في 31 من مارس الماضي، أقر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الروسية لمواكبة "التحولات المتسارعة في الشؤون الدولية" والتكيف مع التوجهات العالمية الجديدة التي ظهرت حسب موسكو عقب الحرب الغربية الهجينة عليها في الميدان الأوكراني، والسياسات الأنجلوساكسونية "المعادية لروسيا"، متهمة الولايات المتحدة بأنها المحرك الرئيسي لتلك السياسة.
جاءت الاستراتيجية الجديدة، في 42 صفحة، ومقسمة إلى 76 فقرة و6 أقسام، تضمنت إعادة تحديد الأهداف والأولويات على الصعد العالمية والإقليمية وأشارت بصورة واضحة إلى حق استخدام القوة للدفاع عن مصالح روسيا وأمن حلفائها، ودعم جهود التكامل وتسوية النزاعات الإقليمية، وتعزيز التعاون مع مراكز صنع القرار الدولي والحضارات الصديقة لخلق نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وتزامن الإعلان عن الوثيقة مع تولي روسيا الرئاسة الدورية لمجلس الأمن الدولي خلال شهر أبريل الجاري، حيث يضطلع المجلس بمسؤولية حفظ السلم والأمن الدوليين، مع تعهدها بتحسين آليات العمل الدولي وتعزيز دور المؤسسات الأممية في قيادة النظام الدولي.
مواجهة ممتدة:
عرف المفهوم الجديد للسياسة الخارجية، روسيا بكونها "معقل العالم الروسي، وموطن إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي"، وتبنت هدفًا استراتيجيًا رئيسيًا، هو تقويض أسس الهيمنة الأحادية على تفاعلات النظام الدولي المتمثلة في استراتيجية الولايات المتحدة وحلفائها في بريطانيا، وعزت الوثيقة تحريك الولايات المتحدة للسياسات المعادية لروسيا عالميًا، إلى دور موسكو كقوة عالمية ذات ثقل حضاري، تعمل إلى جوار غيرها من ممثلي الحضارات العالمية ومراكز الثقل الحضاري والتنموي الدولي. ويمكن تحديد أبرز ملامح الاستراتيجية الروسية فيما يلي:
(*) السياسة الإنسانية: من بين الأولويات التي حرصت موسكو على تصديرها في الوثيقة، "السياسة الإنسانية" المعنية بحماية ذوي الأصول الروسية وممارسة حقوقهم الثقافية دون تمييز ومواجهة ما يعرف بـ"رهاب الروس" أو "الروسوفوبيا". وكانت الخارجية الروسية قد أطلقت وثيقة السياسة الإنسانية في 5 سبتمبر 2022 والتي يتسع تصنيف الروس على أساسها بين المواطنين بالخارج والناطقين باللغة الروسية في دول الاتحاد السوفيتي السابق.
(*) الحرب الوقائية: ركزت روسيا على استخدام القوة لصد أو منع أي هجوم على أراضيها وللدفاع عن حلفائها الذي تربطهم بموسكو اتفاقات أمنية مثل دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وكذلك لحماية المصالح الروسية في الفضاءات المختلفة ومنها المجال السيبراني والفضاء الخارجي مع الاتجاه المتزايد لعسكرتها كميادين للصراع الدولي. وتحمل الوثيقة دلالة أكيدة على رغبة روسيا في تعميق اتصالها مع الجوار الأوراسي ومواجهة التدخلات الغربية في حاضنتها الجنوبية خاصة في جنوب القوقاز في ظل التقارب الغربي مع أرمينيا خاصة بعد نشر قوة سلام أوروبية على وقع التوتر المتجدد بين يريفان وباكو.
(*) الحوكمة الإقليمية: تضع روسيا نموذجًا للحوكمة الإقليمية كأساس لتثبيت وتعزيز نفوذها في المناطق الأكثر أهمية لموسكو وفق اعتبارات الأمن القومي أولًا مثل المنطقة الأوراسية، حيث أولت الوثيقة الجديدة اهتمامًا كبيرًا بتطوير التكامل بين الدول الأوراسية ليعم السلام والاستقرار والازدهار باعتباره "مشروع روسيا الرائد خلال القرن الحادي والعشرين".
وتهتم بتخفيف التوترات الإقليمية في (بين طاجيكستان وقيرغيزستان في آسيا الوسطى، وأرمينيا وأذربيجان في جنوب القوقاز) ومناطق جنوب شرق آسيا وشمال وجنوب إفريقيا، ودول الكاريبي وأمريكا اللاتينية.
وفي إطار مناهضة أنشطة الاتحاد الأوروبي والمؤسسات التابعة له ومنظمة حلف شمال الأطلسي، أشارت السياسة الجديدة إلى ضرورة تشكيل نموذج جديد للتعايش بين الدول الأوروبية لتحقيق الاستقرار في الجانب الأوروبي من القارة الأوراسية مع الالتزام بمرجعية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
كما أشارت لاستكمال جهود التقريب بين دول الخليج العربي وإيران في الشرق الأوسط عبر إعادة طرح مبادرتها لتدشين منظمة للأمن الجماعي في الخليج والتي طرحتها في يوليو 2019.
وفي إطار تطلعها لتعميق التكامل العابر للأقاليم في الفضاء الأوراسي الأوسع والذي يتجاوز دول الاتحاد السوفيتي السابق ليشمل التجمعات الحضارية في العالم الإسلامي من آسيا الوسطى مرورًا بالعالم العربي وصولًا إلى غرب إفريقيا عبر الاستفادة من الموارد الاقتصادية الهائلة في تحقيق التكامل بين دول المنطقة.
القطبية الحضارية:
تعرف روسيا نفسها بموجب الوثيقة كعضو دائم بمجلس الأمن وقوة رئيسية في النظام الدولي تشارك بفعالية في المنظمات الحكومية الدولية، فضلًا عن امتلاكها قاعدة موارد ضخمة وهي إحدى القوتين النوويتين الرئيستين في العالم، والأهم من ذلك وجودها كفاعل حضاري رئيسي يحظى بالمسؤولية الدولية ممثلًا لـ"العالم الروسي".
وتعول موسكو على التعاون والتنسيق مع مراكز القوة العالمية الصاعدة والقوى الحضارية "الصديقة" في تطبيق رؤيتها للتحسين التدريجي والمستدام للمنظومة القانونية الدولية وتعزيز بنية النظام العالمي متعدد الأقطاب، والتي تؤشر على تراجع هيمنة الغرب وتثبت من خلالها تلك القوى، حسب الوثيقة، استقلالًا في صنع قرارات سياستها الخارجية وترفض التدخل في شؤونها الداخلية. وهاجمت الوثيقة بالمقابل مفهوم "النظام العالمي القائم على القواعد"، باعتبارها قواعد غير شرعية تفرضها مجموعة صغيرة من الدول تضغط على النظام الدولي ومؤسساته متعددة الأطراف.
وبالنظر لما يمكن وصفه بـ"الفاعل الحضاري" في المنظور الروسي، كما ورد في الوثيقة وفي مقابلة لمدير تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية الروسية أليكسي دروبينين في 13 مارس 2023 مع مجلة "قضايا الاستراتيجية الوطنية" الصادرة عن "المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية"، يمكن الاستناد إلى مجموعة من المؤشرات؛ أولها أن تكون الدولة تجسد أو ممثلة عن حضارة رئيسية تمتلك أصول ثقافية ذات طبيعة عالمية وهي الهند والصين، أو ممثلة في مؤسسات إقليمية تمتلك سمات ثقافية وحضارية مشتركة مثل دول "الحضارة الإسلامية الصديقة" في منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية، وعلى رأس تلك الدول مصر والسعودية وتركيا وإيران وسوريا.
وثاني تلك المؤشرات دورها الواعد في النظام الاقتصادي العالمي على صعيد امتلاك مقومات الاكتفاء الذاتي والاستقلال الاستراتيجي في مجالات الطاقة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من التقنيات الفائقة.
ويأتي ثالثًا أن تمتلك فلسفتها الخاصة في التنمية، والتي تشير إجمالًا لمعارضة النموذج الغربي للعولمة، بالتركيز على إخفاقات المنظومة الاقتصادية الدولية في الظرف الراهن، حيث تنتقد روسيا ظواهر العقوبات الأحادية والمنافسة غير العادلة عبر استهداف مصالح وقدرات الخصوم الاقتصادية والنموذج الرأسمالي الراهن وما يعانيه من تضخم الديون وسياسة طبع النقود، والتي تهدد بتفكيك الاقتصاد العالمي في ظل تعدد أنظمة المدفوعات البديلة لمنظومة سويفت للتحويلات المصرفية والتوجه المتزايد لتحرير التجارة الدولية من هيمنة الدولار.
وختامًا؛ جاء تحديث استراتيجية السياسة الخارجية الروسية بعد أربع سنوات من صدور سابقتها في نوفمبر 2019، ردًا على التطورات التي شهدتها الساحة الدولية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في ظل اتساع المواجهة بين روسيا والقوى الغربية. ولا يبدو أن الاستراتيجية أتت برؤية أو توجه جديد خلافًا لتأكيدها التمسك بخيار المواجهة الممتدة مع القوى الغربية وفي القلب منها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وتظهر بلورة الاستراتيجية، حدود التوظيف الروسي لقوتها النووية في ضمان الندية والتعاطي من منطلق المساواة في السيادة مع الولايات المتحدة كقوة نووية وازنة تقود تطلعات الأمم والحضارات غير الغربية في بناء نظام متعدد الأقطاب على كافة الصعد الاقتصادية والعسكرية والحضارية.