كشف تقرير رسمي إسرائيلي جديد صادر عن مكتب مراقب الدولة، النقاب عن ثغرةٍ خطيرة تمس جوهر الأمن القومي الإسرائيلي، موضحًا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان من المفترض أن يقود بلاده نحو رؤية أمنية شاملة، أخفق في بلورة مفهومٍ رسمي للأمن القومي، تاركًا بلاده، بحسب التقرير، دون بوصلة استراتيجية واضحة تنظم أولوياتها الدفاعية والسياسية، وفق صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية.
غياب الإطار الرسمي
أشار مراقب الدولة في إسرائيل ماتانياهو إنجلمان إلى أن إسرائيل، ومنذ تأسيسها، لا تمتلك مفهومًا رسميًا وملزمًا للأمن القومي، على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على قيامها، وأوضح أن نتنياهو بادر عامي 2017 و2018 إلى صياغة وثيقة بعنوان "مفهوم الأمن القومي 2030"، تضمنت رؤيته للتهديدات المستقبلية ومبادئ استخدام القوة في العقد القادم، غير أنه لم يستكمل الخطوات الإجرائية لإقرارها رسميًا، ما جعلها تظل بلا صلاحية تنفيذية.
ويشير التقرير إلى أن رؤساء مجلس الأمن القومي المتعاقبين منذ عام 2008 لم يقدموا بدورهم أي مفهوم أمني محدث إلى مجلس الوزراء السياسي والأمني لمناقشته أو اعتماده، وهو ما يعني أن المجلس لم يؤدِ وظيفته كما يقتضي القانون.
أما جذور المفهوم الأمني الإسرائيلي فتعود إلى رؤية ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، التي عُرفت باسم "مثلث الأمن" القائم على الردع، والإنذار الاستخباراتي المبكر، والحسم السريع في ساحة المعركة، ورغم مرور عقود، ظل هذا المفهوم متداولاً كإرث شفهي لا يواكب المتغيرات الحديثة، لا سيما في ظل تعدد الجبهات مع الفلسطينيين وإيران ولبنان، وفق الصحيفة.
وثيقة نتنياهو الغائبة
بحسب التقرير، فإن الوثيقة التي أعدها نتنياهو عام 2018 تضمنت أربع ركائز رئيسية لقوة إسرائيل هي العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، وقد شدد نتنياهو فيها على ضرورة تعزيز الردع، ورفع الإنفاق الدفاعي ليصل إلى نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تحقيق نمو اقتصادي سنوي يتراوح بين 3% و4%، وفي أغسطس من العام نفسه، عرض نتنياهو الوثيقة على المجلس الوزاري السياسي والأمني، لكنها لم تُعرض للمصادقة الرسمية، لا في ذلك الحين ولا في أي وقت لاحق.
وأكد مكتب نتنياهو في رده على تدقيق مراقب الدولة أن الوثيقة لم تعتمد رسميًا، موضحًا أن القانون لا يُلزم رئيس الوزراء بإقرار مثل هذا المفهوم، وأضاف أن المشروع تضمن عناصر سياسية واقتصادية حساسة يصعب تمريرها بالتوافق داخل الحكومة، في ظل انقسام وزرائها حول أولويات الأمن والإنفاق.
ورغم ذلك، أشار المكتب إلى أن نتنياهو قد عرض المفهوم على جهات أمنية مختلفة بين عامي 2019 و2021، وأن مجلس الأمن القومي نقل توجيهاته المستندة إلى هذا المفهوم للأجهزة الأمنية، إلا أن المراقب شدد على أن غياب قرار رسمي يبقي قدرة القيادة السياسية على إدارة المؤسسة العسكرية محدودة، ويجعل كل جهاز أمني يعمل وفق تقديره الخاص.
فوضى مؤسساتية
يرى مراقب الدولة أن غياب مفهوم أمني معتمد أدى إلى تضارب في الصلاحيات بين الجيش الإسرائيلي والموساد والشاباك، وقد خلص التقرير إلى أن الجيش يضع خططه العسكرية وبناء قواته دون توجيه سياسي واضح، مستندًا فقط إلى رؤيته الذاتية للوضع الميداني. وأشار إلى أن الجيش، على سبيل المثال، غيّر نطاق أمر قوة الدبابات عام 2020 دون استشارة مجلس الوزراء، ما يعكس ضعف الرقابة السياسية على قرارات المؤسسة العسكرية.
وأكد مسؤولو الأجهزة الأمنية، الذين تحدثوا إلى المراقب، أن غياب مفهوم منهجي للأمن القومي يُفقد إسرائيل قدرتها على تحديد الأولويات وتوزيع الموارد بفعالية، كما يمنع التنسيق بين المؤسسات الأمنية المختلفة، وأوضح التقرير أن هذا النقص أدى إلى تضارب في التقديرات بشأن طبيعة التهديدات، بما في ذلك تقييم المخاطر القادمة من الجبهة الفلسطينية.
شهادات سياسية
تضمّن التقرير شهادات لعدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين، بينهم رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت، ووزير الدفاع الأسبق أفيجدور ليبرمان، ورئيس الأركان السابق جادي آيزنكوت.
وأكد "بينيت" أن مسألة المفهوم الأمني لم تُناقش خلال السنوات العشر التي قضاها في المجلس الوزاري الأمني، مشيرًا إلى أن "القضية الفلسطينية كانت دومًا أحد العوامل السياسية التي تعيق التوافق حول أي مفهوم شامل".
أما ليبرمان، فقال إن غياب الاستقرار السياسي، وتبدّل وزراء الدفاع باستمرار، جعل من الصعب على المستوى السياسي إدارة الجيش أو تحديد أهدافه، مشيرًا إلى أن "المسؤولين السياسيين يفكرون أولًا في ناخبيهم قبل التفكير في الأمن القومي".
من جانبه، قال آيزنكوت إن غياب الرؤية الوطنية للأمن القومي جعل القيادة السياسية تتنصل من مسؤوليتها التاريخية، مضيفًا أن الجيش يتحرك اليوم وفق اجتهاداته الخاصة في ظل غياب استراتيجية حكومية واضحة.
انهيار الردع
يشير التقرير إلى أن الهجوم الذي شنّته الفصائل الفلسطينية في غزة في 7 أكتوبر 2023 كشف عن انهيار المبادئ الأساسية الثلاثة للأمن الإسرائيلي غير الرسمي وهي الردع، والإنذار، والدفاع، وفي الوقت الذي كانت فيه القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية تؤكد أن الردع ضد حماس راسخ، جاءت الهجمات لتنسف تلك القناعة.
ويستعرض التقرير تصريحات نتنياهو التي قال فيها عقب عملية "حارس الأسوار" عام 2021 إن إسرائيل وجهت "ضربة قاصمة للمنظمات الإرهابية" وأعادت الردع، إلى جانب تصريحات بينيت في 2022 التي تحدث فيها عن "جنوب هادئ ومزدهر"، وتصريحات لابيد وكوخافي التي أكدت أن العمليات العسكرية الأخيرة "أعادت الردع الإسرائيلي".
لكن مراقب الدولة يرى أن تلك القناعة لم تكن سوى وهم سياسي، وأن الأحداث الأخيرة أثبتت هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية بأكملها.
غياب البوصلة
اختتم مراقب الدولة تقريره بالتأكيد على أن غياب مفهوم رسمي وملزم للأمن القومي جعل كل جهاز أمني يعمل بمعزل عن الآخر، ما أدى إلى ضعف التنسيق وتضارب الأولويات، كما اعتبر أن هذا الوضع يعرض إسرائيل لمخاطر استراتيجية، في ظل غياب رؤية سياسية تحدد المصالح العليا للدولة.
وأضاف أن القيادة السياسية، منذ أجيال، فشلت في صياغة رؤية أمنية طويلة الأمد، وأن هذا الفشل بلغ ذروته في السنوات الأخيرة مع تصاعد التهديدات على مختلف الجبهات، خصوصًا في غزة ولبنان، ومع انكشاف حدود الردع الإسرائيلي أمام العالم.