أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مساء يوم الاثنين 27 مارس 2023، تأجيل القراءة الثالثة لمشروع إصلاح القضاء إلى الدورة البرلمانية المقبلة "تفاديًا للانقسام" ورغبة في تحقيق توافق للآراء حول الإصلاح على حد تعبيره، مرحبًا بدعوة وزير الدفاع السابق وأحد زعماء المعارضة بيني جانتس، فيما ركز جهوده في الهجوم على المعارضة بوصفها "أقلية متطرفة" تسعى لتمزيق الدولة وتحرض على رفض أداء الخدمة العسكرية، على حد قوله، معتبرًا ذلك مؤشرًا على "نهاية الدولة".
جاء ذلك فيما استمرت مظاهر الغضب في الشارع الإسرائيلي رفضًا لمشروع حكومة نتنياهو للإصلاح القضائي، التي يهيمن على توجهاتها تيار الصهيونية الدينية، حيث اقتربت أعداد المتظاهرين من 100 ألف شخص، حول الكنيست الإسرائيلي والمؤسسات الحيوية، وسط محاولات لاقتحام بعض المنشآت والمقار وعلى رأسها مقر إقامة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
وتسببت إقالة وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت، يوم الأحد 26 مارس 2023، على وقع رفضه مشروع الإصلاح القضائي المثير للجدل، في إشعال الشارع الإسرائيلي الغاضب الذي اعتبر إقالة جالانت مؤشرًا على حكم استبدادي يتزعمه اليمين المتطرف، ما دفع بعشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع وتنفيذ حركة إضراب وعصيان واسعة في صفوف مؤسسات اقتصادية وعسكرية وقطاعات واسعة في إسرائيل شملت الاتحاد العام للعمل والسلك الدبلوماسي.
وعلى الرغم من قرار نتنياهو تجميد الإصلاح القضائي على وقع الاضطرابات المتصاعدة والتي أعقبها تراجع بعض الفعاليات الاحتجاجية، إلا أن الوضع العام في إسرائيل لا يشير إلى اختراقات كبيرة في ظل نفوذ تيار الصهيونية الدينية، ليبقى السؤال؛ كيف سيستقبل الشارع الإسرائيلي التراجع المؤقت عن الإصلاح القضائي؟ وما التداعيات المحتملة على المشهد السياسي؟
انقسامات عميقة:
توسعت مظاهر الاحتجاج في إسرائيل بدعم ومشاركة أطياف المعارضة من اليسار والوسط على ما أسموه بمشروع "الانقلاب القضائي" لحكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، في مؤشر على مساعي انقسامات اجتماعية-سياسية عميقة بين رؤيتين لشكل الدولة ونظام الحكم في إسرائيل:
(*) إضراب واسع: تعطلت كثير من مظاهر الحياة في إسرائيل مع إغلاق طرق رئيسية في تل أبيب والقدس المحتلة، كما دعا الاتحاد العام للعمل إلى إضراب عام في وقت تعطلت حركة الملاحة الجوية في مطار بن جوريون. وفي المقابل من الشارع المعارضة توافد مساء الاثنين 27 مارس أنصار اليمين المتطرف إلى مواقع الاحتجاجات في تل أبيب والقدس المحتلة، ما تسبب في وقوع مصادمات بين المعسكرين.
وعلى مدار الأسبوع الماضي رفض نحو 200 طيار من قوات الاحتياط بجيش الاحتلال و150 جنديًا وضابطًا في الوحدة 8200 بشعبة الاستخبارات العسكرية، الاستمرار في الخدمة العسكرية احتجاجًا على خطة الإصلاح القضائي، ما دفع رئيس الأركان للتحذير من الإضرار بعمليات سرية لجيش الاحتلال، في ظل تراجع أعداد المستجيبين للخدمة الاحتياطية خلال مارس الجاري.
(*) مجتمع مضطرب: تظهر استطلاعات الرأي لمعاهد ومؤسسات بحثية إسرائيلية إلى تزايد القلق في المجتمع الإسرائيلي من التهديدات الداخلية بنسبة 64%، أكثر من التهديدات الخارجية على أمن إسرائيل والتي سجلت نسبة 26% فقط، حسب استطلاع رأي 2022/2023 لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي. وعلى رأس تلك المخاوف تبرز أزمة الحكم. وهو ما ظهر في حالة عدم اليقين من قدرة الدولة على مجابهة التحديات، حيث انخفضت ثقة الإسرائيليين في الدولة أمام تراجع (محتمل) للدعم الأمريكي من 46% عام 2021، إلى 43% عام 2022. وفي مواجهة تحدي الفساد الحكومي تراجعت النسبة من 40% إلى 32% في ذات الفترة. وأمام تصاعد الاستقطاب بين القطاعات المختلفة في المجتمع انخفضت الثقة في قدرة الدولة من 38% إلى 36%.
وانخفضت نسبة المتفائلين بمستقبل مشهد الأمن القومي الإسرائيلي في ظل الاضطرابات القائمة من نسبة 46% في يناير الماضي إلى 31% فقط في فبراير، واتفق الطيف السياسي الإسرائيلي على الرؤية السلبية للأمن القومي حيث سجل معسكر اليمين أكثر الأطياف تفاؤلًا بنسبة لم تتجاوز 46%، يليه تيار الوسط بنسبة 22%، ثم اليسار بنسبة 16%.
(*) انقسامات عميقة: وبدت الانقسامات الداخلية على أساس أيديولوجي واجتماعي أكثر وضوحًا في الاحتجاجات التي اندلعت منذ يناير الماضي التي قادها معسكر المعارضة بجناجيها من قوى اليسار التي سجلت أعلى مشاركة حسب استطلاع حديث معهد ديمقراطية إسرائيل "The Israel Democracy Institute"،أظهر رؤية 72% من المستطلعة آراؤهم أن الوضع الإسرائيلي العام في ظل حكومة نتنياهو ازداد سوءًا من جهة تعميق التوترات داخل المجتمع. وارتفعت تلك النسبة بين قوى المعارضة إلى 84%، بينما تنخفض قليلًا بين صفوف مؤيدي الائتلاف اليميني إلى 61%.
لكن النسبة المخيفة بالنسبة للداخل الإسرائيلي تتمثل في حالة العصيان الواسعة والتماهي بين حركة الاحتجاج حيث بلغت نسبة مشاركة اليسار في حركة الاحتجاج 45,5%، يليه الوسط بنسبة 37,5% ثم اليمين بنسبة 17%. كما ارتفعت نسبة المؤيدين لاستخدام العنف لأغراض سياسية إلى 21%، من مستوى 9% في ديسمبر 2022، خاصة مع انخفاض نسبة المتفائلين بتأثير حركة الاحتجاج على مسار مشروع التعديل القضائي.
(*) صورة قاتمة للديمقراطية الإسرائيلية: ينظر الإسرائيليون بصورة سلبية لتطورات الوضع العام في البلاد بتقييم "سيئ وسيئ جدًا" بنسبة خلال فترة 5 أشهر فقط من نسبة 30% في أكتوبر 2022، إلى 47% في فبراير الماضي، مسجلًا أعلى نسبة منذ 2007.
وسجلت النسبة العامة للمتفائلين بشأن "مستقبل الديمقراطية في إسرائيل" 38% فقط، يتقدمهم تيار اليسار بنسبة 17% يليه الوسط بنسبة 19%، ثم اليمين وهو الأعلى بنسبة 61%.
اتجاهات متصارعة:
تظهر المؤشرات العامة للأوضاع في إسرائيل، مشهدًا اجتماعيًا مضطربًا وتركيبة سياسية غير منسجمة، ومنقسمة على نفسها لم تعد قادرة على إخفاء أزمة نظام الحكم بين نخبة علمانية آفلة، وأخرى دينية متطرفة قادمة للسيطرة على تفاعلات ليس فقط المشهد السياسي، وإنما شكل الحياة العامة.ورغم ما يجمعهما مشروع الصهيونية وهدف الدولة اليهودية الخالصة تختلف تكتيكات تنفيذ ذلك الهدف المشترك بين المعسكرين.
وتمثل الانقسامات الرأسية في المجتمع الإسرائيلي تهديدًا جديًا بشبح حرب أهلية ما لم تتلاقى الأطراف المتصارعة حول تسوية واسعة ومقبولة لمواجهة الأسئلة الجدية ليس فقط بشأن الديمقراطية وإنما قابلية الحوار والتفاوض حول قضايا الحريات وإبعاد التوجهات الحزبية عن مؤسسات الحكم، وهو ما حذر منه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج، وخلال عهد الرئيس السابق رؤوفين ريفلين الذي شهد على 5 انتخابات خلال أقل من 3 سنوات ونصف، وصولًا لتحذير وزير الدفاع المقال يوآف جالانت من خطورة التعديل على أمن إسرائيل بالنظر لتعمق الشرخ المجتمعي ووصوله إلى صفوف الجيش والمؤسسات الأمنية.
وعلى ما سبق يمكن استقراء مستقبل تطورات الأوضاع في إسرائيل في ضوء أحد السيناريوهين التاليين:
(#) السيناريو الأول، تحقيق التوافق: في هذا السيناريو سيلجأ نتنياهو لبناء حد أدنى من التوافق حول القضايا الجوهرية بين الائتلاف الحكومي من جهة والمعارضة من جهة أخرى. وتكمن صعوبة تحقيق ذلك الطرح أولًا؛ في تشكك أطياف المعارضة من جدوى أي حوار مع اليمين المتطرف في إطار سيولة المشهد الدستوري والغطاء الديمقراطي المهلهل الذي يمكن التأثير فيه بتعديل القوانين الأساسية برلمانيًا، ومن ثم تظهر مطالبة زعيم المعارضة يائير لابيد بتسوية شاملة قائمة على حوار ينتهي بالتوصل إلى توافق على الإصلاح وإقرار دستور دائم. ومن ثم فإن أي إصلاح يضمن السيطرة على السلطة القضائية سيعني تقويض نفوذ اليسار والوسط.
وثانيًا؛ أن التوافق الصعب مع نتنياهو قاد لانقسامات داخل حزبه وبين حلفائه السابقين الذين يقودون معسكر المعارضة حاليًا، وسعوا لعزله من الحياة السياسية. الانقسامات وصلت إلى حزب الليكود في ظل الموقف العلني لجالانت برفض الإصلاح، وتململ بعض أعضاء الحزب من نفوذ اليمين المتطرف الذي يؤثر على السياسات الداخلية والأوضاع في الضفة الغربية، ومجمل الأراضي المحتلة وقطاع غزة، وهو ما ينعكس على تدهور للوضع الأمني في حال نشوب أي مواجهة محتملة، وسيؤثر كذلك على صورة إسرائيل التي دأبت على الترويج لنفسها كواحة للديمقراطية الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
(#) السيناريو الثاني، إدارة الأزمة: وبالنظر لتطورات المشهد واتجاه الحكومة لتأجيل القراءة الثالثة لمشروع التعديل القضائي، يبقى السيناريو الأقرب للحدوث هو إدارة الأزمة والحيلولة دون انفجار الأوضاع وخروجها عن السيطرة، من خلال فتح مساحة للحوار مع المعارضة حول التعديل القضائي، في مقابل فتح متنفس إضافي للصهيونية الدينية التي وافقت على مضض على تأجيل التعديل، ربما عبر السير بخطى ثابتة لـ"التمكين" والسيطرة على المؤسسات الأمنية لسلطة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية لتوسيع عمليات الاستيطان، وهو ما يظهر من تناقل وسائل الإعلام الإسرائيلية أنباء عن صفقة بين نتنياهو ووزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن جفير تتضمن تشكيل جناح أمني يسمى قوة أمنية رديفة للشرطة تحت مسمى قوات "الحرس الوطني".
وختامًا؛ يشير مشهد الأزمة إلى مرحلة انتقالية حرجة في المشهد السياسي الإسرائيلي يتضمن ولوج القيادة السياسية إلى أقلية يمينية متطرفة صعدت لقمة المشهد بدعم رئيس وزراء محاصر بقضايا فساد، إلا أن مشروع الصهيونية الدينية يضرب بعمق جذور وإرث النظام الصهيوني ذو الطابع العلماني الذي ساد منذ 1948 وحتى مجيء تلك الحكومة نهاية العام الماضي، ما يظهر تصدعات داخل المؤسسات العلمانية الراسخة التي تعاني صراعًا للسيطرة عليها قد يعزز من ميلاد أجنحة موازية في حالة استعصاء جهود السيطرة. ويجعل من صعود تناقضات البنية المجتمعية إلى سطح المشهد السياسي وبالتبعية مؤسسات الحكم وقوى الأمن والدفاع مسألة وقت ما لم يتوجه الفرقاء السياسيون إلى إحداث تغييرات واسعة في شكل الدولة وقانونها الأساسي يضمن مكتسبات الطرفين، ومن ثم يتحول صعود الصهيونية الدينية إلى فجر كاذب لتجديد دماء "الدولة الصهيونية".