بالرغم من أن تركيا تعتبر من أكبر 20 اقتصادًا في العالم، وشهدت نموًا اقتصاديًا سريعًا في السنوات الماضية، بيد أنها تعاني من أزمة اقتصادية كبرى منذ أواخر عام 2021، هذا وفي ذلك الوقت الحرج، داهمها في 6 فبراير الجاري، زلزالاً مدمرًا؛ يعد ثاني أضخم كارثة طبيعية بالبلاد خلال 24 عامًا، والذي ضرب عشرات الولايات جنوب البلاد، وتسبب في مقتل أكثر من 40 ألف شخص ومئات الآلاف من المتضررين.
والجدير بالذكر أنه مازال من المبكر الجزم بحصر دقيق لحجم التداعيات الناجمة عن الزلزال، لا سيما التداعيات الاقتصادية، وسط عدم الانتهاء من حصر الأضرار، ولكن يعكف المحللون والخبراء على محاولة تقدير وقياس تأثيره على اقتصاد تركيا؛ البالغ 819 مليار دولار في نهاية عام 2021، بحسب بيانات البنك الدولي على موقعه الإلكتروني.
وانطلاقاً مما سبق، فإن التحليل التالي سيحاول الإجابة عن تساؤل غاية في الغموض والأهمية؛ مفاده ما هي التداعيات الاقتصادية المحتملة لزلزال تركيا؟
أبعاد متشابكة:
تتزامن محاولة تقدير التداعيات الاقتصادية للزلزال، مع العديد من الأبعاد المتشابكة، التي تتمثل أبرزها فيما يلي:
(*) الوزن الاقتصادي لمناطق الزلزال: على الرغم من اعتبار البعض، أن التداعيات الاقتصادية للزلزال قد تميل لتكون محدودة وقصيرة الأجل، مرجعين ذلك لفقر المناطق المتضررة وضعف أهميتها النسبية اقتصاديًا، مقارنةً بالمراكز الصناعية والتجارية الخمس الكبرى في (إسطنبول وأنقرة وإزمير وبورصة وكوجالي) والتي تمثل نحو 53.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بيد أن المناطق التي حدثت بها الزلازل الأولى في تركيا، تستحوذ على أهمية لا يمكن إغفالها بالاقتصاد التركي، فالولايات التي عانت من الزلزال، تمثل مجتمعة قرابة 9.3% من إجمالي الناتج المحلي لتركيا، و8.5% من إجمالي الصادرات التركية، و6.7% من إجمالي وارداتها، وتسهم بـ14.3% في الناتج الزراعي، و11.2% من الصناعي، و1% من قطاع السياحة، فضلاً عن ذلك فإن الولايات العشر المتضررة من زلزال تركيا تمثل 15% من سكان البلاد؛ أي ما يقارب 13 مليون نسمة.
(*) مؤشرات إيجابية رغم التوقعات السلبية: على الرغم من أن مركز ستراتفور الأمريكي للدراسات الاستراتيجية والأمنية، قد توقع في تقريره السنوي، والذي صدر في 3 يناير 2023، بأن الاقتصاد التركي قد يواجه مخاطر حدوث أزمة كبرى خلال 2023، بيد أن الفترة السابقة لحدوث الزلازل في تركيا، قد شهد الاقتصاد التركي بوادر انتعاش، لا سيما بعد أن أعلن معهد الإحصاء التركي، في 5 فبراير الجاري؛ أي قبل الزلزال بيوم واحد فقط، عن استمرار تراجع معدل التضخم السنوي في تركيا، لشهر يناير الماضي، وذلك للشهر الثالث على التوالي، مسجلاً 57.68%، مقارنة بنحو 64.27% في ديسمبر 2022، و84.39% في نوفمبر 2022، بعدما بلغ الذروة منذ حوالي ربع قرن في شهر أكتوبر 2022 مسجلاً 85.51%.
(*) أكبر مستورد للذهب: كشف مجلس الذهب العالمي في تقرير له في 31 يناير 2023، أن تركيا قد جاءت كأكبر مشترٍ للذهب بين البنوك المركزية العام الماضي، مؤكدًا أن احتياطيات البنك المركزي التركي من الذهب بلغت أعلى مستوى لها على الإطلاق، مسجلةً نحو 542 طنًا، بزيادة 148 طنًا عن العام السابق عليه، كما سارعت الأسر أيضًا لشراء السلعة بغرض الحماية من عدم اليقين الجيوسياسي والتضخم المتفشي، فضلاً عن زيادة الطلب على المجوهرات في تركيا ليقفز 32% على أساس سنوي في الربع الأخير من 2022، فيما كشفت بيانات الجمارك السويسرية، بأن واردات تركيا من الذهب من سويسرا ارتفعت إلى أعلى مستوى لها منذ يناير 2012 على الأقل في يناير 2023، حيث تم شحن أكثر من 58 طنًا من الذهب إلى تركيا، فقد أدى التضخم المرتفع في البلاد إلى زيادة الطلب على المعدن الثمين.
(*) استمرار الزلازل: لم يتوقف الأمر عند زلزالي يوم 6 فبراير الجاري، وعدد الهزات الارتدادية الناجمة عن الزلزالين والتي بلغت 6040 هزة، ولكن لا تزال تركيا تعاني من الزلازل، ففي 20 فبراير، ضرب زلزالان آخران قوتهما 6.4 و5.8 درجة على مقياس ريختر مقاطعة هاتاي جنوب شرق تركيا، ليس هذا وحسب، فقد أفادت صحيفة حريت التركية، في 17 فبراير، بأن الخبراء يتوقعون حدوث زلزال مدمر في مدينة إسطنبول، وأن خسائره ستفوق تلك التي تم تسجيلها جنوب شرقي البلاد، وسيحمل عواقب اقتصادية واجتماعية كارثية لتركيا.
تداعيات اقتصادية داخلية وخارجية:
من المرجح أن تكون التداعيات الاقتصادية للزلزال كارثية، ليس فقط كونه سيؤثر على اقتصاد تركيا وحدها، بل لأن تداعياته قد تمثل تحديًا لبعض قطاعات الاقتصاد العالمي، ويمكن هنا تناول أبرز تلك التداعيات الداخلية والخارجية كما يلي:
أولاً: التداعيات الداخلية:
(&) خسائر مليارية: لا يوجد بيان رسمي حتى الآن يفيد بحجم الخسائر الناجمة عن الزلزال، بيد أن كل التقديرات تفيد بأن قيمة الخسائر لن تقل عن مليارات الدولارات، فقد ذهب اتحاد الشركات والأعمال التركي لتقدير خسائر الزلزال بنحو 84 مليار دولار؛ بما يزيد على 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، مقسمة إلى حوالي 70.8 مليار دولار دمار مبانٍ سكنية، و10.4 مليار دولار أخرى في صورة خسارة في الدخل القومي، فيما قدرها بنك "جيه.بي.مورجان"، لما يصل إلى 2.5% من نمو الناتج المحلي أو 25 مليار دولار، وتقدر شركة Verisk الأمريكية لتحليلات البيانات متعددة الجنسيات وتقييم المخاطر، الخسائر الاقتصادية من الزلازل بما يتجاوز 20 مليار دولار، وتشير التقديرات الأولية إلى أن الخسائر المادية على أثر الزلزال في تركيا تقدر بين 30 و40 مليار دولار، وأن كلفة إعادة إعمار المناطق المتضررة تصل إلى 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما توقع رئيس جمعية الجيوفيزيائيين التركي أفجون إرجان، أن تبلغ الخسائر الناجمة عن الزلزال نحو 50 مليار دولار، مشيرًا إلى أن الخسائر الأولية تقدَّر، حتى الآن، بنحو 35 إلى 50 مليار دولار، كما قالت مؤسسة التصنيف الائتماني الدولية «فيتش» في تقرير لها، إن الخسائر الاقتصادية للزلزال من الممكن أن تصل إلى 4 مليارات دولار أو أكثر.
(&) ضخامة خسائر قطاع التشييد وارتفاع الإنفاق وعجز الموازنة: دمر الزلزال نحو 105 آلاف مبنى، فقد أعلن فؤاد أوكطاي نائب الرئيس التركي إنه تم فحص 830.81 مبنى، وجد أن 105 آلاف منها منهارة تمامًا، وسيتم بناؤها من جديد، فيما قدرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنها نحو 199 ألف مبنى، حيث أكد في 20 فبراير الجاري، أن تركيا ستبدأ في بناء ما يقرب من 200 ألف منزل في وقت مبكر من شهر مارس القادم، الأمر الذي قد ينجم عنه زيادة في فاتورة الإنفاق التركي، فقد توقع اتحاد الشركات والأعمال التركي ارتفاع عجز الموازنة إلى 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023 مقابل التقديرات الرسمية السابقة للزلزال والبالغة 3.5%، هذا وقد تتضاعف تلك التقديرات، فقد أفادت صحيفة حرييت التركية، في 17 فبراير، أن إسطنبول؛ التي يتوقع الخبراء حدوث زلزال بها في المدى القريب، يوجد في نحو 1164000 مبنى و4.5 مليون شقة، كل منها يضم 3.3 شخص في المتوسط. ومع زلزال قوته 7.5 درجة أو أكثر، من المتوقع أن يتضرر 13.492 مبنى بأضرار جسيمة و39.325 مبنى بأضرار شديدة، و136.746 مبنى بأضرار متوسطة، و300.963 مبنى بأضرار طفيفة، فيما بينت الصحيفة أن إسطنبول يوجد بها 255 ألف بناء تم بناؤها قبل عام 1980. وتم بناء 538 ألف منها بين 1980 و2000 وتم بناء 376 ألف مبنى بعد عام 2000".
(&) تفاقم التضخم: تشير بعض التقديرات للأضرار الناجمة عن الزلزال إلى تصاعد مخاطر التضخم في تركيا، فقد سلب تراجع مؤشر "بورصة إسطنبول 100" التحوط الأساسي ضد التضخم؛ إذ كان مستثمرو أسواق الأسهم المحليون يحولون أموالهم لسوق الأسهم لتخطي نمو الأسعار الجامح، فيما قال نيناد دينيك، محلل أسواق الأسهم بمصرف "بنك جيوليوس بير" أن الزلزال سوف يسهم في تضخيم النغمة الهبوطية الكلية للأسهم التركية"، كما ذكر بيوترماتيس، كبير محللي شركة "إن تاتشكابيتالماركتس - In Touch Capital Markets"لا تعد الليرة المقياس الأكثر دقة لثقة السوق نحو تركيا، نظرًا إلى أنها ما زالت مدعومة بتدخلات خفية، وسيتعرض البنك المركزي التركي على الأرجح لضغوط أشد من قبل إدارة أردوغان لتخفيض أسعار الفائدة لتمويل جهود التعافي من الأزمة، فقد أظهر متوسط استطلاع أجرته وكالة رويترز على 17 اقتصادًا أن البنك المركزي سيخفض سعر الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس لتقليل الأثر الاقتصادي للزلزال، فيما أظهر الاستطلاع أن تسعة خبراء اقتصاديين توقعوا خفض سعر الفائدة بما يصل إلى 200 نقطة أساس، بينما توقعت 8 مؤسسات أن يثبت البنك المركزي أسعار الفائدة، هذا وسيعلن البنك المركزي التركي قراره بشأن سعر الفائدة 23 فبراير الجاري.
(&) تخارج الاستثمارات: من المرجح أن يتمخض عن الزلزال تخارج للاستثمارات من تركيا، حيث إن المستثمرين الأجانب يقاطعون البلاد بالفعل؛ بسبب سياسة أردوغان الاقتصادية المخالفة للنهج التقليدي، والتي قضت بخفض معدلات الفائدة بانتظام، ما تسبب بارتفاع حاد في التضخم، ولكن الزلزال قد يسهم في زيادة تخارج الاستثمارات حتى الاستثمارات التركية، والذي ظهرت بوادره في مساعي ممثلي بعض الشركات التركية التي تعمل في مصر، أو التي ترغب في بدء استثمارات جديدة بالسوق المصرية خلال المرحلة المقبلة، من ضخ نحو 500 مليون دولار استثمارات في مصر خلال الفترة المقبلة، وذلك بعد اجتماعهم مع الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري، وبحضور أحمد سمير، وزير التجارة والصناعة، وذلك في العاصمة الإدارية الجديدة في 15 فبراير الجاري.
(&) الصناعة والزراعة: قد تتأثر قطاعات الزراعة والصناعة في تركيا، جراء الزلزال، فقد أكد كاظم تايسي رئيس اتحاد الصادرات الزراعية "إيبير " لوكالة الأناضول الحكومية، أن مصانع ومزارع تركيا في المناطق التي ضربتها الزلازل تواجه نقصًا في العمالة بعد انتقال بعض الموظفين إلى أجزاء أخرى من البلاد بحثًا عن الأمان، فيما ذكر فيسيل يايان، الأمين العام لاتحاد منتجي الصلب الأتراك، أنه من المتوقع أن تظل مصانع الصلب العملاقة في جنوب البلاد مغلقة حتى نهاية فبراير أو منتصف مارس، بما يشير إلى احتمال خسارة تركيا لنحو ثلث طاقتها الإنتاجية من الصلب؛ حيث تُعتبر تركيا واحدة من أكبر 10 دول منتجة ومصدِّرة للصلب في العالم.
ثانياً: التداعيات الخارجية:
(&) التجارة الدولية: يتوقع البعض أن الزلزال قد يؤثر على التجارة مع الدول الأخرى، وبعض الشركات التي تتعامل في الأسواق التركية بالتصدير والاستيراد، لا سيما الشركات الهندية، فقد أشارت بيانات وزارة التجارة والصناعة الهندية، في 16 فبراير 2023، بتعرض الصادرات الهندية إلى تركيا، وهي الوجهة الثانية عشرة الأكبر للشحنات الهندية، لضربة قوية؛ حيث أعاق الزلزال الذي ضرب تركيا الطلب وألحق أضرارًا بالموانئ، فقد شكلت الصادرات الهندية إلى تركيا عند 7.29 مليار دولار خلال الفترة (أبريل-ديسمبر) 2022، بما يعادل 2.2٪ من إجمالي شحنات البضائع في الهند، فيما استوردت الهند بضائع بقيمة 3.23 مليار دولار خلال الفترة (أبريل-ديسمبر) 2022، بما يعادل 0.6٪ من الشحنات الواردة للهند من تركيا، ما يعني أن الهند تتمتع بفائض في تجارة البضائع مع تركيا يبلغ 4.06 مليار دولار، فيما قال حسن الشيخ زيني، نائب رئيس اتحاد الغرف التجارية العراقي، إن هناك آثارًا سلبية كبيرة لزلزال تركيا على الأسواق العراقية، إذ تعتبر مناطق الجنوب التركي التي ضربها الزلزال من أهم المناطق الصناعية والتجارية في تركيا، وهناك الكثير من المنتجات التي ترد إلى العراق تأتي من هذه المناطق، ما أدى لحدوث شح في السلع التركية بالعراق بسبب تداعيات الزلزال.
(&) سوق الذهب: في ضوء استحواذ تركيا على المرتبة الأولى عالميًا من حيث شراء الذهب خلال عام 2022، فمن المرجح أن يؤثر الزلزال على سوق الذهب العالمي، لا سيما وأن تركيا في أعقاب الزلزال قد أعلنت في 14 فبراير 2023، عن تعليق بعض واردات الذهب كجزء من خطة طارئة لتخفيف التداعيات الاقتصادية من الزلزال، فقد انتهت وزارة الخزانة والمالية التركية من وضع اللمسات الأخيرة على اللائحة التي ستفرض وقفًا مؤقتًا في مشتريات الذهب من الخارج.
وختامًا، في ضوء تقديرات بعض الخبراء باستمرار الهزات الارتدادية، والزلازل في تركيا، لفترة تتراوح بين 3 و4 أشهر، مع التوقع بعدم عودة الأمور لطبيعتها قبل 4 سنوات على الأقل، فإنه على الرغم من أن كل الأرقام المتعلقة بالخسائر حتى الوقت الحالي هي أرقام تقديرية، إذ لا توجد حتى الآن أي إحصائيات دقيقة أو رسمية، سيستمر الكثير من الخبراء والمحللين والمؤسسات المحلية والدولية في محاولة تقدير وحصر الخسائر الناجمة عن زلزال تركيا، لا سيما مع احتمالات تأثيراته التي قد تمتد لخارج تركيا، فضلاً عن أنه من المرجح أن تعكف العديد من بيوت الخبرة العالمية خلال الفترة المقبلة على وضع آليات تجاوز الاقتصاد التركي من تداعيات كارثة الزلزال، لا سيما وسط الأزمات القاسية العديدة والمتلاحقة التي واجهها الاقتصاد التركي في فترات قصيرة.