بعد عقد مؤتمره الثاني عشر التاريخي في الفترة من 7 إلى 9 مايو 2025، أعلن حزب العمال الكردستاني في 12 مايو الجاري حل هيكله التنظيمي وإلقاء سلاحه، استجابة لدعوة زعيم الحزب عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، في إطار مبادرة الائتلاف الحاكم "تركيا خالية من الإرهاب" لحل الحزب وإنهاء حقبة الصراع المسلح مقابل تعزيز انخراط الأكراد في الحياة السياسية ودعم حقوقهم الثقافية والسياسية دستوريًا.
ويمثل مصير قادة وعناصر الحزب والكيانات التي تدين بالولاء لعقيدة "العمال" وزعامة عبد الله أوجلان تحديًا رئيسيًا في جهود نزع سلاح الحزب وإعادة دمج تلك العناصر، فضلًا عن مخاطر الانشقاقات في صفوف الحزب من جهة وحالة التوتر في سوريا المجاورة بين الحكومة المركزية و"قوات سوريا الديمقراطية" ومكونها الرئيس حزب الاتحاد الديمقراطي.
وتأسيسًا على ما سبق؛ يتناول التحليل التالي تحديات عملية نزع السلاح ومصير مقاتلي الحزب بعد تسوية الصراع.
أبعاد متداخلة
في استجابة سريعة نسبيًا لدعوة زعيمه المؤسس، أعلن حزب العمال مطلع مارس الماضي وقفًا لإطلاق النار مع الدولة التركية، وبعد جهود مكثفة لوفد حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب بين سجن آمرلي وقيادة حزب العمال في إقليم كردستان العراق ولقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكد "العمال" في 12 مارس حل الهيكل القيادي وإنهاء "الكفاح المسلح"، في خطوة تمهيدية لاستكمال مسيرة السلام من جانب أنقرة؛ حيث طالب متحدث باسم الحزب الحكومة التركية بتخفيف القيود على عبد الله أوجلان باعتباره المفاوض الرئيسي.
(*) البعد الهيكلي والأيديولوجي: تشير تقديرات غربية إلى أن قاعدة حزب العمال تبلغ نحو 60 ألف شخص تشمل الكادر التنظيمي والمؤيدين والمتعاطفين مع الحزب، بينما لا يتجاوز عدد مقاتليه 5 آلاف مقاتل في شمال العراق. وتكمن تعقيدات عملية السلام في رؤية أنقرة لعملية حل الحزب والتي تشمل كافة فروعه الإقليمية المنتمية لنهج عبد الله أوجلان وتعتبره زعيمًا لها وعلى رأسها وحدات حماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا والذي يضم مئات المقاتلين (الأكراد) غير السوريين، إلى جانب حزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني "بيجاك" المتواجد في جبال قنديل ويبلغ قوامه بين 800 إلى 1200 مقاتل من سوريا وإيران وتركيا والعراق.
وفي المقابل يرتبط حل القضية في رؤية حزب العمال بإعادة الدمج وتعزيز حقوق الأكراد في تركيا، وترفض ربطها بأفرع الحزب في العراق وسوريا، حيث اعتبرت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" أن الدعوة لا تتضمن عناصرها، كما رفض الرئيس المشارك لحزب الحياة الحرة أمير كريمي في 20 مايو الجاري إلقاء سلاحه معتبرًا أن حل "العمال" قرار حزبي لا يعنيهم، مؤكدًا التزامهم بمبدأ "الدفاع المشروع عن النفس".
(*) حسابات جيوسياسية: تخضع عملية نزع سلاح أعضاء حزب العمال الكردستاني لاعتبارات عديدة في ظل تمركز قيادة الحزب في جبال قنديل بشمال شرق إقليم كردستان العراق، مما عزز من دور الحزب كفاعل ثانوي في الصراع بإقليم كردستان خاصة وتعارض المصالح التركية الإيرانية في العراق بوجه عام، خاصة مع تمدد نفوذه إلى سنجار بالتعاون مع الفصائل الموالية لإيران ودخوله على خط تقاسم النفوذ في شمال العراق في خضم المواجهات مع تنظيم "داعش" الإرهابي.
ويمثل التعاون مع الحزب الديمقراطي الكردستاني حجر الزاوية في جهود أنقرة لتقويض حزب العمال الكردستاني وإبعاد بنيته التحتية عن الحدود التركية؛ خاصة بعد الموجة الأخيرة من المواجهات في جنوب شرق البلاد التي أعقبت انهيار محادثات السلام في 2015 وخلفت نحو 7 آلاف قتيل. وينتشر الجيش التركي في نحو 200 موقع في مناطق نفوذ الحزب في إقليم كردستان.
وعلى الجانب الآخر من الحدود الجنوبية، يمثل تعثر إدماج قوات سوريا الديمقراطية في بنية السلطة الجديدة وانصهار قواها المسلحة تحت إدارة وزارة الدفاع السورية تحديًا ومكملًا رئيسيًا لعملية السلام التركي الكردي؛ إذ شدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال لقائه نظيره السوري أحمد الشرع في 24 مايو 2025 على ضرورة الحفاظ على مركزية الدولة والسلاح في سوريا، وهو ما يعني رفض ما جاء به مؤتمر وحدة الصف الكردي في 26 أبريل 2025 والذي دعا لبناء دولة لا مركزية في سوريا يحتفظ فيها الأكراد بالحكم الذاتي شرقي البلاد. وقد مكنت الشراكة بين أنقرة وأربيل من دخول الحزب الديمقراطي طرفًا فاعلًا في جهود الوساطة بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية الجديدة، ونقل الرسائل بين قسد الدولة التركية، وهو ما يمهد لدور أعمق لأربيل في ترتيبات إحلال السلام وتسوية القضية بالتنسيق مع بغداد وأنقرة.
(*) البعد السياسي الداخلي: تمثل الدعوة للسلام من قبل الشريك القومي في تحالف الشعب الحاكم خطوة هامة في تحصين تلك العملية داخليًا من هجوم التيارات القومية المتشددة في إطار الإصلاحات المخططة دستوريًا بالتعاون مع حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب المؤيد للأكراد، بينما تحد على الجانب الآخر من مطالبات حزب العمال على صعيد تخفيف ظروف الحبس الانفرادي عن زعيم الحزب عبد الله أوجلان وإعادة دمج عناصره في المجتمع؛ نظرًا لكونه كيانًا إرهابيًا جرى التفاوض معه عبر حزب الديمقراطية الوسيط الرئيسي في تلك العملية.
حلول متعددة
تمتد كلفة الإرث التاريخي للصراع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني لما هو أبعد من النتائج المباشرة التي أودت بحياة 40 ألف شخص على مدار 4 عقود، وبالتالي فإن قدرة الدولة التركية بمختلف تياراتها على احتواء المكون الكردي وفصله عن الحالة الكردية في دول الجوار ترتبط باستحقاقات سياسية داخلية إلى جانب قدرتها على معالجة ملف عناصر ومقاتلي الحزب. ويمكن تحديد مصير مقاتلي حزب العمال في سياق الإجراءات التالية:
(&) اللجوء: ويتمثل في إعطاء حق اللجوء إلى دول ثالثة بعيدة عن الوجود الكردي، وهو ما يتناسب مع حالة القيادة العليا للحزب والمكونة من نحو 300 قيادي، ومعهم تطوي أنقرة ذكرى المواجهة المسلحة التي ترسخت في وجدان جيل كامل من المواطنين الأكراد والأتراك.
(&) الدمج في المجتمعات المحلية: يتعلق ذلك الإجراء بتقنين أوضاع مقاتلي حزب العمال الكردستاني بعد نزع سلاحهم، عبر دمجهم في الاقتصاد المحلي والحصول على وظائف، أو انضمام بعض المقاتلين في قوات البيشمركة بإقليم كردستان العراق، فضلًا عن الاستفادة من خبرات البعض منهم في تفكيك حقول الألغام التي تغطي نحو 40% من مساحة إقليم كردستان وبصفة خاصة في محافظة إربيل.
(&) المساءلة وإعادة الدمج: وترتبط بعناصر الحزب الذين لم يرتكبوا جرائم على الأراضي التركية، وتشمل الإجراءات المقترحة؛ المساءلة وتطبيق عقوبات مخففة على المدانين، إلى جانب إعادة المدنيين الذين نزحوا إلى الأراضي العراقية في تسعينات القرن الماضي في مخيم "مخمور" وتقدر أعدادهم بنحو 12 ألف نسمة في إطار المصالحة الوطنية الشاملة.
وإجمالًا؛ تنطوي عملية السلام المأمولة بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني على العديد من عوامل النجاح في سياق التطورات في الداخل التركي وبمنطقة الشرق الأوسط، وهو ما سينعكس إيجابًا على أمن العراق وتركيا ودول الجوار الأخرى، إلا أن تباين الرؤى حول حدود تلك العملية ونطاقها الجغرافي والتوترات الجيوسياسية المحيطة بالملف الكردي خاصة في سوريا قد تضفي تعقيدًا إضافيًا على تلك القضية. ويرتبط نجاح فرص نزع سلاح حزب العمال الكردستاني باتفاق شامل يراعي التدرج في إجراءات التسريح وإعادة الدمج إلى جانب تعزيز التنسيق بين العراق وتركيا وإقليم كردستان.