أعلنت جماعة "أنصار الله" اليمنية (الحوثيين)، في منتصف أكتوبر 2025، مقتل رئيس أركان القوات التابعة للجماعة محمد الغماري، والذي يمثل أكبر خسائر الجماعة خلال العامين الماضيين منذ بدء هجماتها على حركة الشحن البحري الدولي واستهداف المصالح الإسرائيلية والغربية "إسنادًا لغزة". ومثَّل الإعلان عن مقتل الغماري متأثرًا بجراحه كشفًا لحساب الجماعة أمام مناصريها خاصة والرأي العام العربي بوجه عام حول حجم التضحيات التي قدمتها في نهاية معركتها لدعم المقاومة الفلسطينية خلال الحرب الإسرائيلية على غزة.
ومع توقف عمليات الحوثيين بالخارج والملاحقات لأفراد ومنتسبي المنظمات الدولية بتهم التجسس واستمرار الخطاب التعبوي، تبرز العديد من التساؤلات حول مستقبل الجماعة وتأثيرها في المشهد العام للانقسام اليمني.
وتأسيسًا على ما سبق: يتناول التحليل التالي تأثير حرب غزة على قوة الحوثيين العسكرية وانعكاسات ذلك على الداخل اليمني.
مؤشرات التراجع
على الرغم من تعايش جماعة الحوثي منذ عام 2004 مع حالة الصراع المستمر مع قوة معادية من الدولة اليمنية في عهد علي عبد الله صالح، وصولًا للانقلاب عليها والسيطرة على العاصمة صنعاء ومحافظات الشمال ومواجهة التحالف العربي الداعم للحكومة الشرعية بقيادة المملكة العربية السعودية، إلا أن حرب غزة وفَّرت غطاءً أيديولوجيًا منسجمًا مع أدبيات وشعار الجماعة عبر مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، إذ بدأت الجماعة هجماتها على الملاحة البحرية في البحر الأحمر واستهداف الأجواء والمصالح الإسرائيلية منذ نوفمبر 2023 وحتى وقف إطلاق النار الثاني في حرب غزة في 19 يناير 2025 واستأنفت مجددًا هجماتها عقب عودة جيش الاحتلال للعدوان على القطاع في مارس 2025، إلى جانب التصعيد مع الجانب الأمريكي الذي شنَّ حملة غارات جوية وبحرية مكثفة استهدفت القدرات العسكرية واللوجيستية للحوثيين منتصف مارس وحتى 6 مايو 2025.
(*) خسائر واختراقات ميدانية: رغم اعترافها المبكر باغتيال رئيس حكومتها -المُسماة بـ"حكومة التغيير والبناء"- أحمد الرهوي و10 وزراء آخرين في القصف الجوي الإسرائيلي الذي استهدف عدد من قادة الجماعة وجناحيها العسكري والحكومي بالعاصمة صنعاء في 28 أغسطس 2025، إلا أن الجماعة ظلت تتكتم على استهداف رئيس أركانها محمد الغماري حتى إعلان مقتله في 16 أكتوبر 2025، متأثرًا بإصابته عقب انتهاء عمليات الجماعة المرتبطة بحرب غزة عقب اتفاق شرم الشيخ.
وأعلنت سلطات الجماعة تعيين اللواء الركن يوسف حسن إسماعيل المداني، قائد ما يسمى "المنطقة العسكرية الخامسة، وصهر زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي، خلفًا للغماري.
ورغم استمرار السيطرة الأمنية الواسعة، إلا أن اغتيال قيادة الجناحين الحكومي والعسكري للجماعة كشفت عن اختراقات أمنية في مناطق سيطرتهم، واتجهت الجماعة لمحاصرة الوجود الأممي واستهدفت أفراد ومسؤولي الوكالات الأممية بشبهة التجسس وجمع معلومات استخباراتية ميدانية.
(*) تداعيات عسكرية وتعبوية: على الرغم من استقرار وجمود خارطة السيطرة بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي واستمرار الخروقات الحوثية على خطوط التماس مع قوات الحكومة الشرعية، إلا أن الضربات الأمريكية والإسرائيلية أثرت بصورة كبيرة على المكوِّن العسكري التابع للجماعة.
وفي الأيام الأخيرة، أعلن الجيش اليمني التابع للحكومة الشرعية انشقاق قيادات وعناصر من القوات التابعة للحوثيين وعلى رأسهم العميد صلاح الصلاحي "قائد اللواء العاشر صمّاد"، وترى قيادات أمنية وعسكرية بالحكومة الشرعية أن الانشقاقات الأخيرة تعكس نجاحها في اختراق أجهزة الأمن الحوثية لتأمين انشقاق المزيد من القيادات التي تتهيأ للعودة إليها، فضلًا عن اختراق منظومة القيادة والسيطرة وكشف معلومات عن الهيكل القيادي والخطط والتكتيكات القتالية للجماعة.
وفي مقابل ذلك التراجع الذي أعقب بصورة خاصة توقف إطلاق الصواريخ والمسيرات تحت غطاء "إسناد غزة"، تمسكت الجماعة بخطابها الموجَّه تجاه إسرائيل كغطاء لمواجهة تلك الانشقاقات ورفع معنويات المكون القبلي لرفد الجماعة بالمزيد من المقاتلين من جهة، وتعزيز الغطاء الأيديولوجي لزعيم الجماعة وقيادتها في مواجهة "الخونة والعملاء وتجديد العهد لله تعالى ولقائد الثورة".
وخلال الأسبوع الحالي، استأنف الحوثيون خطابهم الأممي لحشد التأييد في مواجهة إسرائيل، إذ أشار زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، في كلمة مصورة في 4 نوفمبر 2025 بمناسبة "ذكرى يوم الشهداء"، إن المنطقة "لن تشهد أمنًا أو استقرارًا أو سلامًا طالما بقي الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين واستمرار العدو في تنفيذ مخططاته الصهيونية ضد الأمة"، حسبما أوردته قناة "المسيرة" التابعة للجماعة.
وعلى هامش احتفاء الجماعة بتلك الذكرى، نظمت السلطات المحلية التابعة لها "وقفات مسلحة حاشدة" للقبائل في ثماني مديريات بست محافظات في 3 نوفمبر 2025 لإبداء الاستعداد للدفاع عن مناطق سيطرة الجماعة إلى جانب استمرار حملتها لـ"نصرة للشعب الفلسطيني المظلوم"، كما أعلنت الجماعة عن فعاليات تعبوية ووقفات مسلحة مماثلة في محافظات صنعاء وحجة وذمار وصعدة والمحويت والحديدة والحديدة أكدت على رسائل الاستعداد والجهوزية وتفويض زعيم الجماعة.
وفي كلمته المصورة أمام ما يسمى "المؤتمر القومي العربي" المقام في بيروت 7 نوفمبر 2025، قدم عبدالملك الحوثي إحصاءً لنشاط الجماعة خلال عامي الحرب على غزة، وعلى رأسها تعبئة وتدريب مليون ومائة وثلاثة عشر ألف متدرب (1113000).
(*) تحديات اقتصادية ولوجيستية: مثَّل القصف الإسرائيلي على اليمن تحديًا اقتصاديًا ولوجيستيًا كبيرًا للجماعة، إذ واصل طيران الاحتلال استهداف البنية التحتية الحيوية والمصالح الاقتصادية في مناطق سيطرة الجماعة بهدف تعزيز السخط الاجتماعي تجاه نهج الجماعة.
وخلافًا للقناعة الأولية التي ترسخت بأن هجمات طيران وبحرية الاحتلال الإسرائيلي للمصالح المدنية تعكس غياب معلومات استخباراتية دقيقة عن قيادات الجماعة، أظهر النهج الإسرائيلي في استهداف شمال وغرب اليمن إستراتيجية ذات بعدين، تمثل أولاهما في استهداف الشرايين الاقتصادية واللوجيستية المغذية لسلطة وسيطرة الحوثيين بما في ذلك الموانئ ومنشآت الطاقة ومصانع الأسمنت وغيرها من المرافق المدنية التي قد تستغل لدعم المجهود الحربي، بينما جاء البعد الثاني المتمثل في توجيه ضربة دقيقة استهدفت حكومة وعدد من قيادات ميليشيات الجماعة بعد أكثر من عام ونصف على بدء الهجمات تجاه السفن والمصالح الإسرائيلية.
وتأثرت قدرات تمويل الحوثيين بصورة بالغة في أعقاب جمود الوضع الميداني وتدمير الموانئ، إلى جانب هروب بعض المؤسسات الإنسانية وتراجع مساهمات الدول المانحة عقب حل إدارة ترامب للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فضلًا عن الملاحقات لأفراد وعناصر المنظمات الأممية العاملة في مناطق سيطرة الجماعة، ما أثر في حجم تمويل العمليات الإنسانية في شمال اليمين فضلًا عن تعليق أنشطة بعض الوكالات مثل منظمتي الصحة العالمية و"يونيسيف" في مناطق سيطرة الجماعة والتي تتهم بالسيطرة على المساعدات وتحويلها لخدمة المجهود العسكري.
حدود واتجاهات التأثير
على الرغم من التأثيرات الواضحة على قدرات الحوثيين والتدمير الواسع لمرافق البنية التحتية الاقتصادية في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وخروج بعض الأصوات من بيئة الأعمال رفضًا لتحمل نتائج الحرب، تبدو جماعة الحوثي أقرب الميليشيات الموالية لإيران اتساقًا مع نموذج "الجمهورية الإيرانية"، من خلال الاحتفاظ بثنائية السلطة الدينية الثورية المسؤولة عن بلورة الأيديولوجيا وغرس مفردات الصراع في الأجيال القادمة ويبقى مكانها في الجبال والأماكن المحصنة تحت الأرض، والسلطة الزمنية التنفيذية المسؤولة عن إدارة البعدين الأمني والدفاعي وتسيير شئون الحياة في مناطق سيطرتهم فوق الأرض، ما يمكِّن الجماعة من التكيف مع المتغيرات الميدانية وإعادة توجيه دفة الصراع بما يفيدها أمنيًا واقتصاديًا وإستراتيجيًا.
(&) القدرات التمويلية والتشغيلية: أشار تقرير خبراء الأمم المتحدة بشأن اليمن 2024 إلى أن الحوثيين يجمعون شهريًا 180 مليون دولار من السفن المارة عبر مضيق باب المندب لمنع استهدافها خلال عملياتهم البحرية لـ"إسناد غزة".
ويشكِّل استهداف الموانئ ومرافق البنية التحتية الاقتصادية ضربة قاسية لقدرات الحوثيين على التمويل تحرم الجماعة من جانب رئيسي من القدرات التمويلية التي تبلغ ملايين الدولارات، فضلًا عن تفاقم الحاجة الإنسانية الملحة في عموم اليمن وفي مناطق سيطرة الحوثيين بصفة خاصة التي باتت تواجه شُحًا في حجم المساعدات الإنسانية.
وخلقت تلك الاستهدافات وعمليات تعقب وضبط شحنات الأسلحة المهربة لمناطق سيطرة الحوثيين فضلًا عن إعادة إدراج الولايات المتحدة للجماعة على قوائم الكيانات الإرهابية، مزيدًا من التضييقات على بيئة الأعمال في تلك المناطق وأدت لمظاهر احتجاجية عدة من رجال الأعمال والتجار اليمنيين في شمال البلاد على الضرائب والجبايات الواسعة، حسب محللين ووسائل إعلام محلية ومسؤولين بالحكومة الشرعية في اليمن.
وعلى الرغم من تلك المؤشرات إلا أن الوضع الإنساني المتردي في شمال اليمن يمثل ورقة مساومة رئيسية وسلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة قد يدفع ذلك الوضع لرضوخ المجتمع الدولي كما في سنوات الأزمة السابقة للحوثيين في مقابل إيصال المساعدات لمستحقيها وصرف رواتب موظفي الدولة بما يضمن استمرار جانب رئيسي من تمويل الجماعة وتهدئة البيئة الاجتماعية في مناطق سيطرتها مقابل حرمان مرافق الحكومة الشرعية في الجنوب من تلك الموارد ومنع انتقال المساعدات المخصصة للشمال بريًا انطلاقًا من ميناء. ومن جهة أخرى وفي حال فشل الحوثيين في استيعاب التداعيات الاقتصادية للعقوبات وضبط الحدود قد تلجأ لتصعيد الحرب مجددًا في الداخل اليمني باستهداف مطار عدن وموانئ ومنشآت الطاقة، وصولًا إلى محاولة السيطرة على محافظة مأرب الغنية بموارد الطاقة.
وتكشف العقوبات الأمريكية الأخيرة على جماعة الحوثي اعتمادها على أدوات تمويل غير تقليدية تشمل شبكات تمويل مرتبطة بالحرس الثوري عبر العملات المشفرة وتهريب النفط، كما يكشف تقرير خبراء الأمم المتحدة بشأن اليمن 2025 أن الحوثيين يمتلكون بنى تحتية لتجميع مكونات أنظمة تسليح إيرانية متطورة من صواريخ كروز مضادة للسفن ومسيرات انتحارية، وتتهم دوائر بحثية وحكومية أمريكية الصين وروسيا بدعم قدرات الحوثيين التسليحية وهو ما تظهره العقوبات في أكتوبر 2025 على شركات صينية لتسهيل شراء مكونات وتكنولوجيا أمريكية تدخل في صناعة المسيرات لصالح حركات من بينها الحوثيين.
(&) شبكات التواصل وطرق الإمداد: وعلى صعيد القدرات العسكرية يُظهِر تقريرا خبراء الأمم المتحدة بشأن اليمن 2024 و2025 أن جماعة الحوثي تمتلك تحالفات واسعة مع الفواعل من دون الدولة داخل وخارج اليمن لتأمين إمدادات الأسلحة وتدفق الأموال والتخادم مع تلك الفواعل لمواجهة تهديدات مشتركة مثل تزويد تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" الإرهابي بالمُسيَّرات والصواريخ الحرارية لإضعاف الحكومة الشرعية في اليمن، و"حركة الشباب" الإرهابية في الصومال لضمان استمرار تهريب الأسلحة للداخل اليمني وتدريب المئات من عناصر التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة من دول بالقرن الإفريقي.
وإجمالًا؛ على الرغم من تأثير الهجمات على البنى التحتية المدنية في شمال اليمن ومواجهة خسائر قيادية مؤثرة في صفوفها، لا تزال جماعة الحوثي تمتلك هامشًا للمناورة في الداخل اليمني رغم تغير الظروف الإقليمية والدولية جراء حرب غزة والحرب الإسرائيلية الإيرانية. ويمثل الاعتماد على المقاربة الاقتصادية وحدها في التنبؤ بمستقبل الحوثيين خيارًا محدودًا في ظل توازن الضعف في الداخل اليمني والصعوبات الاقتصادية الواسعة وبلوغ الصراع الإقليمي حالة من الجمود النسبي دون حلول جذرية فضلًا عن امتلاك الجماعة زمام المبادرة عبر المساومة بورقتي المساعدات الإنسانية داخليًا وإعادة تحفيز الصراعات الكامنة إقليميًا على ضفتي جنوب البحر الأحمر. وعلى المدى المتوسط قد يدفع تقليص قبضة الجماعة أمنيًا واقتصاديًا على مناطق سيطرتها بالتوازي مع حصول الحكومة الشرعية على دعم اقتصادي وعسكري دولي من أجل ضمان تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتوفير الخدمات للمواطنين ومواجهة أي خروقات على خط الجبهة، إلى تغيير الوضع باليمن عبر تسوية نهائية تضمن إعادة الوحدة الإقليمية للبلاد.