بانتهاء ولاية الرئيس الرئيس اللبناني ميشيل عون، في 31 أكتوبر 2022، دخل لبنان في فراغ رئاسي ممتد، بعد أن فشل البرلمان الذي عقد أربع جلسات متتالية من نهاية سبتمبر 2022، في اختيار من يخلُف الرئيس عون، والذى استمر في سدة الحكم لستة أعوام.
ويبدو أن الفراغ الرئاسي أضحى أحد الملامح الحاكمة لتفاعلات المشهد السياسي اللبناني، فمنذ استقلال لبنان عام 1943، شهد هذا البلد خمس حالات للفراغ الرئاسي، وتسلمت الحكومات صلاحيات الرئيس خلال فترات الفراغ، كان أطولها فراغًا للسلطة تلك الفترة السابقة على تولي ميشيل عون، التي امتدت لما يقرب من عامين وخمسة أشهر بين 24 مايو 2014 وحتى 31 أكتوبر 2016، عقد البرلمان خلالها 45 جلسة لم يكتمل نصاب معظمها حتى تم التوافق على اختيار عون لرئاسة الدولة، هذا السوابق في الممارسة السياسية لا زالت تلقى بظلالها على مرحلة ما بعد عون.
وحدد الدستور اللبناني إجراءات انتخاب الرئيس الجديد من قبل مجلس النواب بأعضائه البالغ عددهم 128 عضوًا، حيث نصت المادة 49 على أن انتخاب رئيس الجمهورية يتم بالاقتراع السري بأغلبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى (86 صوتًا من بين 128 نائبًا)، فيما يكتفى بالغالبية المطلقة (65 نائبًا) في دورات الاقتراع التالية.
فراغ السلطة:
أسفرت الجلسة الرابعة التي عقدت في 24 أكتوبر 2022، عن تعذر حصول أي من المرشحين على النسبة الدستورية المقررة، وكان أعلى المرشحين في الحصول على الأصوات، هو النائب ميشيل معوض الذي حصل على 39 صوتًا، فيما صوت 10 نواب لمرشح جديد، هو عصام خليفة، كما صوت 50 نائبًا بورقة بيضاء و13 نائبًا بورقة عليها عبارة "لبنان الجديد"، بالإضافة إلى ورقتين ملغاتين.
وتتنوع الأسباب التي أسهمت في الفراغ الرئاسي بلبنان، ويمكن الإشارة إلى أبرزها في التالي:
(*) جدل دستوري: أدى فشل مجلس النواب في اختيار حكومة جديدة، منذ إجراء الانتخابات النيابية في مايو 2022، إلى تكليف نجيب ميقاتي لتسيير حكومة تصريف الأعمال، وفي سابقة سياسية وقع الرئيس ميشيل عون عند مغادرته لمقر الحكم في قصر بعلبك، على مرسوم استقالة حكومة تصريف الأعمال الحالية، طالبًا من البرلمان الاجتماع للنظر في ذلك، وجاء اجتماع مجلس النواب، 3 نوفمبر 2022، للنظر في رسالة عون وأقر باستمرار حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي وفق الأصول الدستورية، فيما أكد نبيه بري، رئيس المجلس، أنه لن يمر أسبوع إلا وسيكون هناك جلسة لمجلس النواب لاختيار رئيس الجمهورية، غير أن الحكومة الحالية، وفق فقهاء دستوريين تعتبر مستقيلة بحكم الدستور بعد انتخاب برلمان جديد في يونيو 2022، محذرين من الفراغ المركب في رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة معًا، وهو ما سيزيد من تعقيدات المشهد المعقد بالأساس، وهو الأمر الذي أكده رئيس مجلس النواب في 30 أكتوبر 2022، معتبرًا أن الحكومة مستقيلة بموجب المادة 69 من الدستور التي تعدد حالات اعتبار الحكومة مستقيلة، منها انتخابات مجلس النواب، معتبرًا أن هذا الأمر لا يحتاج إلى قرار، مؤكدًا أن عنوان المرحلة المقبلة، يتمثل في انتخاب رئيس جمهورية نظرًا لخطورة الفراغ الرئاسي.
(*) الصراع على تشكيل مرحلة ما بعد عون: يشكل صراع الأجنحة المتنافسة من قبل القوى والتيارات المتنافسة على تشكيل مرحلة ما بعد ميشيل عون، سعيًا لتعزيز نفوذها في الفترة المقبلة أحد العوامل الرئيسية لتأجيل عملية حسم انتقال السلطة من عون إلى خلفه، فهناك ثلاث قوى تعتبر نفسها المؤهلة لشغل المنصب الأعلى في الدولة، هي: القوات اللبنانية المناوئة لـ"حزب الله"، وتيار المردة بزعامة سليمان فرنجية، والتيار الوطني الحر بزعامة جبران باسيل، وزير الخارجية الأسبق وكلاهما حليف للحزب، وهو ما يشكل بالأساس مأزقًا لهذا الأخير في ظل الانقسام الحاد على من يتولى خلافة عون، لا سيما وأن جبران وفرنجية لديهما مطامح للوصول إلى السلطة.
وتقتضي الأعراف الدستورية في لبنان على أن يتولى منصب رئيس الجمهورية، أحد أبناء الطائفة المسيحية المارونية، والتي تعد الطائفة المسيحية الأكبر في لبنان، ويضم البرلمان اللبناني الجديد 34 نائبًا من الطائفة المارونية موزعين على 4 كتل نيابية إلى جانب عدد من المستقلين، حيث تأتي كتلة حزب القوات اللبنانية، الذي يترأسه سمير جعجع، كأكبر كتلة مسيحية، وتضم الكتلة 19 نائبًا، فيما تأتي تاليًا الكتلة النيابية للتيار الوطني الحر، تضم 18 نائبًا، كما تتواجد كتل من بينها كتلة حزب الكتائب اللبنانية برئاسة النائب سامي الجميل (4 نواب)، وكتلة تيار المردة (3 نواب)، الذي يترأسه سليمان فرنجية.
(*) تشرذم قوى التغيير وعدم تماسكها: جاء التمثيل السياسي داخل مجلس النواب لمن يطلق عليهم قوى التغيير أو النواب التغييريون ليشكل أملًا في تجاوز الولاءات التقليدية، لا سيما وأن الحملات الانتخابية لهؤلاء النواب، تبنت شعارات من قبيل لبنان جديد بعيدًا عن المحاصصة والمذهبية والطائفية، واعتقد البعض أن تلك القوى من الممكن أن تشكل موازن انتخابي ترجيحي يسهم في حسم عملية انتقال السلطة، من خلال دعمها لأي من التيارين الرئيسيين سواء المدعوم من تيار حزب الله أو التيار المناوئ له.
فعلى الرغم من دعم التغييريين للمرشح المناوئ لـ"حزب الله"، ميشيل معوض، المدعوم من القوات اللبنانية، وحزب الكتائب والحزب الاشتراكي الديمقراطي، إلا أن عمليات التصويت التي عقدها مجلس النواب، والتي بلغت أربع جلسات متتالية عكست ضعف قوى التغيير وعدم تماسكها بل وتشرذمها وترددها، وبالتالي إخفاقها في أن تكون رقمًا مؤثرًا في معادلة حسم عملية انتقال السلطة، حيث لم يحصل ميشيل معوض في الجلسات الأولى والثالثة والرابعة سوى على 36، 42، و39 صوتًا بالترتيب، فيما ألغيت الجلسة الثانية لعدم اكتمال النصاب القانونى 86 نائبًا.
(*) تجاذبات الخارج: برغم أن اعتبارات الداخل، هي المتغير الأهم في عملية حسم انتقال السلطة، إلا أن لبنان بلد يقوم نظامه على تقاسم الحصص بين المكونات السياسية والطائفية والمذهبية. هي بلاشك لها امتداداتها الإقليمية، في حين يرتبط بمصالح استراتيجية مع القوى الكبرى في مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. ومع الانهيار الاقتصادي الحاد منذ 2019، الذي صنفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم، خسرت معه العملة المحلية نحو 95 في المائة من قيمتها يالسوق السوداء، وبات أكثر من 80 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، وعليه تصبح عملية انتشال لبنان ضرورة على كل القوى المعنية بتفاعلاته حتى يستعيد عافيته بدلًا من أن يصبح محطة جديدة للفوضى في دول الإقليم.
سيناريوهات محتملة:
تتنوع سيناريوهات حسم الفراغ الرئاسي وانتقال السلطة في لبنان، عبر مسارين رئيسيين هما:
(-) السيناريو الأول: استمرار الفراغ الرئاسي، حيث يقوم هذا السيناريو على استمرار أزمة الفراغ الرئاسي لفترة ممتدة، استنادًا إلى السوابق التاريخية التي مر بها لبنان، وربما تكون تلك المحطة أكثر تعقيدًا بحكم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، كما أن عملية نقل السلطة تأتي بعد اندلاع الحراك الشعبي في 17 أكتوبر 2019، وتزايد سقف التوقعات، وكذلك بعد تفجير مرفأ بيروت، مما يعني أن كل حدث من هذه الأحداث الكبرى التي هزت استقرار لبنان، قد ولد تيارًا سياسيًا جديدًا يرغب في تغيير النخبة الحاكمة أو على الأقل معاقبتها.
(-) السيناريو الثاني: التوافق حول انتقال السلطة وإنهاء الفراغ الرئاسي، وهو الأقرب للتحقق، حيث يقوم هذا السيناريو على أن هناك قدرًا من الإنهاك المتبادل بين القوى والتيارات السياسية المتنافسة على مرحلة ما بعد عون، وأن القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشأن اللبناني ترغب في الحفاظ على الاستقرار، والبعد عن توظيف الصراع السياسي على السلطة طائفيًا، حتى لا ينعكس التوظيف الطائفي بشكل مباشر على الشارع، الذي يعانى من اضطرابات اقتصادية ومعيشية حادة. هنا يحدث التوافق داخليًا وخارجيًا، ليصبح المرشح الرئاسي المدعوم من معسكر "حزب الله"، هو الأقرب لشغل المنصب الرئاسي، لا سيما وأن مقاطعة سعد الحريري للانتخابات حرمت السُنّة من التأثير في تفاعلات مشهد انتقال السلطة ودعم التيار المناوئ للحزب.
مجمل القول، إن انتقال السلطة في لبنان يخضع لتوافقات الداخل اللبناني التي تتقاطع مع تجاذبات الخارج من القوى الدولية والإقليمية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيران، وهي الدول التي لم تلق بثقلها بعد في عملية نقل السلطة وإنهاء الفراغ الرئاسي، في ظل وجود تحديات تواجه تلك القوى سواء داخلية مرتبطة بمشكلات اقتصادية مزمنة أو خارجية مرتبطة بتداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية. وفي التوقيت الذي سيتم فيها التوافق بين الداخل والخارج، ستحسم عملية انتقال السلطة لرئيس جديد، ثم تتشكل حكومة جديدة بدلًا من حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، وسيكون لذلك التوافق تأثيره أيضًا على تركيبتها.