على الرغم من فداحة الخسائر التي يُمكن أن تُسببها الكوارث الطبيعية كالزلازل والأعاصير والبراكين، إلا أننا لا يُمكن أن نغفل الانطباع التضامني بين الأمم والشعوب، وإحساسهم بالعصبة والوحدة تجاه جنسهم البشري، مُتناسين خلافاتهم وتنافساتهم. في هذا السياق، أظهر زلزال شرق المتوسط الأول الذي يُعد أقوى زلزال يضرب المنطقة منذ عقود، حالة كبيرة من التضامن العربي والعالمي تجاه كل من سوريا وتركيا، باعتبارهما من أكثر الدول التي تأثرت بالزلزال المُدمر، والذي شعر به عددٍ من سكان الشرق الأوسط فجر 6 فبراير 2023، وقد وصلت شدته إلى 7.8 درجة على مقياس ريختر، نحاول في هذا التحليل دراسة كيف توحد الكوارث الطبيعية دول العالم، وملامح ذلك من واقع زلزال شرق المتوسط، ودلالاته، وانعكاساته على التعاون والتنسيق الدولي.
مؤشرات التضامن:
رغم حالة عُزلة سوريا، والخلافات السياسية بين تركيا وجيرانها، إلا أن زلزال سوريا وتركيا كان كاشفًا لذوبان هذه التوترات باعتبارها قضايا جانبية وليست جوهرية عند النظر إلى حجم الكارثة الطبيعية؛ حيث بادرت دول العالم بعرض المساعدة بالمناطق المتضررة، وكذلك تقديم التعازي لكلٍ من سوريا وتركيا، وذلك بعيدًا عن المواقف السياسية، ونبرز فيما يلي خريطة التضامن الدولي والعربي تجاه كل من سوريا وتركيا:
(*) مبادأة مصرية لتأكيد روح التضامن والتعاون: سارعت مصر بتقديم تعازيها لسوريا وتركيا؛ حيث عبَّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عن تضامن مصر الكامل مع الشعبين السوري والتركي، عارضًا استعداد بلاده لتقديم المساعدة لتجاوز آثار الزلزال المُدمرة.
في السياق ذاته، قررت مصر إرسال مساعدات إغاثية عاجلة لكل من تركيا وسوريا، إذ قدَّم وزير الخارجية المصري، سامح شكري، العزاء، وأعلن الوقوف مع تركيا وسوريا في مُواجهة آثار الزلزال، وذلك في اتصالين هاتفيين بنظيريه السوري "فيصل المقداد"، والتركي "مولود تشاووش أغلو"، وتأتي هذه المواقف استمرارًا للسياسة المصرية التي تقوم على أسس إعلاء روح التضامن والتعاون بين الدول، وتجاوز الخلافات التي تضر بمصالح الشعوب ومستقبلها.
(*) مساعدات عربية عاجلة: من جانبها، حرصت الدول العربية على إبراز مشاعر المواساة وروح التضامن لكلٍ من سوريا وتركيا. في هذا السياق، بادر رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، بالتواصل مع الرئيسين السوري والتركي؛ لتقديم العزاء، وقد أعلنت أبو ظبي إرسالها لفرق مُتخصصة في البحث والإغاثة ومستشفى ميداني لدعم جهود الإنقاذ في سوريا وتركيا، وأعلنت الخارجية السعودية والأردنية عن تعازيهما لكل من سوريا وتركيا. فيما أرسل سلطان عُمان، السلطان هيثم بن طارق، برقيتي تعزية ومواساة لكل من الرئيس السوري والرئيس التركي، وذلك وفق ما أفادت به وكالة الأنباء العُمانية. وأوردت وكالة الأنباء القطرية قيام أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثان، بالاتصال بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتعزيته في الضحايا، وإعلانه عن جسر جوي لدعم تركيا في تجاوز آثار الزلزال، وكانت قد بدأت كل من الكويت والعراق إرسال جسر جوي إلى كل من سوريا وتركيا؛ لدعم جهود الإغاثة العاجلة التي طلبتها كلتا الدولتين.
(*) عالم دولي متوحد في دعم جهود الإغاثة: رغم الخلافات البينيَّة في العلاقات الدولية هذه الأيام؛ بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية، وتبعاتها الطاقوية والغذائية، إلا أننا نلاحظ ظهور تحولات عالمية لم نعتد عليه؛ إذ أبرز العالم من شرقه وغربه التضامن، وعروض المساعدة للمتضررين في كل من تركيا وسوريا، وكأن العولمة أعلنت من جديد جوانبها الإيجابية والتي ترتكز على الوحدة والمصير المشترك لشعوب الأرض، كما عكسها اتفاق دول العالم على إنشاء صندوق الخسائر والأضرار؛ لمساعدة جهود الدول الفقيرة على التكيف المناخي في قمة المناخ Cop 27) )، التي انعقدت أوائل نوفمبر 2022 بمدينة شرم الشيخ المصرية. في هذا الصدد، قالت الحكومة الهندية إن 100 من أفراد الاستجابة للكوارث، بالإضافة إلى فرق الكلاب المدربة على استعدادٍ للتوجه جوًا إلى المناطق المتضررة، إضافة إلى تجهيزها فرقًا طبية وإمدادات لوجستية. ووفقًا لوكالة رويترز، أعلنت الصين استعدادها تقديم المساعدات الإنسانية العاجلة لكلٍ من تركيا وسوريا. وتواصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيريه السوري والتركي، معلنًا تعازيه وعرضه لتقديم المساعدات العاجلة ضمن جهود الإنقاذ. كانت قد أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وبولندا وبلجيكا وإيطاليا استعدادها لتقديم المساعدات العاجلة للسكان المتضررين في كل من سوريا وتركيا. ودعا الرئيس الأمريكي جو بايدن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومساهمين حكوميين آخرين لتقدير خيارات الاستجابة للمناطق الأكثر تضررًا في كل من سوريا وتركيا.
(*) دعم على مستوى المنظمات الإقليمية والدولية: دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، المجتمع الدولي لتقديم المساعدات العاجلة للدول المتضررة. وقد دعت جامعة الدول العربية أعضاءها إلى تقديم الإغاثة العاجلة والسريعة للمناطق المنكوبة بسوريا جراء الزلزال. تجدر الإشارة إلى أن سوريا تعاني ضعفًا في بنيتها التحتية ومعداتها نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها منذ 2011، وهو ما يعني أن الأوضاع في سوريا تحتاج إلى مزيد من السرعة في المساعدة؛ نتيجة ضعف الإمكانات. من ناحيته، قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، إن فرق الأمم المتحدة حاضرة ميدانيًا في سوريا وتركيا، وتعمل على تقييم الاحتياجات وتقديم المساعدة. من ناحيته، أرسل الاتحاد الأوروبي فرقًا للإنقاذ إلى تركيا، وأعلن حلف الناتو عن مساعدته ودعمه للجهود التركية في الإنقاذ والإغاثة.
(*) تضامن على وسائل التواصل الاجتماعي: تصدرت دعوات إغاثة سوريا وتركيا بسبب الزلزال المُدمر، الترند العالمي على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد أبرز المؤثرون مثل لاعبي كرة القدم والفنانين على مستوى العالم تضامنهم ودعوتهم لمساعدة المنكوبين في كل من سوريا وتركيا، وهو الأمر الذي يؤكد الوحدة والتواصل بين شعوب العالم باختلاف جغرافياتها وألسنتها ودياناتها. في هذا السياق، دعا نجم منتخب مصر ونادي ليفربول الإنجليزي، محمد صلاح، بالشفاء العاجل للمصابين، وتعازيه لأسر الضحايا.
دلالات كاشفة
ثمة دلالات كشفتها دعوات التضامن العربي والدولي مع الدولتين المتضررتين من زلزال شرق المتوسط. يُمكن التطرق إلى أهمها على النحو التالي:
(*) إعلاء التعاون، وتجاوز الخلافات: تُشير حالة التضامن الدولي والعالمي مع تركيا وسوريا في مواجهة آثار الزلزال إلى استمرار الأساسات التي قامت عليها العلاقات الدولية في أعقاب الحرب العالمية الثانية -ولو بشكلٍ غير كافٍ- والتي تُعلي من التضامن وتدعو للحوار لتجنب الحرب، وتفادي سيناريو الرعب الذي يُمكن أن يقود إلى فناء العنصر البشري. ويُدلل على ذلك، عرض رئيس وزراء اليونان، كيرياكوس ميتسوتاكس، إرسال مساعدات عاجلة إلى تركيا، خلال اتصال هاتفي مع "أردوغان"، وذلك رغم الخلافات التاريخية بين البلدين، وكذلك عرض وزير الخارجية السويدي على صفحته الرسمية بتويتر مساعدة تركيا وسوريا في تجاوز آثار الزلزال، وتأتي الخطوة السويدية بعد سيطرة حرب التصريحات على العلاقات السويدية التركية، خلال الأسابيع الماضية، إثر الموقف التركي من انضمام السويد لحلف الناتو وسماح السُلطات السويدية لأحد المتطرفين بحرق نسخة من القرآن الكريم أمام مقر السفارة التركية بستوكهولم.
(*) تلاشي العقوبات: أفرزت الأزمات الإنسانية التي يمر بها المجتمع البشري، سواءً في انتشار كوفيد 19، أو الكوليرا، أو حتى الكوارث الطبيعية، ضرورة لاستثناء العمل الإنساني والإغاثي بجميع لوازمه من مؤن ومعدات وتجهيزات من أية عقوبات دولية، لارتباط هذه البنية بقدرة الدول والجهات على الاستجابة السريعة لإنقاذ أرواح المدنيين، بغض النظر عن تبايناتهم العرقية واللغوية والسياسية. ويفرض ذلك الأمر نفسه على طاولة المجتمع الدولي للعمل على تقديم المساعدات اللازمة للدولة السورية، بعيدًا عن المواقف السياسية المُسبقة بهدف التخفيف من وطأة الأزمة عليها، خاصةً أن بنيتها التحتية وقدرتها على الاستجابة تأثرت سلبًا بفعل العقوبات والحظر الدولي الذي تخضع له منذ 2011.
(*) أهمية التضامن الدولي في أوقات الكوارث: أبرزت حالة زلزال شرق المتوسط في سوريا وتركيا مدى الحاجة إلى العمل الجمعي للتغلب على هذه التحديات، وقد برز هذا النموذج في أزمة كورونا عام 2020. تدعو هذه الأحداث المجتمع الدولي إلى تكريس جهوده لتقوية بنيته المؤسسية والتشريعية لتكون قادرة على الاستجابة مع مسألة الكوارث الطبيعية، وهو ما يساعد في سرعة تجاوز الآثار وتوفير جهد مشترك للتعامل مع هذا النوع من التحديات لارتباطه بالجنس البشري واستمراره في الأرض.
ختامًا؛ فتح زلزال شرق المتوسط وما تلاه من تبعات مفجعة فرصًا جديدة لاستعادة زخم التعاون والتنسيق بين دول العالم بشكل عام، والمنطقة على وجه الخصوص فيما يتعلق بالتعامل مع الكوارث الطبيعية والأوبئة، وهو الأمر الذي يفرض ضرورة مُلحة نحو توفر الإرادة دولية للتعامل مع حالات الطوارئ والكوارث، عبر إنشاء المنظمات الدولية والإقليمية المتخصصة للمساعدة في مثل هذه الأحداث، وكذلك إعادة النظر في القانون الدولي الإنساني؛ للتأكيد على روح التعاون والتنسيق التي يجب أن تسود بين الدول في حالات الأزمات والكوارث.