لم تجد الإدانات طريقها إلى أسماع سلطات الاحتلال الإسرائيلي على خلفية عدوانها ضد جنين ومخميها يومي 3 و4 يوليو الجاري، تحت ستار مُحاربة المسلحين وتفكيك البنية التحتية للفصائل في جنين. سلطات الاحتلال استبقت المواقف الدولية بالحديث عن إبلاغ أوروبا والولايات المتحدة مسبقًا بالعملية، وهو ما ظهر في خفوت حدة الانتقادات الغربية والدولية بوجه عام للعدوان، إلا إن العملية العسكرية التي نفذها جيش الاحتلال تضمنت تهجيرًا لآلاف من سكان جنين واستهداف البنية التحتية المدنية بصورة مباشرة.
وفي ظل تطورات العملية التي وُصفت بأنها الأضخم في جنين، منذ انتفاضة 2002، وتعليق التنسيق الأمني بين السلطة الوطنية الفلسطينية وسلطة الاحتلال، بجانب تهديد الفصائل الفلسطينية بإمكان انخراطها في المواجهات، وسط مخاوف من ضبابية مشهد التصعيد وتداعياته الممتدة على ملف السلام في الشرق الأوسط.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يسعى التحليل التالي للتعرف على المواقف الدولية من تطورات الأحداث في جنين ورؤيتهم لانعكاساتها على حل الدولتين.
رؤية ضبابية
سعت الدعاية الإسرائيلية قبل وخلال عدوان جنين للترويج إلى تحول المدينة ومخيمها لمعقل جديد للفصائل الفلسطينية، وربطها بعمليات الطعن وإطلاق النار التي نفذها عدد من شبان المخيم ضد أهداف إسرائيلية في الداخل.
ومن الجدير بالذكر أن قادة الدول العربية وفلسطين في مواقفهم المنددة بالتصعيد الذي يقوده اليمين المتطرف باتوا ينتقدون في الوقت ذاته سياسة الأطراف الدولية في "إدارة الصراع" بدلًا من اتخاذ إجراءات عملية لحله وفق مقررات الشرعية الدولية أو بذل خطوات تمهيدية تحلحل الجمود الذي أصاب مسار السلام، من خلال وقف الأعمال العدائية.
(*) انحياز لـ"أمن إسرائيل": مع اشتعال المواجهات بين جيش الاحتلال والفصائل الفلسطينية حافظت الولايات المتحدة على تأييد شبه مطلق لإسرائيل فيما تتخذه من إجراءات تحت بند "حق إسرائيل الحفاظ على أمنها"، وهو ما جدده بيان المتحدث باسم البيت الأبيض، الإثنين 3 يوليو 2023، مؤكدًا "دعم أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن شعبها" ضد من أسماهم بـ"الجماعات الإرهابية".
لكن المساعي الأمريكية في القضية الفلسطينية، التي جاءت تحت بند "تهدئة التوترات" لم تمنع الانتهاكات الإسرائيلية بالأراضي المحتلة، إن لم تكن تدعمها بالأساس، وهو ما يعزز من مخاوف إضعاف السلطة وينذر على العكس من ذلك بإشعال المزيد من التوترات في ظل تمسك الحكومة اليمينية بتوسيع الاستيطان وتصعيد عمليات جيش الاحتلال بالأراضي الفلسطينية، التي من المرجح أن تستمر في عمليات متتالية طالما لم تجد سلطة الاحتلال إدانة واضحة من الأطراف الدولية الداعمة.
وفي موقف أقل انحيازًا، دعت وزارة الخارجية الألمانية، إسرائيل، لاحترام مبدأ التناسب في الرد المنصوص عليه في القانون الدولي، بالتوازي مع حقها في الدفاع عن نفسها ضد ما أسمته بـ"الإرهاب".
الموقف ذاته صدر عن ريشي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني، الذي دعم في تصريحاته، الثلاثاء 4 يوليو، "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" مع أهمية ضبط النفس وحماية المدنيين.
(*) احترام البعد الإنساني: تناول مسؤولو الأمم المتحدة ووكالاتها أهمية احترام البعد الإنساني في العمليات وتجنب استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية في المخيم، حسب تصريحات فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، 3 يوليو الجاري، مشيرًا إلى احترام القانون الدولي الإنساني في العمليات الجارية بجنين.
كما حث تور وينسلاند، منسق عملية السلام في الشرق الأوسط، "الجميع" على ضمان حماية المدنيين. وتجنب مسؤولو الأمم المتحدة في اليوم الأول، إدانة جيش الاحتلال وعمليته العسكرية التي بدأت في ساعة مبكرة من فجر الإثنين 3 يوليو الجاري، إلا إن نزوح 3 آلاف فلسطيني من المخيم في أعقاب "الضربات الجوية المميتة"، حسب تعبيرات فولكر تورك، مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، دفعت المسؤول الأممي لإدانة استخدام الضربات الجوية في عمليات إنفاذ القانون في مناطق مدنية، واعتبرها ترقى إلى "القتل العمد" في ظل تضرر المباني والمرافق الصحية وشبكة إمداد المياه.
وكان لافتًا أن الاتحاد الأوروبي لم يصدر بيانًا حول أحداث جنين عبر أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية، أو جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية والأمنية، أو لويس بوينو، المتحدث باسم الاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبدلًا من ذلك أدان جانيز لينارتشيتش، مفوض الاتحاد لإدارة الازمات والمساعدات الإنسانية، استخدام القوة في المخيم والتسبب في خسائر بشرية وتدمير للبنية التحتية.
(*) صمت صيني-روسي: رغم الاهتمام الصيني المتصاعد بقضايا الشرق الأوسط، إلا إنها لم تعقب على أحداث جنين منذ انطلاق العدوان وحتى 5 يوليو 2023، فيما يؤشر على رغبة صينية في إعادة بناء رؤية شاملة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والبناء على ما تحقق من تواصل الرئيس شي جين بينج ونظيره الفلسطيني أبو مازن، خلال زيارة الدولة التي أجراها أبو مازن لبكين، لمدة 4 أيام، منتصف يونيو الماضي، فضلًا عن دعوة الرئيس شي، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لزيارة الصين.
وقبيل أحداث العدوان الأخيرة، دعا تشانج جون، المندوب الصيني الدائم، 27 يونيو 2023، لكسر دائرة العنف في الأراضي الفلسطينية ووقف الأعمال الأحادية التي تهدف لتغيير الوضع القائم.
روسيًا، لم يتطرق بيان رسمي روسي لأحداث جنين بصورة مباشرة على الرغم من العلاقات الطيبة التي تجمع السلطات الروسية بالسلطة والفصائل الفلسطينية، بينما أعرب ميخائيل بوجدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي للشرق الأوسط، 4 يوليو 2023، (خلال اتصال هاتفي مع عضو المكتب السياسي لحركة حماس موسى أبو مرزوق) استعداد موسكو للعمل مع جامعة الدول العربية لـ"تهدئة التوترات" وإيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية، في إشارة إلى حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمة القدس الشرقية.
وإجمالًا؛ لم يكن العدوان الأخير في جنين الأول ولن يكون الأخير وفق تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي وأعضاء حكومته من اليمين المتطرف على معاقل المقاومين الفلسطينيين الواقعين تحت سلطة احتلال، بما يكفل لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم، إلا إن الغطاء الدولي الذي استعانت به إسرائيل قبل العملية انعكس على خفوت حدة الانتقادات رغم الانتهاكات الجسيمة التي طالت المدنيين والبنية التحتية المدنية. ولا يخدم الوضع الحالي تهدئة التوترات في الأراضي الفلسطينية طالما لم يلتزم المجتمع الدولي بإنهاء الصراع وتسوية على أساس حل الدولتين، ودون ذلك ستسهم الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب في تقويض جهود الحل في ظل انعدام الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.