بالموافقة على الأهداف الواردة في مقدمة ورقة المبعوث الأمريكي لسوريا ولبنان توم بارّاك، دخل لبنان مرحلة حرجة من المفاوضات حول نزع سلاح حزب الله مقابل الانسحاب الإسرائيلي من التلال الخمس، التي لا يزال جيش الاحتلال يسيطر عليها في المواجهة الأخيرة رغم اتفاق 27 نوفمبر 2024، إلا أن الخريطة الزمنية لتلك الخطة، التي تمتد لنهاية العام الجاري تنتظر عرض رؤية الجيش اللبناني، نهاية أغسطس 2025، على ألا يتجاوز ذلك المسار 120 يومًا.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي دوافع وتحديات قرار نزع سلاح حزب الله، وتداعياته المحتملة على لبنان.
محفزات دافعة
تتصاعد الضغوط على لبنان الرسمي لاتخاذ خطوات ملموسة لنزع سلاح حزب الله بالتوازي مع تغير في مواقف التيارات السياسية والمجتمعية نتيجة تغير موازين القوى في الداخل اللبناني، وهو ما يمكن الإشارة إليه في سياق المتغيرات التالية:
(*) معضلة الشرعية: تبدو الحكومة اللبنانية أمام اختبار حقيقي لاستعادة وحدة قرار الدولة في السلم والحرب وهو ما يفرض تباينًا مع أجندة حزب الله في إقرار إستراتيجية دفاعية تعطي غطاءً شرعيًا لاحتفاظه بالسلاح تحت شعار مقاومة الاحتلال ضمن ثلاثية "جيش وشعب ومقاومة"، التي تتعارض كليًا مع سياسة العهد الجديد التي تناولها خطاب القسم للرئيس جوزاف عون.
واستباقًا لزيارة أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، التي بدأت أمس الأربعاء، إلى بيروت لضبط سقف التصعيد وتأكيد رفض طهران لنزع السلاح، اختار حزب الله التمسك بسلاحه واستخدام الآليات الاحتجاجية الشعبية والتعطيلية عبر انسحاب وزراء الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) من اجتماع مجلس الوزراء، الذي أقر أهداف ورقة المبعوث الأمريكي توم بارّاك، مُلوحًا بغياب الميثاقية عن قرار نزع السلاح وإبراز رفض الطائفة الشيعية سياسيًا وشعبيًا لتلك الخطوة بالتزامن مع التصعيد بوجه حكومة نواف سلام.
على أن تلك العملية تأتي في إطار ضوابط رئيسية تتمثل في حرص الحزب على عدم التصادم مع الدولة والجيش اللبنانيين والحفاظ على رمزية الرئيس جوزاف عون بصفته القائد السابق للجيش ورمز التوافق الوطني الذي ماطل الحزب وشريكته حركة أمل في اختياره. وفي الوقت ذاته يمثل الحفاظ على سلاح الحزب في تلك المرحلة أولوية سياسية لاستمرار حضوره في الساحة السياسية كفاعل رئيسي وإن تضررت هيمنته نسبيًا على المشهد السياسي بفقدان الكثير من عوامل قوته الخارجية وبالتالي قد يُبدي مرونة أكبر في تسليم سلاحه الإستراتيجي إذا ما احتفظ بقدر من حرية الحركة شمال نهر الليطاني. كما أن قيادة الحزب الحالية تتسم بقدر من الواقعية السياسية التي تقتضي الحفاظ على الحزب والالتصاق بالغطاء الطائفي الذي يحد في الوقت الراهن من هامش مناورة الحزب، نظرًا للأضرار الكبيرة الواقعة على حاضنته الشعبية من المكون الشيعي إلى جانب المكون المسيحي بالجنوب اللبناني، وبالتالي فإن مهمة القيادة الحالية في الوقت الراهن منع الانجرار في صراع إقليمي.
وسياسيًا بات سلاح حزب الله في مرمى انتقادات حلفاء سابقين مثلوا ظهيرًا توافقيًا لقرار الحزب منذ التصعيد الأخير مع إسرائيل، الذي شهد نهاية عهد حسن نصر الله الأمين العام ذو الشخصية الكاريزمية التي كانت تتحكم في المحور الموالي لإيران من العراق إلى اليمن، إذ أشار جبران باسيل رئيس التيار الوطني الحر الحليف المسيحي لحزب الله، منذ 2006، إلى أن الوظيفة "الردعية" للسلاح انتهت بفعل القرار الأحادي للحزب بالمشاركة في حرب "إسناد غزة"، منتقدًا "الابتزاز والتهديد بحرب أهلية".
وعلى الجانب الآخر يحرص الرئيس جوزاف عون على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الثنائي الشيعي للحفاظ على التوافق الوطني وتحييد ورقة الميثاقية التي تهدد بتعطيل المشهد السياسي وتقوده إلى حالة الفراغ لما قبل يناير 2025، لكن ذلك الموقف لا يرتبط فقط برغبة داخلية في إطار سياسة وحدة السلاح وإنما يأتي مدفوعًا أيضًا بتغير المعادلة الأمنية على حدود لبنان مع كل من سوريا وإسرائيل وتهديد للأخيرة باستئناف حملة جديدة من التصعيد أكثر عنفًا تستهدف البنية التحتية المدنية في لبنان بما قد تخلط الكثير من الأوراق بالمشهد اللبناني باتجاه عرقلة إعادة الإعمار وتعميق ظاهرة النزوح الداخلي. ولعل المثال البارز على جدية الجهود اللبناني لنزع السلاح محاولة تقليص أي نفوذ لأي فصيل داخل الجيش بإعلان وسائل إعلام محلية، 11 أغسطس، إقالة رئيس مخابرات الجيش بالضاحية الجنوبية العميد ماهر رعد، نظرًا لصلته المحتملة بحزب الله وما تربطه من صلة قرابة برئيس الكتلة النيابية للحزب "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد.
(*) استحقاقات إقليمية: قبيل طرح المبعوث الأمريكي توم بارّاك ورقته بشأن نزح السلاح، تضمنت التسريبات الإعلامية لخطة إدارة ترامب لحل أزمات الحدود بين سوريا ولبنان وإسرائيل رؤية أشمل بتقديم ملف التطبيع بين لبنان وإسرائيل على الطاولة، وهو ما كان من غير المحتمل القبول به لبنانيًا في الوقت الراهن يظل وجود حزب الله، باعتباره تغييرًا جذريًا لعلاقات لبنان الخارجية عمومًا وتجاه إيران على وجه الخصوص. وشملت الاستحقاقات التي وافق عليها لبنان من حيث المبدأ في إطار أهداف ورقة بارّاك ترسيم الحدود مع سوريا والدخول في مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل لترسيم الحدود البرية، مع وجود ضمانات أمريكية وفرنسية بانسحاب إسرائيل من المواقع، التي تحتلها على الحدود اللبنانية ودعم الجيش اللبناني بنحو مليار دولار سنويًا لمدة 10 سنوات.
ويعد ملف إعادة الإعمار في المناطق المتضررة من جنوب لبنان على رأس الملفات الحاسمة وأوراق الضغط لدفع الحزب لتسليم سلاحه والانخراط في السياسة اللبنانية كحزب سياسي طبيعي، إلا أن طبيعة المرحلة الحالية تربط الدعم المالي للسلطات اللبنانية بتنفيذ الإصلاحات المالية والسياسية لضمان ألا تمثل نفقات إعادة إعمار الجنوب داعمًا لترميم قدرات الحزب، من خلال تعزيز سيادة الدولة على مرافقها الحيوية ممثلة في مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري إلى جانب بذل الجيش اللبناني المزيد من جهود حصر السلاح في يده والقوى الأمنية.
(*) ضغوط أمريكية وإسرائيلية: تعزز الولايات المتحدة وإسرائيل ضغوطهما على الجانب اللبناني في الجنوب من خلال التلويح بمنع التمديد لقوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان "اليونيفيل"، فبينما أشارت وسائل إعلام ومؤسسات بحثية عبرية إلى إعطاء الجانب اللبناني مهلة حتى نهاية العام الجاري، لتسليم سلاح الحزب مقابل الانسحاب التدريجي من التلال الخمس، ذكرت صحيفة جيروزاليم بوست، أن واشنطن وتل أبيب تسعيان خلال جلسة محتملة لمجلس الأمن، أواخر أغسطس الجاري، لعرقلة التمديد التلقائي للقوة الأممية أو إجراء مراجعة وتقييم لحدود نجاح تلك القوة في أداء مهامها بالجنوب اللبناني وتوسيع صلاحياتها في تفكيك وتدمير مواقع حزب الله في الجنوب. ويتقاطع ذلك مع المهلة التي أعطاها مجلس الوزراء للجيش اللبناني من أجل إعداد خطة متكاملة لنزع السلاح.
عقبات متباينة
تفرض تلك المتغيرات على الحزب العديد من الضغوط في سياق نزع السلاح، إلا أن اتخاذ ذلك القرار طوعيًا يرتبط بالعديد من التحديات داخليًا وخارجيًا، يمكن الإشارة إليها في سياق التصعيد الإقليمي الراهن:
(&) عقبات أمنية: يأتي في مقدمة التحديات ارتباط عملية نزع السلاح بالداخل اللبناني شمال نهر الليطاني داخل الحواضر المدنية خاصة في مناطق نفوذ حزب الله على غرار الضاحية الجنوبية، ما قد يدفع لاحتكاكات بين الجيش وعناصر ومناصري الحزب، إلا أن الدولة تبدو عازمة على تنفيذ القرار لمواجهة التهديدات الواضحة بتدمير البنية التحتية المدنية والمرافق الحيوية في أرجاء البلاد.
(&) ضمانات سياسية: لا تبدو المواجهة صفرية بين الثنائي الشيعي من جهة ورئيسي الجمهورية والحكومة من جهة أخرى، إلا أن تحركات حزب الله تشي بأن أوراق المواجهة شديدة التباين بين تصعيد غير محسوب بوجه الدولة ودون ظهير سياسي أو خارجي، أو التلويح بإسقاط الحكومة وإسقاط ورقة التوافق الوطني بانسحاب الوزراء الشيعة. وفي كلتا الحالتين يبدو أن الحزب يبقى محصورًا في موقف رد الفعل ولا يملك خيارًا واضحًا سوى المراوحة بين دعم مؤسسات الدولة والإبقاء على نافذة شرعية لحمل السلاح.
وربما يبحث حزب الله عن مخرج ملائم من المأزق الراهن بوصفه ممثلًا لمصالح الطائفة الشيعية قبل أي اعتبار آخر، بما يحقق استمرار بقائه في الحكومة وضمان إعادة الإعمار لمناطق الجنوب، نظرًا للكُلفة الباهظة لعودة الصراع مجددًا، ففي ظل اتفاق وقف إطلاق النار لا يزال طيران الاحتلال يفرض طوقًا ناريًا على القرى والبلدات الحدودية لمنع عودة سكان الجنوب وإعاقة جهود عودة الاستقرار في تلك المناطق؛ وتشير ورقة للمنظمة الدولية للهجرة صادرة 30 يوليو 2025، إلى أن الحرب تسببت في تدمير نحو 100 ألف وحدة سكنية تقدر قيمة إعادة إعمارها 3.2 مليار دولار، بينما تجاوز عدد النازحين جراء الحرب مليون مواطن، وبحلول 2 أبريل الماضي، عاد نحو 960 ألفًا إلى مناطقهم وأقاموا منازل مؤقتة فوق أنقاض بيوتهم بينما لا يزال 92 ألف مواطن يعانون نزوحًا داخليًا.
(&) الدور الإيراني: يمثل الدور الإيراني عاملًا رئيسيًا في ضبط إيقاع التصعيد، وعلى الرغم من استعراض دعم مناصري حزب الله خلال استقبال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني ببيروت، إلا أن طهران في مواجهة استحقاق رئيسي بنهاية أغسطس الجاري، يتمثل في التوصل إلى تفاهم مع الولايات المتحدة وتجنب عودة الأوروبيين للعقوبات الدولية بموجب آلية الزناد. ومع تلك المحاذير تتمثل المصلحة الأبرز في لبنان بمنع الانزلاق إلى سيناريو الحرب الأهلية وإيجاد مسوغات للإبقاء على سلاح الحزب أو تفكيكه وفق مخطط زمني طويل يرتبط بالانسحاب الإسرائيلي، إلا أن الأفق الزمني والضغوط الإقليمية والدولية تتجاوز المراوحة الإيرانية لدفعها إلى إنجاز استحقاقات رئيسية على صعيد التفاوض النووي والحفاظ على الأذرع الخارجية ضمن بيئة اجتماعية وسياسية لم تعد حاضنة للنفوذ الإيراني، ما قد يدفعها حال فشل المسار الدبلوماسي لتحريك مختلف الجبهات للمرة الأخيرة بصورة متزامنة.
وإجمالًا؛ تمثل المرحلة الراهنة مفصلية في مصير الجمهورية اللبنانية، التي تسعى لاستعادة هيبتها وتأكيد وحدة قرار السلم والحرب وفق ما تناوله خطاب القسم للرئيس جوزاف عون، يناير الماضي، وبينما لم تنجح محاولات نزع السلاح في سياق الحوار مع حزب الله اتجهت بيروت لانتزاع ورقة الميثاقية لمنع تعطيل الإصلاحات المالية والسياسية والأمنية الضرورية لاستعادة ثقة المجتمع الدولي والشروع في إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب. ومن غير المرجح أن ينخرط حزب الله في مواجهة مفتوحة مع الداخل في تلك المرحلة، وربما يستخدم أوراق ضغطه السياسي عبر التلويح بالانسحاب من الحكومة لنزع شرعية تمثيل مختلف الطوائف اللبنانية، إلا أنه مُعرض لفقدان تلك الورقة في ظل الضغوط السياسية والأمنية المتزايدة، التي ستفقده المكتسبات التي حققها على مدار 20 عامًا بدخول الحكومة.