الذي بدأ باتفاقها مع الاتحاد السوفيتي عام 1948. ويُمكننا اعتبار أن لحظة انضمام فنلندا لحلف الناتو ستكون بمثابة اللحظة الفارقة في تاريخ حلف شمال الأطلسي الحديث؛ نظرًا لما قد يتبع ذلك من خطوات قد تشجع مزيدًا من الدول الأوروبية للانضمام. وتبرز مكاسب الغرب من انضمام فنلندا للناتو في تحدي الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي دخل حرب أوكرانيا لوقف توسع الحلف على حدوده، فإذا به يجد دولًا محايدة كفنلندا التي تتشارك معه حدودًا طويلة تنضم للحلف.

(*) تحول بحر البلطيق إلى بحيرة للناتو: بعد انضمام فنلندا بشكلٍ رسمي لحلف الناتو، يكون بذلك للحلف 7 دول مُطلة على بحر البلطيق، وهو ما قد يزيد من صعوبة وصول روسيا ساحليًا إلى سان بطرسبرج وكالينجراد. ومن المتوقع أن تمر السفن الروسية التي تغادر مرفأ كرونشتات العسكري قرب سان بطرسبرج عبر خليج فنلندا، وهي محاطة من الشمال ومن الجنوب بدول أعضاء في الناتو. ومع ذلك، تعتبر روسيا أن بحر البلطيق يُمثل أهمية ثانوية لها. ومن المتوقع أن تعمل روسيا على تسليح الحدود الفنلندية ومنطقة كالينجراد وبحر البلطيق بشكل أكبر؛ لتحقيق توازن في القوة بهذه المنطقة.

خريطة توضح موقع جيب كالينجراد الروسي بين ليتوانيا وبولندا

(*) نقل أسلحة نووية إلى كالينجراد: يتخوف الغرب من احتمال نشر "بوتين" لأسلحة نووية في جيب كالينجراد، الذي طالما اعتبره الغرب شوكة في خاصرة دول البلطيق، والقيام بعسكرة الجيب عبر نشر صواريخ إسكندر ومنظومة S400 خاصة بعد تنفيذ الجيش الروسي لتدريبات إطلاق صواريخ نووية في المنطقة التي كان ينتشر فيها نحو 200 ألف جندي في الحرب الباردة، ثم انخفض إلى 20 ألفًا في ضوء التفاهمات الدولية مع روسيا. ويُعتبر جيب كالينجراد بمثابة سلاح بوتين من الجغرافيا لمواجهة الناتو، وهي تقع أقصى الغرب الروسي بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق. وقد تهدد روسيا أمن الدول الأوروبية عبر نقلها لأسلحة نووية في هذه المنطقة التي لا تتصل جغرافيًا مع روسيا، ويعزز من هذا التفسير الدور الذي لعبته هذه المدينة أثناء الحرب الباردة؛ إذ يرسو فيها أسطول الكرملين في منطقة البلطيق.

(*) زيادة التوتر في منطقة القطب الشمالي: من المُحتمل أن تتحول منطقة القطب الشمالي إلى ساحة للتنافس بين موسكو من ناحية، وواشنطن وحلفائها من ناحيةٍ أخرى، لا سيَّما بعد انضمام هلسنكي إلى الناتو، وسعي ستوكهولم للانضمام كذلك. وقد سعت واشنطن بعد العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022 إلى إرساء نفوذها في القطب الشمالي وعزل روسيا، خاصة بعد تسوية الخلافات بين حليفيها كندا والدنمارك في القطب الشمالي، وتعليق عضوية موسكو في مجلس القطب الشمالي، وهو الأمر الذي حذَّر منه الكرملين، باعتبار أنه سيؤدي إلى تعزيز التنافس وتراجع التعاون بين دول المجلس.

في المجمل، من المُمكن أن تشهد منطقة بحر البلطيق تصعيدًا خلال الفترة المُقبلة؛ نتيجة حالة التزايد في عسكرة الحدود، واتجاه واشنطن وحلف الناتو لتحويل بحر البلطيق من منطقة مستقلة ومحايدة إلى بحيرة خاصة بنفوذهم، لمحاصرة موسكو وتقويض أمنها، وهو ما سيؤدي في المقابل إلى تصعيد روسي في هذه المنطقة عبر استخدام جيب كالينجراد ضد أمن دول البلطيق، من خلال نقل أسلحة نوعية ونووية إليه.