- مشاركتي في مهرجان "كان" أعطاني دفعة معنوية للبدء من جديد
- قضية الفيلم ملحة للمجتمع السوداني.. وظروف الحرب دفعتني للتفكير في العمل خارج السودان
- لا توجد صناعة للسينما في السودان.. وقررت المجازفة بعد العمل 16 عاما في الطيران
فرضت السينما السودانية نفسها بقوة في المحافل الدولية رغم الصعاب التي يمر بها صنّاعها من انعدام الموارد وغياب الإنتاج، لكن بالأمل وبقصص من الواقع السوداني، نجح عدد كبير من المخرجين الشباب أن يصنعوا أسماءهم في الفن السابع، وحصد جوائز ونيل احتفاء كبير في المهرجانات العالمية، كان آخرهم السوداني محمد كردفاني، الذي أضاف إنجازًا جديدًا للسينما السودانية تتمثل في مشاركة فيلمه "وداعًا جوليا" في إحدى مسابقات مهرجان كان، لكنه لم يكتفِ بهذا القدر، ليحصد العمل جائزة "الحرية".
اعتمد كردفاني في فيلمه على تناول فكرة الانفصال الذي قسّم السودان، من خلال منى المرأة الشمالية التي تعيش مع زوجها أكرم، وتتسبب في مقتل رجل جنوبي، ثم تُعين زوجته جوليا التي تبحث عنه كخادمة في منزلها ومساعدتها سعيًا للتطهر من الإحساس بالذنب، ليُطرح العمل بشكل درامي مميز، إذ ناقش قضايا مهمة مثل "العنصرية، والتمييز الجنسي".
وبعد النجاح الكبير الذي حققه الفيلم في مهرجان كان السينمائي وحصوله على جائزة "الحرية"، في مسابقة "نظرة ما"، تحدث محمد كردفاني لموقع "القاهرة الإخبارية"، حول تجربته في هذا العمل وتفاصيلها منذ كانت فكرة حتى الانتهاء من تصويرها، بالإضافة إلى التحديات التي واجهها، واستقباله خبر الفوز بجائزة "الحرية" في مهرجان كان السينمائي، كما تطرق إلى بداياته في مجال الإخراج، وأمور أخرى تحدث عنها في هذه السطور:
معاناة البدايات
يعد المخرج السوداني محمد كردفاني مثل أي شخص يقرر أن يدخل المجال الفني، ليواجه الكثير من الرفض والإحباط في بداية الأمر، وعن رحلته الفنية يقول: "منذ انتهيت من دراسة المرحلة الثانوية أردت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة، لكن والدي رفض الأمر وأصر على دراسة شيء آخر، فدرست هندسة الطيران، وفي أول سنة بالكلية بدأت الكتابة، وكنت أكتب قصصًا روائية قصيرة، لم يكن أحد يقرأها، وفي عام 2008 مارست التصوير الفوتوغرافي كهواية وأحببته جدًا، ثم عام 2014 تعلمت المونتاج لأسباب عائلية، وبعدها وجدت أنه بإمكاني تحويل قصصي التي لم تحظَ بالقراءة إلى أفلام عسى أن تجد من يشاهدها".
ويضيف: "تحمست كثيرًا للفكرة، لكن المشكلة أنني لم أكن أفقه شيئًا في الإخراج أو توجيه الممثلين، فالتحقت بدورة تعليم عن بعد لمدة ستة أشهر في صناعة الفيلم المستقل، وكان آخر فرض دراسي للحصول على الشهادة هو تصوير مشهد في موقع تصوير واحد بممثلين اثنين لا تزيد مدته على دقيقتين، وكنت وقتها أعمل كمهندس طيران بدوام كامل في البحرين، فأخذت أسبوعين من إجازتي السنوية وبعض مدخراتي وسافرت إلى السودان، وتحول ذلك المشهد الوحيد إلى أول أفلامي القصيرة، ولم يكن الفيلم جيدًا بالطبع، بل كان سيئًا في الحقيقة، لكنني تعلمت منه أكثر من الدورة التدريبية، وزادني الأمر حماسًا أن أصنع فيلمي الثاني "نيركوك".
تجارب شخصية
يؤكد محمد كردفاني أن قصة فيلم "وداعًا جوليا" مستمدة من تجارب شخصية مر بها على مراحل مختلفة من حياته، إذ يقول: "بالرغم من أن قصة وداعًا جوليا تدور في إطار سياسي اجتماعي إلا أنها في الوقت نفسه شديدة الخصوصية بالنسبة لي، فالشخصيات والمشاهد بالفيلم مستلهمة من تجارب شخصية في مراحل عمرية مختلفة من حياتي، فهذا الشيء جعلني ارتبط بالفيلم بشكل عاطفي وأصبح أكثر من مجرد مشروع أنفذه".
ويضيف: "أما على مستوى الجمهور فأعتقد أن قضية الفيلم مُلحّة للمجتمع السوداني، فالقبلية والعنصرية والطبقية كلها آفات ما زالت تنخر في المجتمع وما انفصال الجنوب إلا أحد تجليات هذه الأزمة، والفكرة جاءت على مراحل، ففي البداية كانت مجرد خواطر وأفكار بدأت عندما قرأت أن نتيجة استفتاء الجنوب بلغت قرابة 99% لصالح الانفصال، كانت هذه النسبة كفيلة بأن تجعلني أدرك فداحة المشكلة، وأن الأزمة على المستوى الاجتماعي أكبر وأعمق بكثير من أي اختلاف سياسي".
ويتابع: "أدركت أيضًا أنني جزء من المشكلة، لأنني لم أعرف من الجنوبيين سوى بعض العمال المنزليين بالرغم من نزوحهم بالملايين إلى العاصمة الخرطوم، كان هذا لأنني لم أتخلص من التمييز العنصري الموروث من الأجيال السابقة، الذي أحدث نوعًا من الفصل العنصري بين المجتمعين الشمالي والجنوبي، فبدأت تدريجيًا أتغير، ووجدت رحلة التغيير مثيرة للاهتمام، فبدأت كتابة الفيلم في عام 2018 مُستغلًا هذه الرحلة كإلهام".
التحضير والمناقشة
يشير المخرج السوداني إلى أن التحضير لفيلم "وداعًا جوليا" تطلب منه جهدًا كبيرًا على المستويين المادي والمعنوي للخروج إلى النور بشكل مناسب، قائلًا: "تنقل المشروع بين عدد من ورش التطوير والكتابة، كان أهمها إقامة global media makers في لوس أنجلوس بتنظيم من فيلم إندبندنت، التي تدربت فيها لأسابيع مع المخرج الأمريكي الباكستاني أمان عباسي وخبراء في مجالات مختلفة من هوليوود".
ويضيف: "الحقيقة أن الكثير من ذوي الخبرة ساعدوني في هذا المشوار، منهم منتج الفيلم أمجد أبو العلا، والمصري أيمن الأمير، الذي ساعدني على تطوير النص، والمايسترو أحمد ماهر مخرج فيلم "المسافر"، الذي استمتعت بالنقاش معه لمدة أسبوع حول رؤيتي الإخراجية وطريقة التعامل مع الممثلين وطاقم العمل، ومونتيرة الفيلم هبة عثمان، التي كانت تقرأ وتناقش معي كل شيء في السيناريو، وقبل شهور من بداية التصوير بدأت العمل مع الممثلين، خصوصًا إيمان وسيران، لأنها أول تجربة سينمائية لهما.
الوضع غير مستقر
كأي عمل لن يخلو "وداعًا جوليا" من صعوبات وتحديات بالنسبة للمخرج السوداني محمد كردفاني، خاصة أن السودان يمر بأزمة كبيرة في وقتنا الحالي، وعن هذه الصعوبات يقول: "أعتقد أن أكبر التحديات كانت إنتاجية لوجستية نظرًا لوضع السودان السياسي غير المستقر، فقد تزامن التصوير الكثير من المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، ما جعل الإنتاج في هذه الظروف غاية الصعوبة، لكن فريق الإنتاج بقيادة خالد عوض وسامو ومدير الإنتاج هند حسين، استطاع التغلّب على تلك المعوقات ومواصلة التصوير لمدة 45 يومًا دون توقف.
مداوة الجرح
ينوه المخرج السوداني إلى أن الرسالة الأساسية في فيلم "وداعًا جوليا"، هي المناداة بالمصالحة بين أطياف الشعب السوداني، قائلًا: "الفيلم يحاول بشكل أساسي أن ينادي بالمصالحة على المستوى المجتمعي بين أطياف الشعب السوداني كافة، عبر فتح الجرح ومن ثم مداواته، فيقوم بتعرية المجتمع والإنسان السوداني أمام نفسه في مكاشفة واضحة".
ويضيف: "أعتقد أننا جميعًا بحاجة إليها لكي نجد طريقًا للسلام والعيش المشترك الذي لن يحدث ما لم نتخلى عن الامتيازات الكاذبة وغير المستحقة، بالإضافة إلى أنه يضع المُشاهد أمام شخصيات رمادية بعقليات وأفكار مختلفة عن بعضها وتقوم بأفعال مثيرة للجدل، هذه الشخصيات هي نماذج من المجتمع لكنها في الوقت نفسه ضحية له، ومحاولة تفهم دوافعها والتعاطف معها هو ما نحتاجه كمجتمعات للصفح ومن ثم المصالحة".
الدفعة المعنوية
كانت مشاركة محمد كردفاني في مهرجان كان السينمائي من خلال "وداعًا جوليا"، بابًا لاكتشاف موهبته الإخراجية في ظل الظروف السينمائية الصعبة بالسودان، إذ يقول: "للأسف لا توجد صناعة للسينما في السودان كما أنني لم أدرس السينما ولم أحظَ بأي نوع من التدريب في المجال من قبل، لذا لم أكن واثقًا مما أفعله، كانت بالنسبة لي مجرد هواية وكنت فقط أجرب واستمتع بالممارسة مدفوعًا بالشغف".
وتابع: "في عام 2019 تركت هندسة الطيران والإقامة بالخليج التي عملت به لمدة 16 عامًا، وعدت إلى السودان وأسست شركة استديوهات "كلزيوم"، وبدأت الاستعداد لتنفيذ الفيلم، وكانت كلها قرارات مصيرية بها الكثير من المجازفة، لكن صُنع الفيلم والمشاركة والفوز بمهرجان كان جعلني أطمئن قليلًا أن القرارات لم تكن طائشة، وبالرغم من أنني الآن عالق خارج السودان، بسبب الحرب التي جعلتني أخسر الكثير إلا أنني واثق أن الدفعة المعنوية التي صاحبت مهرجان كان ستمكنني من البداية من جديد".
تخفيف الألم
شكّل فوز فيلم "وداعًا جوليا" بجائزة "الحرية" في مهرجان كان السينمائي 2023، أملًا للشعب السوداني في ظل الأزمة الكبيرة التي يمر بها، وحول ذلك يقول كردفاني: "كنت سعيدًا بهذا الفوز فهو تتويج رائع لمجهود فريق العمل على مدار شهور طويلة، كما أن الناس في السودان تحتاج إليه في ظل هذه الظروف، لقد وصلتني الكثير من الرسائل التي تشكر الطاقم لأن الفيلم قدّم السودان بشكل مختلف عما يظهر في الأخبار، وخفف من الألم ولو قليلًا، وأتمنى أن تتوقف الحرب، لأن العنف لن يحل المشكلة بل سيزيدها".
مشروعات جديدة
وعن المخرجين الذي يعتبرهم قدوة بالنسبة له، يقول: "أحب واقعية السينما الإيرانية بشكل عام وبشكل خاص بعض أعمال أصغر فرهادي، كما أن هناك أفلامًا أحبها جدًا واستلهم منها لأسباب مختلفة، ليس بالضرورة أن أحب جميع أعمال نفس المخرج.
ويختتم حديثه عن مشروعاته الفنية، قائلًا: "كنت بدأت العمل على بعض المشروعات، لكن الحرب غيّرت كل الحسابات، الآن يجب أن أفكر في العمل من خارج السودان وهو أمر لم أكن أفضله".