في السابع من فبراير الجاري، أكد وزير الخارجية والمغتربين السوري، فيصل المقداد لبعض وسائل الإعلام، أن "المساعدات التي كانت تدخل المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين، كانت تباع للناس"، لافتًا إلى أنّ "مخطط بعض الدول الغربية، هو أن تدخل المساعدات إلى المسلحين الإرهابيين فقط"، مضيفًا أنّ "الدولة السورية مستعدّة للسماح بدخول المساعدات لكل المناطق، شرط ألّا تصل إلى الجماعات المسلحة الإرهابية".
وفي الـ11 من فبراير الجاري، نقلت بعض وسائل الإعلام عن متحدث باسم الأمم المتحدة، قوله إنه يتعثر نقل المساعدات إلى الأماكن التي تسيطر عليها هيئة تحرير الشام، التي أكد أحد عناصرها في اليوم نفسه لوكالة "رويترز"، أن "الجماعة لن تسمح بدخول أي شحنات من مناطق تسيطر عليها الحكومة، وأن المساعدات ستصل من تركيا إلى الشمال".
يذكر أن مندوب سوريا السابق، لدى الأمم المتحدة الدكتور بشار الجعفري، أكد في يناير 2016 أن التنظيمات الإرهابية تسرق المساعدات الإنسانية وتستخدم المدنيين دروعًا بشرية في المناطق التي تسيطر عليها، مشيرًا إلى أنه في هذا التوقيت حدثت أزمة إنسانية في بعض المناطق، كان المسئول عنها التنظيمات الإرهابية التي كانت تسطو على قوافل المساعدات الإنسانية التي تقدمها الحكومة السورية والمساعدات التي تقدم بالتعاون مع الأمم المتحدة.
تأسيسًا على ما سبق، وفي ظل التاريخ الأسود لتعامل التنظيمات الإرهابية في سوريا مع الإغاثة الإنسانية، نحاول في هذا التحليل الإجابة عن السؤال التالي: كيف تحد التنظيمات الإرهابية من وصول المساعدات إلى المستفيدين؟
التنظيمات الإرهابية.. تاريخ من سرقة المعونات:
نتناول فيما يلي أبرز السوابق التاريخية التي تشير إلى استغلال المساعدات الإنسانية في تمويل أنشطة التنظيمات الإرهابية:
(*) السطو على مواد الإغاثة في إفريقيا (جنوب الصحراء): كشف تحقيق أجرته شبكة (CNN) الأمريكية أوائل عام 2018 أن حركة الشباب الصومالية تجني ملايين الدولارات كل عام، من خلال استغلال أموال المساعدات الأجنبية التي ترسلها الدول الغربية والأمم المتحدة، والتي ينتهي بها الحال في أيدي الحركة الإرهابية في الصومال. وكانت الحركة تجني هذه الأموال عبر فرض الضرائب وإقامة حواجز الطرق لتحصيل رسوم من التجار الذين ينقلون المواد والإمدادات الإغاثية للنازحين، وهو الأمر الذي دفع منظمات الأمم المتحدة باستبدال الدعم العيني بالدعم النقدي عبر بطاقات، بهدف تخفيف عبء إدارة قوافل الطعام التي تتعرض لهجمات وسرقات من قِبل التنظيمات الإرهابية. وقالت الحكومة النيجيرية في وقتٍ سابق أن نصف المساعدات الإنسانية التي ترسلها إلى السكان النازحين في المناطق الخاضعة لسيطرة "بوكو حرام" لم تصل إلى محتاجيها. ووفقًا لما نقلته رويترز عن مسئول حكومي نيجيري منتصف 2017 فإن 50 شاحنة من كل مئة قد تحريفها عن مسارها، ولم تصل الأماكن المخطط لها.
(*) ممارسات تنظيم داعش الإرهابي: عمد تنظيم داعش الإرهابي في فترات سيطرته على أراضٍ من العراق وسوريا إلى السطو على المساعدات الإنسانية؛ التي تأتي من المنظمات الإغاثية وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، لتوزيعها على الفقراء على أنها من ديوان الزكاة الذي كان قد أنشأه، وذلك بعد وضع شعاره عليها. وأظهرت تقارير كانت قد نشرتها (CNN) في منتصف 2014، اعتماد تنظيم داعش في ميزانيته على اقتطاع جزء من المساعدات الإنسانية لصالحه، وذلك في المناطق التي كانت تخضع لسيطرته.
(*) استخدام أموال المساعدات في قضايا طالبان الخاصّة بأفغانستان: تتهم تقارير غربية حركة طالبان في أفغانستان باستخدامها للمساعدات الخارجية المخصصة للجائعين لدفع رواتب موظفي الدولة، في إطار برنامج "الغذاء مقابل العمل" الذي رفعته حكومة طالبان للتغلب على أزمتها المالية، وذلك على الرغم أن أغلب أطنان القمح التي تستخدم في هذا البرنامج هي عبارة عن منح ومساعدات خارجية.
ويشكو عدد من الأفغان من عدم حصولهم على المساعدات الإغاثية كالقمح من قِبل موظفي الحركة، وطالبوا بالحصول على المساعدات الإنسانية مباشرة دون الحاجة إلى عناصر حركة طالبان كوسيط. وتتخوف الجهات الغربية من إمكانية توجيه طالبان لهذه المساعدات نحو تمويل الإرهاب. ووفقًا لتقرير منشور في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أواخر ديسمبر 2022، فإنه يتم إرسال عشرات الملايين من الدولارات إلى كابول من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين من الأفغان، ويقول التقرير إن الكثير من هذه الأموال لا يصل المحتاجين بل توظفها الحركة في قضاياها الخاصة، لضمان الولاء وتمويل العمليات الخاصة لكبار القادة.
خريطة الإرهاب في مناطق الشمال السوري:
انتشرت في مناطق شمال سوريا العديد من التنظيمات الإرهابية نظرًا لهشاشة البيئة الأمنية في هذه المناطق، وغياب السلطة. في هذا الصدد، تشير التقارير إلى تحول مناطق الشمال السوري إلى مفرخة جديدة للإرهاب لا سيما أن هناك مجموعة من المؤشرات التي تؤكد ذلك الجانب، مثل نمو سياسات تصدير المرتزقة السوريين إلى العديد من بؤر الصراع الإقليمية والدولية، مثل ليبيا وإقليم "ناجورنو قره باغ" المتنازع عليه بين كل من أذربيجان وأرمينيا. ونُذكِر فيما يلي بخريطة التنظيمات الإرهابية المنتشرة في الشمال السوري:
(*) تنظيم داعش الإرهابي: انطلق تنظيم داعش الإرهابي الذي اتخذ من مدينة الرقة السورية عاصمة له قبل إسقاطه من قِبل التحالف الدولي. وعمد التنظيم إلى الاستفادة من زلزال كهرمان مرعش؛ حيث أشارت التقارير إلى هروب 20 محبوسًا من سجن "راجو" الذي يحتضن "جهاديين" معظمهم ينتمي إلى تنظيم داعش الإرهابي في شمال غرب سوريا. ومن المُمكن أن يستغل التنظيم حالة الهشاشة الأمنية وانشغال العالم بالوضع الإنساني في شمال سوريا لاستعادة مراكزه محاولًا في ذلك استغلال المساعدات الإنسانية لشراء الولاءات وتجنيد المريدين، كما فعل عام 2014 باقتطاعه جزء من المساعدات الإنسانية الموجهة لأغراض الإغاثة. ودفع ذلك العديد من الدول والجهات المانحة في تقديم مساعداتها عبر الهلال الأحمر العربي السوري، الذي يقود جهود الإغاثة في المناطق المنكوبة.
(*) هيئة تحرير الشام: تأسست الهيئة بعد اندماج بين جبهة "النصرة" وجبهة "أنصار الدين" و"لواء الحق" و"حركة نور الدين زنكي" في يناير 2017. وتُصنف على قوائم الإرهاب الأمريكية. وتتصل الحركة بعلاقات مع السلطات التركية خاصة منذ عملها على تلميع نفسها كحركة سياسية تكافح في داخل المناطق السورية وليس الخارج، وهو ما يُرجح من احتمالات استفادتها من المساعدات الإغاثية التي تدخل الشمال السوري عبر معبر "باب الهوى" التجاري الذي تشرف عليه، سواءً في توزيعها للمساعدات واكتساب الولاءات أو حتى سرقتها للمساعدات أو لجزء منها لصالح أنشطتها ومجهودها الحربي خاصةً أن الغرب اتهمها في السابق بالتلاعب بالمساعدات الدولية.
جدير بالذكر أن تيارات كبيرة في مناطق الشمال السوري لا تثق في هيئة تحرير الشام لإدارة هذه المساعدات، خاصة أنها تسيطر على جزء كبير من شمال غرب سوريا. وكانت قد حظرت السلطات الأمنية الألمانية في مايو 2021 أنشطة منظمة "أنصار الدولية" الإسلامية غير الحكومية، والتي تأسست عام 2012 بالأراضي الألمانية، واتهمتها وزارة الداخلية الألمانية بجمع التبرعات وإرسالها إلى جبهة النصرة قبل أن تندمج في هيئة تحرير الشام.
(*) حراس الدين: يُعد التنظيم هو أحد أفرع تنظيم القاعدة في سوريا، ينتشر هذا التنظيم في إدلب، وهي منطقة تسيطر عليها حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام الإرهابية، وكان يسيطر قبل عام 2016 مع هيئة تحرير الشام على عددٍ من المعابر مثل باب الهوى مع تركيا والذي تتدفق من خلاله المساعدات الإنسانية لمنكوبي الزلزال، ومعبر أبو الظهور بشرق إدلب مع الحكومة السورية.
يُضاف إلى ذلك العديد من التنظيمات الإرهابية المستفيدة سواءً بشكلٍ مباشر أو غير مباشر من السطو على المساعدات الإنسانية التي ترِد للمدنيين السوريين مثل الحزب التركستاني، وتنظيم أحرار التوحيد، وأنصار الدين، وكتيبة أبو بكر، ونور الدين زنكي، وأحرار الشام.
مؤشرات فاضحة:
أبرزت نتائج دراسة أمريكية أجراها كل من سيونج وان تشوي، وإيدين صالحيان بجامعتي إلينوي في شيكاغو، وشمال تكساس عام 2013، أن ضخ موارد المساعدات الإنسانية يوفر للتنظيمات الإرهابية المسلحة فرصًا للنهب وضمان التمويل؛ إذ إنها تتغذى على هذا النوع من التمويل سواءً في كسب الموارد أو شراء الولاءات والتجنيد. نشير فيما يلي إلى حدود وآفاق سرقة المساعدات ومواد الإغاثة في سوريا، وانعكاسه على الخريطة الإرهابية في مناطق الشمال السوري:
(*) فرصة لاستمرار الحرب: أبرز النموذج الإحصائي الذي اعتمدت عليه نتائج دراسة كل منسيونج وان تشوي، وإيدين صالحيان، أن البلدان التي بها العديد من اللاجئين والنازحين هي الأكثر عرضة للإرهاب، سواءً المحلي أو العابر للحدود، بسبب استغلال التنظيمات للبيئة الأمنية الهشّة لفرض قرارها وسلطتها على أموال المساعدات التي تتحول بطبيعة الحال إلى مصدر مستدام للتمويل، بعكس التمويل الذي قد تقدمه الدول والأجهزة الاستخباراتية والذي يُمكن أن يتأثر ببيئة العلاقات الدولية والتفاهمات بين الحكومات.
(*) اتهامات بالسرقة والتربح: أعلن وزير الخارجية السوري فيصل المقداد استعداد دمشق للسماح بدخول كل المساعدات الإنسانية لكل المناطق في سوريا، بشرط ألا تصل إلى أيدي الجماعات الإرهابية. وأشار إلى أن الجماعات الإرهابية تبيع مواد الإغاثة للناس مقابل النقود. وهو الأمر الذي دفع السوريون وجهات الإغاثة والمانحين الدوليين لا سيَّما الغربيين إلى البحث عن الطرف الذي يُمكن الوثوق به للقيام بالدور الإنساني في مناطق شمال سوريا بحيادية ونزاهة.
(*) جمع الأموال وإتاوات العبور: يُتهم تنظيم هيئة تحرير الشام الإرهابي بتركيز جهوده على الإشراف على المعابر الحدودية المختلفة، بهدف جمع الأموال وإتاوات العبور ، وهو ما برز في المؤتمر الصحفي الذي ظهر به زعيم التنظيم أبو محمد الجولاني في مؤتمر صحفي بإدلب في 8 فبراير 2023، والذي دعا من خلاله إلى تقديم الإغاثة حصرًا عبر معبر باب الهوى الذي تسيطر عليه حكومة الإنقاذ التابعة له، وهو ما جعل الكثيرون يتهمونه بالقفز على الوضع الإنساني لترسيخ سلطته خاصة، في ظل الحديث عن اجتماعات ترعاها موسكو وطهران لتحقيق تقارب بين أنقرة ودمشق.
(*) صراع على المعابر: لطالما كانت المعابر الحدودية مساحة للصراع بين الفصائل السورية المسلحة كونها مصدرًا سهلًا ومستدامًا يُمكنها الاعتماد عليه في اقتصاداتها، كما أن المعابر وسيلة لفتح قنوات تواصل للتنسيق مع العالم الخارجي لكسب الاعتراف الدولي باعتباره مؤشرًا ومظهرًا من مظاهر الشرعية. ويكتسب معبر باب الهوى أهميته كونه من المعابر التجارية التي تعتمد عليها الأمم المتحدة في إيصال مساعداتها لمناطق شمال سوريا، والتي يُقدر عدد سكانها بـ6.5 مليون. وقد كانت في البداية مجموعات مسلحة تتقاسم الريع الذي تدره حركة التجارة والعبور بالمنفذ وذلك قبل أن تُسيطر عليه هيئة تحرير الشام منفردة عام 2016، ويُصبح مصدر دخلها الرئيس من خلال الرسوم الجمركية المفروضة على مواد الإغاثة والمساعدات الدولية إضافة لرسوم عبور الأفراد.
(*) اتهامات بسرقة المساعدات: تتخوف الجهات الدولية المانحة من سيطرة الجماعات الإرهابية على المساعدات الإغاثية وإعادة بيعها للمدنيين أو حتى توجيهها لعائلات الجهاديين والمجهود العسكري، وهو الأمر الذي دفعها إلى توزيع المساعدات عبر كوبونات نقدية يقوم المستفيد بشراء السلع من خلال عدد من التجار المتعاقدين مع الهيئات الدولية، وذلك لضمان وصول هذه المواد لمستحقيها.
في الختام؛ بالإضافة إلى منهجية السرقة التي تتبعها التنظيمات الإرهابية في السيطرة على المساعدات الدولية بمناطق الشمال السوري، تبرز العديد من الاتهامات من خلال رواد مواقع التواصل الاجتماعي السورية لكبار الأعيان ورجال الدين في مناطق الشمال السوري بتوزيع المعونات والمساعدات الدولية بشكلٍ غير منظم؛ إذ رُصدت العديد من الحوادث والحالات التي يتم فيها توزيع المساعدات والمعونات الإغاثية على من لا يستحقها لمجرد أنهم من عائلات هؤلاء الأعيان ورجال الدين.